دراسات إسلامية

بقلم:  الشيخ عبد الله بن صالح المحسن

إن الناس في هذه الحياة على اختلاف ألوانهم وتباين لغاتهم وتباعد أقطارهم بعضها عن بعض لم يعلم عن أحد منهم في وسط المعمورة ولا في أرجائها أنه لم يحدث بينهم خصومات ومنازعات؛ بل إن الطبيعة الغريزية لتحمل كل إنسان على محبة التغلب والانتصار على منازعه أو خصمه، فإن كانت صالحة فالمرء يريد استيفاء حقه، وإن كانت طالحة فيريد المرء التغلب والانتصار على الخصم بأي طريق، لذا فكثيرًا ما تقع الخصومات والمنازعات بين فرد وآخر وقرية وأخرى؛ فلذا عُني الإسلام بهذا الشأن فأمر بالصلح ورغب فيه وجعل المصلح حاكما نافذا حكمه قال تعالى: ﴿وَإِنْ طَآئِفَتٰنِ مِنَ الْـمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدٰىهُمَا عَلَى الأُخْرٰى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتّٰى تَفِيءَ إِلَىٰ أَمْرِ الله فَإِنْ فَآءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْـمُقْسِطِينَ إِنَّمَا الْـمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ [الحجرات/9]، وقال تعالى: ﴿لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ﴾ [النساء/114]، وقال تعالى في حق الزوجين ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيماً خَبِيراً﴾ [ النساء/35]، وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة قالوا: بلى، قال: إصلاح ذات البين فإن فساد ذات البين هي الحالقة. رواه أبوداود والترمذي، وقال حديث صحيح، و للترمذي: لا أقول تحلق الشعر؛ ولكن تحلق الدين. وقال صلى الله عليه وسلم: «كل يوم تطلع فيه الشمس تعدل بين اثنين – تصلح بينهما بالعدل- صدقة». رواه البخاري ومسلم.

       وقد أجاز صلى الله عليه وسلم الكذب في الصلح بين الناس؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: «ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس فينمي خيرًا أو يقول خيرًا». رواه البخاري ومسلم، ولمسلم: «لم يرخص في شيء مما يقول الناس إنه كذب إلا في ثلاث»، وذكر منها الإصلاح بين الناس، كل ذلك دافع إلى الصلح في حل المشاكل المتأزمة. فعلى كل مسلم أن يكون رجلا مجاهدًا في أمته وبني وطنه ومن يتصل به من غيرهم بأن يسعى بالصلح إذا وجد نار الغضب والفتنة تتأجج بالخصومات والمنازعات بين أي من الناس فليحاول التدخل فيما بينهما بالصلح ليكون حكما عدلا مصلحا بينهم بأقواله وباذلا في ذلك ما يستطيعه من أفعال ومال، إذا تطلب الأمر ذلك حتى يطفئ تلك الفتنة الملتهبة أو المشاكل المعقدة، ويحل بدلها السلام والوئام ولا يقول: هذا ما يعنيني؛ فإن الرسول صلى الله عليه وسلم لما أخبر بأن أهل قباء اقتتلوا حتى ترامو بالحجارة فقال: «اذهبوا بنا نصلح بينهم» رواه البخاري.

       فعلى كل مسلم أن يكون دائما مشاركا في هذه الحياة بنفع إخوانه مسابقًا في ميادين الإصلاح والعمل المثمر مسارعًا إلى ما يؤلف القلوب، ويرفع مستوى أمته؛ ليسمو بين الورى بحسن الثناء، ويسعد في آخرته عند الله، إن الله لايضيع أجر من أحسن عملا ويقول الشاعر:

لا تزهد الدهر في عرف بدأت به

كل امرئ سوف يجزى بالذي فعلا

إن الثناء ليحيي ذكر صاحبــــه

كالغيث يحيي نداه السهل والجبلا

       وعلى المصلح أن يكون الإخلاص هو الدافع له على الصلح، وأن يكون صلحه سائرًا تحت لواء الشريعة فلا ينفذ صلحًا مخالفًا للسنة؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد» رواه مسلم، مردود عليه لعدم صحته وقد رد صلى الله عليه وسلم الصلح الباطل في قصة العسيف حيث قال: «أما الوليدة والغنم – التي اصطلحتم عليه- فرد عليك، وعلى ابنك جلد مئة وتغريب عام» رواه البخاري ومسلم، فيا أيها المسلم الذي وقع في مشكلة مع غيره عليك بقبول الصلح لما فيه من الخير الكثير والابتعاد من الشرالمستطير ومن أعظم الأدلة على ذلك قصة صلح الحديبية الذي ظاهره النقص والضرر على المسلمين، وفي باطنه ما تجلى من المنافع العظيمة التي ظهرت لكل واحد، ولما في قصة الزبير مع خصمه قال الرسول صلى الله عليه وسلم: «اسق يا زبير، ثم أرسل -الماء- إلى جارك»، مريدًا بذلك الصلح، فلم يوافق الخصم على ذلك، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: «اسق -يعني الزبير- ثم احبس الماء حتى يبلغ الجدر». رواه البخاري، مستوعبا في ذلك حق الزبير في صريح الحكم، فلو قبل الخصم الصلح لكان له فيه خير، وقد تكرر الأمر بالصلح والترغيب فيه كما سبق لما يحصل في الخصومات والمشاهدات من الأضرار العظيمة من سفك الدماء وذهاب الحقوق وتجسم العداوات والإساءة والإيذاء من آثارها مع ما يبذل في سبيل ذلك من الأقوال بحق، وبدون حق مع أنها محرقة للقلوب، داعية للهموم، ومضيعة للوقت من دون جدوى ولا فائدة غالبا؛ بل ضرر ظاهر وعذاب و ابتلاء قد يكون مستمرًا فما على المسلم إلا أن يقبل الصلح متسامحًا عن بعض حقه في اعتقاده؛ ليرتاح من عناء تحقيق حقه، وقد يضيع حقه كليا بسبب عدم خوف خصمه من الله، وخصوصًا في هذا الزمان وما فيه من زخرف القول الذي يجعل الباطل حقًا، والحق باطلا مما يخالف قول الله سبحانه: ﴿وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالأِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾.

*  *  *

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العــلوم ديوبند ، المحرم – صفر 1439 هـ = سبتمبر- نوفمبر2017م ، العدد : 1 – 2 ، السنة : 42

Related Posts