دراسات إسلامية

بقلم:  أ. د. علي علي صبح (*)

يهذب الإسلام الطفل منذ مراحله المبكرة بأدب سامٍ، يوقظ فيه كل حين الفطرة المستقيمة، و الخليقة الخالصة النقية، التي تفضل بها الله عز وجل على خلقه في إبداعاته، حين يتلو أو يسمع قوله تعالى: ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [الروم:30] ، فيسلك المنهج القويم ﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى، الَّذِي خَلَقَ فَسَوّٰى، وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدٰى﴾ [الأعلى: 1-3] ، ويميز بين الطيب والخبيث والهدى والفجور ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوّٰهَا، فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوٰهَا، قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكّٰهَا، وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسّٰهَا﴾ [الشمس:7-10] ، لتختار من النجدين طريق الخير لا طريق الشر ﴿أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ، وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ، وَهَدَيْنٰهُ النَّجْدَيْنِ﴾ [البلد:8-10] فأقرت النفس البشرية بذلك إيمانا بربها وخالقها ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِيٓ آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلٰى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيٰمَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غٰفِلِينَ﴾ [الأعراف:172] ، لذلك حث القرآن الكريم في أدبه المعجز العباد على الطريق المستقيم والهدى، والوقاية من الضلال والعذاب ﴿يٰأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوآ أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ﴾ [التحريم:6] ، كما حث النبي –صلى الله عليه وسلم- في أدب بليغ يتردد صداه في جوانب النفس وحنايا الوجدان: «كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه».(أخرجه البخاري 1/410).

       ورغب في مخالطة الأخيار، ونهى عن مجالسة الأشرار «المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل» رواه أبو داود والترمذي والحاكم، وقال أيضا: «إنما مثل الجليس الصالح والجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير، فحامل المسك: إما أن يحذيك، وإما أن تبتاع منه وإما أن تجد منه ريحا طيبة، ونافخ الكير: إما أن يحرق ثيابك، وإما أن تجد منه ريحا خبيثة» (رواه مسلم 4/2026).

       وقال أيضا: «لا تصاحب إلا مؤمنا ولا تأكل إلا مع تقي» رواه أبو داود (في 5/167)، والترمذي (برقم 2397)، لذلك قال تعالى: ﴿وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطٰنُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا﴾ [النساء:27]، ﴿وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوٰﯨﻪُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا﴾ [الكهف:28]، ﴿فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَوٰةَ الدُّنْيَا﴾ [النجم:29] ، ﴿وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يٰلَيْتَنِيْ اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلا، يٰوَيْلَتٰى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا، لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطٰنُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا﴾ [الفرقان:27-29].

       ويقول علي بن أبي طالب- رضي الله عنه-:

       فلا تصاحب أخا الجهل … وإياك وإياه

       فكم من جاهل أردى … حليما حين آخاه

       يقاسي المرء بالمرء … إذا ما المرء ماشاه

       وللشيء من الشيء … مقاييس وأشباه

       وللقلب على القلب … دليل حين يلقاه(1)

أدب الرحمة بالطفل عبادة وسلوك تربوي:

       إذا عاش الطفل في أسرة تفيض بالحب والرحمة، وفي مجتمع يلفه بالشفقة والعطف والحنان، ينشأ متأدبا بآداب الرحمة متذوقا لأساليب الحب والجمال والخير والحق، فيشب الطفل عاشقا للرحمة والمحبة متخذا صورها الجميلة في قوله ومنهجه وسلوكه؛ لأن أدب الإسلام في جميع صوره حث عليها منذ الصغر على أنها عبادة وطاعة، ومنهج وسلوك، فقد صور القرآن الكريم الرحمة بما يعجز عنه البشر، فلم تخل سورة من تصوير قرآني لها تهتز لها العاطفة، وتبعث فيها الحرارة والصدق والدفء، وتغمر الوجدان فتحييه بالإيمان والإخلاص، والحب والمودة، فأصبح مفتاح كل سورة ﴿بِسْمِ اللهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيْمِ﴾، لأن الله عز وجل ﴿كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ﴾ [الأنعام:133] ، ورحمته وسعت كل شيء ﴿فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ﴾ [الأنعام:147]، وجعل آية الزواج وثمرتها العجيبة المودة والرحمة في السكن والولد ﴿وَمِنْ اٰيٰتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً﴾ [الروم:21] .

       وفي الحديث الشريف يخبر النبي –صلى الله عليه وسلم- عن رب العزة: «لما خلق الرحم قال تعالى: أنا الرحمن وأنت الرحم شققت اسمك من اسمي، فمن وصلك وصلته، ومن قطعك قطعته»(2)، وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي-صلى الله عليه وسلم- قال: «إن الله خلق الخلق حتى إذا فرغ من خلقه قالت الرحم: هذا مقام العائذ بك من القطيعة؟ قال: نعم، أما ترضين أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك؟ قالت: بلى يا رب، قال: فهو لك»، قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: «فاقرؤوا إن شئتم» ﴿فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ﴾ أخرجه البخاري 10/532، وقد حثت الأحاديث الشريفة على الرحمة بالبنين والبنات وتأديبهم بآدابها البليغة وصورها الأدبية الجميلة، التي تفتح لها منافذ الإدارك في النفس، وفي رواية أبي سعيد الخدري قال رسول الله-صلى الله عليه وسلم-: «من عال ثلاث بنات فأدبهن ورحمهن وأحسن إليهن فله الجنة» رواه الإمام أحمد 3/98 وفي رواية جابر بن عبد الله قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: «من كان له ثلاث بنات يؤدبهن ويكفيهن ويرحمهن فقد وجبت له الجنة البتة» فقال رجل من القوم: وثنتين يا رسول الله؟ قال: «وثنتين» رواه البخاري في الأدب المفرد، وفي رواية أخرى: «وواحدة». وعن ابن عباس -رضي الله عنه- قال رسول الله-صلى الله عليه وسلم-: «أكرموا أولادكم وأحسنوا أدبهم» أخرجه ابن ماجه 291/2 وروى عبد الله بن عمر قال: «أدب ابنك؛ فإنك مسؤول عنه، ماذا أدبته؟ وماذا علمته»؟(3) وعنه أيضا قال رسول الله-صلى الله عليه وسلم-: «كلكم راع ومسؤول عن رعيته، فالإمام راع وهو مسؤول عن رعيته، والرجل في أهله راع وهو مسؤول عن رعيته، والمرأة في بيت زوجها راعية وهي مسؤولة عن رعيتها، والخادم في مال سيده راع وهو مسؤول عن رعيته» متفق عليه.. البخاري 718/2.

       وحث الإسلام الكبير على الرحمة بالطفل لضعفه وقلة حيلته، فإذا امتلأت قلوب الأطفال بصور الرحمة الجميلة وأدبها المهذب شبوا قادرين على النهوض بأمة الإسلام، لتكون العزة لله ولرسوله وللمؤمنين، قال تعالى: ﴿الْـمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَوٰةِ الدُّنْيَا وَالْبٰقِيٰتُ الصّٰلِحٰتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا﴾ [الكهف:46]، ومن الباقيات الصالحات رعايتهم وتأديبهم، وقال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنٰهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ﴾ [الطور:21]، وروى أبو هريرة قال: «قبل –صلى الله عليه وسلم- الحسن بن علي وعنده الأقرع بن حابس التميمي جالسا، فقال الأقرع: إن لي عشرة من الولد ما قبلت منهم أحدا، فنظر إليه رسول الله-صلى الله عليه وسلم- ثم قال: «من لا يرحم لا يرحم» أخرجه البخاري 426/10، وقال أبو قتادة -رضي الله عنه-: «خرج علينا رسول الله-صلى الله عليه وسلم- وأمامة بنت أبي العاص على عاتقه فصلى إذا ركع وضعها وإذا رفع رفعها» أخرجه البخاري 426/10، وعن عائشة -رضي الله عنها- أن النبي-صلى الله عليه وسلم- وضع صبيا في حجره يحنكه فبال عليه فدعا بماء فأتبعه. أخرجه البخاري 433/10، وعن جابر بن سمرة -رضي الله عنه- قال: «صليت مع النبي-صلى الله عليه وسلم- صلاة الأولى ثم خرج إلى أهله وخرجت معه، فاستقبله ولدان، فجعل يمسح خدي أحدهم واحدا واحدا، قال: وأما أنا فمسح خدي فوجدت يده بردا وريحا كأنما أخرجها من جؤنة عطار».(أخرجه مسلم 1814/4، «وجؤنة العطار: وعاء يعد فيه الطيب»).

       وعن أسامة بن زيد -رضي الله عنه- كان رسول الله-صلى الله عليه وسلم- يأخذني فيقعدني على فخذه، ويقعد الحسن بن علي علي فخذه الآخر ثم يضمهما ثم يقول: «اللهم ارحمهما؛ فإني أرحمهما».( أخرجه البخاري 434/10)، وعن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: «ما رأيت أحدا كان أرحم بالعيال من رسول الله-صلى الله عليه وسلم- كان إبراهيم مسترضعا في عوالي المدينة وكان ينطلق ونحن معه، فيدخل البيت وأنه ليدخن وكان ظئره قينا، فيأخذه فيقبله ثم يرجع». (أخرجه مسلم 1808/4، والظئر: زوج المرضعة، وقينا: حدادا).

       وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: خرجت مع رسول الله-صلى الله عليه وسلم- في طائفة من النهار، لا يكلمني ولا أكلمه، حتى جاء سوق بني قينقاع ثم انصرف حتى أتى خباء فاطمة فقال: «أثم لكع، أثم لكع» «الصغير» يعني حسنا، فظننا أنه إنما تحبسه أمه لأن تغسله وتلبسه سخابا «قلادة الأطفال»، فلم يلبث أن جاء يسعى حتى اعتنق كل واحد منهما صاحبه فقال رسول الله-صلى الله عليه وسلم-: «اللهم إني أحبه وأحبب من يحبه» (أخرجه مسلم1782/4)، وعن يعلى بن مرة أنه قال: خرجنا مع النبي-صلى الله عليه وسلم- ودعينا إلى طعام، فإذا حسين يلعب في الطريق، فأسرع النبي-صلى الله عليه وسلم- أمام القوم ثم بسط يديه فجعل الغلام يفر هنا وهنا ويضاحكه النبي-صلى الله عليه وسلم- حتى أخذه، فجعل إحدى يديه في ذقنه والأخرى في رأسه، ثم اعتنقه، ثم قال النبي-صلى الله عليه وسلم-: «الحسين مني وأنا من الحسين، أحب الله حسينا، الحسين سبط من الأسباط» (أخرجه البخاري 459/1).

       عن أم خالد بنت سعيد قالت: «أتيت رسول الله-صلى الله عليه وسلم- مع أبي وعلي قميص أصفر، قال رسول الله-صلى الله عليه وسلم-: «سنه، سنه» قال عبد الله وهي بالحبشية: حسنة، قالت: فذهبت ألعب بخاتم النبوة، فزجرني أبي قال رسول الله-صلى الله عليه وسلم-: «دعها»، ثم قال رسول الله-صلى الله عليه وسلم-: «أبلي وأخلقي» دعا لها باستهلاك ثياب كثيرة، قال عبد الله: فبقيت حتى ذكر.. يعني من بقائها» (أخرجه البخاري 425/10).

       وعن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: «كان رسول الله-صلى الله عليه وسلم- أحسن الناس خلقا، وكان لي أخ يقال له أبو عمير- قال: أحبه قال: كان فطيما- قال: فكان إذا جاء رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قال: «يا أبا عمير، ما فعل النغير بك»؟ قال: «فكان يلعب به» (أخرجه البخاري 426/10)، وقال أبو هريرة: «سمعت أذناي، وبصرت عيناي هاتان رسول الله –صلى الله عليه وسلم- أخذ بيديه جميعا بكفي الحسن والحسين وقدميه على قدم رسول الله –صلى الله عليه وسلم- ورسول الله –صلى الله عليه وسلم- يقول: «ارق»، فرقي الغلام حتى وضع قدميه على صدر رسول الله –صلى الله عليه وسلم-، ثم قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: «افتح فاك»، ثم قال: «اللهم أحبه، فإني أحبه» ( أخرجه البخاري 348/1)، وقال الطبراني: قال عليه الصلاة والسلام: «خير بيت في المسلمين بيت فيه يتيم يحسن إليه، وشر بيت في المسلمين بيت فيه يتيم يساء إليه، أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا». وجاء رجل إلى النبي –صلى الله عليه وسلم- يشكو قسوة قلبه، فقال له: «أتحب أن يلين قلبك، وتدرك حاجتك؟ ارحم اليتيم، وامسح رأسه، وأطعمه من طعامك يلين قلبك، وتدرك حاجتك» (كنز العمال 173/3).

       ومن القيم الخلقية في الأدب الإسلامي أدب العدالة بين الأطفال، فلا يضارون بصور الظلم وأنواعه من الأسرة أو من المجتمع مما يترك أثرا بناء على تهذيب نفسه وفي رقة مشاعره وعمارة وجدانه، فيشب على المحبة والمودة والتعاطف والتعاون، قال تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ﴾، ﴿وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ﴾، ﴿قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ﴾، ﴿إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْـمُقْسِطِينَ﴾، ﴿وَنَضَعُ الْـمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيٰمَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ﴾، ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ اللهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظّٰلِـمُونَ﴾، ﴿وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ﴾، ولقد أنقذ الخضر وموسى – عليهما السلام- حق اليتيمين من مجتمعهما الظالم الشحيح ﴿وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلٰمَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْـمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمـَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ﴾ [الكهف:82] هذا ما يجب على المجتمع من رفع الظلم عن المسلم وعن الطفل الضعيف وإرساء العدالة الاجتماعية بينهم، وأما موقف الأسرة من ذلك فقد قال تعالى فيها: ﴿وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعٰفًا خافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلا سَدِيدًا﴾ إلى قوله ﴿آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِنَ اللهِ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾ [النساء:9-11]، في تصوير قرآني معجز، وكذلك في ضرب مثلين متقابلين، أحدهما يورث المنفق على أهله وغيرهم ابتغاء مرضاة الله عز وجل ولا يكون ذلك إلا بالعدل، والآخر لا يؤدي ذلك في تصوير قرآني يهز أعماق الكبير ووجدان الصغير، فالأول كمثل جنة بربوة أصابها وابل فآتت أكلها ضعفين، والآخر كمثل صفوان عليه تراب فأصابه وابل فتركه صلدا، ثم يزيد الآخر توضيحا وتفصيلا وبلاغة وإعجازا فيقول تعالى: ﴿أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهٰرُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرٰتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآيٰتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ﴾ [البقرة:263-271].

       والأحاديث الشريفة البليغة التي وردت في ذلك كثيرة وهي عامة للأطفال وغيرهم، لكنني سأقتصر على بعض ما يخص الصغار لعدم الإطالة، قال عامر: «سمعت النعمان بن بشير -رضي الله عنه- وهو على المنبر يقول: أعطاني أبي عطية، فقالت عمرة بنت رواحة لأبي: لا أرضى حتى يشهد رسول الله –صلى الله عليه وسلم- فقال: إني أعطيت ابني من عمرة بنت رواحة عطية، فأمرتني أن أشهدك يا رسول الله، قال: «أعطيت سائر ولدك مثل هذا»؟، قال: لا، قال: «فاتقوا الله واعدلوا بين أولادكم»، قال: فرجع فرد عطيته» (أخرجه البخاري211/5)، وقال النبي –صلى الله عليه وسلم-: «إن المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن عز وجل- وكلتا يديه يمين – الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا» (أخرجه مسلم 1458/3).

تلاوة الأطفال للقرآن وسماعه تأديب وتربية وتعليم

       قال النبي-صلى الله عليه وسلم-: «أدبني ربي فأحسن تأديبي»؛ لأنه تأدب بأدب القرآن وتخلق بأخلاق القرآن، فقراءة القرآن وسماعه أو حفظه يعرب اللسان ويهذبه فيكون أعظم بيانا وفصاحة وبلاغة وأدبا: ﴿بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ﴾، ويرقى بالعاطفة فتتسم بالصدق والإخلاص في الإيمان، ويعمر الوجدان بالمشاعر الرقيقة والأحاسيس المرهفة، ويقوم العقل والفكر بقيمه السامية وأخلاقه وتشريعاته الزاكية، وبذلك تتحقق للإنسان السعادة في الدنيا والآخرة، فحينما حفظ الأطفال سورا قصارا بعد وفاة أبيهم رفع الله العذاب عنه في قبره، فقد سألت النبي-صلى الله عليه وسلم- أمهم وزوج المعذب في قبره عما صنعت بعد دفنه، لذلك قال النبي-صلى الله عليه وسلم-: «خيركم من تعلم القرآن وعلمه» وقال تعالى: ﴿وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ [الأعراف:204]، ﴿وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنٰهُ تَنْزِيلًا﴾ [الإسراء:106] ، ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتٰبَ اللهِ وَأَقَامُوا الصَّلوٰةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَـٰهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ، لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ﴾ [فاطر:29-30]، ﴿مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظّٰلِمِينَ إِلَّا خَسَارًا﴾ [الإسراء:27]، وعن أبي أمامة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: «من قرأ عشر آيات في ليلة لم يكتب من الغافلين، ومن قرأ مئتي آية كتب من القانتين، ومن قرأ أربع مئة آية كتب من الحافظين، ومن قرأ ست مئة آية كتب من الخاشعين، ومن قرأ ثمان مئة آية كتب من المخبتين، ومن قرأ ألف آية أصبح له قنطار، والقنطار مئتا أوقية، والأوقية خير مما بين السماء والأرض، أو قال: خير مما طلعت عليه الشمس، ومن قرأ ألفي آية كان من الموجبين» «أي وجبت له الجنة» رواه الطبراني، وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قال: «ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده» رواه مسلم وغيره.

       وحينما عظم الله عز وجل ثواب القرآن في الدنيا بما تقدم ذكره من قيم السعادة فيها، وفي الآخرة بأعظم وأخلد أنواع السعادة برضوان الله عز وجل لمن قرأه وعمل به، فشفعه فيه وأدخله الجنة -فإنما يحث المؤمن على دوام قراءته وتعليمه لأهله وأولاده ورعيته، فهو مسؤول عنهم، وعن الإنفاق على تعليمهم القرآن وعلومه، كما دلت الآيات السابقة في أدب قرآني معجز، والأحاديث الشريفة في بلاغتها الجامعة في أدب نبوي سام، يترك ذلك أثره البليغ والسريع في تأديب الأطفال وتربيتهم إذا ما تعلموها أو قرؤوها في مراحل تعليمهم، وبالإضافة إلى ما سبق ما رواه جابر -رضي الله عنه- عن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال: «القرآن شافع مشفع، وماحل به مصدق، من جعله أمامه قادة إلى الجنة ومن جعله خلفه ساقه إلى النار» (رواه ابن حبان).

       وعن عبد الله بن عمر -رضي الله عنه- قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: «يقال لصاحب القرآن: اقرأ وارتق ورتل كما كنت ترتل في الدنيا؛ فإن منزلك عند آخر آية تقرؤها» رواه أبو داود وغيره، وما رواه معاذ بن أنس الجهني -رضي الله عنه- أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قال: «من قرأ: قل هو الله أحد حتى يختمها عشر مرات بنى الله له قصرا في الجنة» فقال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: إنا نستكثر يا رسول الله، فقال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: «إذا الله أكثر وأطيب» رواه أحمد، وما رواه علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قال: «من قرأ القرآن فاستظهره فأحل حلاله وحرم حرامه أدخله الله الجنة وشفعه في عشرة من أهل بيته كلهم قد وجبت لهم النار» رواه ابن ماجه والترمذي. وعن أبي أمامة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: «من قرأ آية الكرسي دبر كل صلاة لم يمنعه من دخول الجنة إلا أن يموت» رواه الطبراني وابن حبان. لذلك حرص عبد الله بن عباس-رضي الله عنهما- الذي دعا له الرسول بدعوته المشهورة ووصاه بوصيته المشهورة التي سنذكرها في مقامها هنا، فقد حرص أن يقرأ المحكم ولم يتجاوز عشر سنين، فقال: «توفي رسول الله –صلى الله عليه وسلم- وأنا ابن عشر سنين وقد قرأت المحكم» مما جعل أطفال المسلمين يتدافعون لحفظ كتاب الله عز وجل وتعلمه حتى ضاقت المساجد بالصبيان، فاضطر الضحاك بن مزاحم -معلم الصبيان ومؤدبهم- إلى أن يطوف على حمار ليشرف على طلاب مكتبه الذين بلغ عددهم ثلاثة آلاف صبي، وكان لا يأخذ أجرا على عمله(4).

       ولهذا أصبح الأزهر الشريف أعظم جامعة وأقدمها في العالم قاطبة لتخريجه علماء أجلاء ينشرون الإسلام وعلومه في بقاع العالم؛ لأنهم كانوا يحفظون القرآن الكريم في مراحل الطفولة المبكرة، ويتأدبون بأدبه السامي وبلاغته المعجزة، وكذلك الحديث الشريف.

       ومما يضطر الأطفال إلى تأديبهم بأدب القرآن والسنة الشريفة أن الإسلام أوجب على الوالد أن يرعى أولاده الأطفال منذ سبع سنين على سبيل الوجوب والإلزام بتعليمهم الصلاة وأن يعينهم على أدائها، وأن يضربهم عليها إذا ما بلغوا عشر سنين وانصرفوا عنه، قال تعالى:

﴿وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَوٰةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْئَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوٰى﴾ [طه: 123] وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: «مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين واضربوهم عليها وهم أبناء عشر، وفرقوا بينهم في المضاجع» رواه أبو داود، وعن أبي ثرية سبرة بن معبد الجهني -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: «علموا الصبي الصلاة لسبع سنين واضربوه عليها ابن عشر سنين» رواه أبو داود والترمذي، وفي حديث الرسول-صلى الله عليه وسلم- لأبي هريرة -رضي الله عنه: «يا أبا هريرة، مر أهلك بالصلاة؛ فإن الله يأتيك بالرزق من حيث لا تحتسب»، لأن اعتياد الصلاة وتكرارها في اليوم خمس مرات تؤدبهم بما تهدف إليه من قيم أخلاقية كثيرة، وما تشتمل عليه من القرآن والذكر، فتؤدبهم عن طريق حفظ فاتحة الكتاب وترديدها، وحفظ كثير من السور القرآنية وبعض الآيات التي تعقب الفاتحة في الصلاة، وعن طريق سماع القرآن الكريم من الإمام في الصلاة الجهرية، وعن طريق سماع الخطبة في صلاة الجمعة، وهي فن أدبي من فنون النثر الفني، وما اشتملت عليه من الآيات القرآنية والأحاديث الشريفة وأدب الصحابة والتابعين والحكم والأمثال والندوات والدروس التي تلقى في المسجد أثناء مصاحبة الطفل لوالده، أو حضوره بنفسه للمشاركة في صلاة الجماعة أو صلاة الجمعة والعيدين بعد أن يعتاد على الصلاة وحده.

*  *  *

الهوامش:

(1)        الديوان، تحقيق د. محمد عبد المنعم خفاجي.

(2)        بصائر ذوي التمييز 3/53.

(3)        تحفة المودود في أحكام المولود: ابن القيم ص153.

(4)        منهج التربية النبوية للطفل: محمد سويد ص113.

*  *  *

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العــلوم ديوبند ، المحرم – صفر 1439 هـ = سبتمبر- نوفمبر2017م ، العدد : 1 – 2 ، السنة : 42


(*)         أستاذ الأدب والنقد بجامعة الأزهر الشريف.

Related Posts