إشراقة
ممارسةُ عمل ما على الطريقة التي ينبغي أن يُمَارَسَ من خلالها، هي الضامنة لنجاح العمل، وقبل ذلك لِيَأتي على أحسن ما يُرَام. وقد أمر القرآن الكريم بذلك إذ قال: «وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا» (البقرة:189) وهو تعبير إلهي بليغ لايمكن البشرَ أن يبلغ مداه مهما بذل من الجهد ما هو في مستطاعه.
ولكي يتمّ أداءُ العمل مضبوطًا فيأتي مثمرًا، يحتاج المؤدي إلى تعلم فنّ الأداء وإتقانه، وقبل ذلك يحتاج أن يكون حاملًا للحسّ السليم والفهم العامّ والوعي الذي ينبغي أن يتّصف به الإنسان حتى يكون ممتازًا عن الحيوان والبيهمة.
كان يقول أستاذنا الكبير فضيلة الشيخ وحيد الزمان القاسمي الكيرانوي رحمه الله (1349-1415هـ = 1930-1995م): إن الشاب الذي يتمتع بالحس السليم، ثم يتوجه إلى تعلم فن ممارسة العمل على ما ينبغي، يتخرج مُتْقِنًا للفن فيؤدّي كل عمل في الحياة على ما يَسُرُّ القلب ويُبْهج النفسَ. أما إذا تجرد من الوعي العامّ والحسّ السليم، فإن عملية تعلم فن ممارسة العمل لا تنجح ولا تُؤْتي أكلَها، وإنما تذهب جهوده في التعلم وجهود من يتصدى لتعليمه هباءً؛ لأن الحسّ السليم ركيزة؛ بل حجر زاوية في التعلم.
الذين يُمْضُون حياتهم في التدريس مُعَلِّمين مُرَبِّين في المدارس والجامعات، ويحتكّون بالغلمان والشباب الذين ينتسبون إليها متعلمين مُتَرَبِّين، ويجربونهم طويلًا عن كثب، يعلمون جيّدًا أن منهم مَنْ يدركون كلَّ أمر عاجلًا وبشكل صائب، ويتعاملون معه كما ينبغي، ويَتَلَقَّوْن كل عمل فيقومون به عن لباقة، كأنهم ولدوا عارفين بطريقة القيام به، وكأنهم خُلِقُوا عالمين بأساليب أداء أمور الحياة. ومنهم من لا يَفْطَنُون لأي أمر، ولا يَتَلَقَّوْن أيَّ توجيه بنحو صحيح، ولا يكادون يتعلمون أداء أيّ عمل على ما ينبغي؛ لأنه يضيع فيهم كل توجيه، ويهدر فيهم كل تفهيم، وكأنهم وُلِدُوا لكي لا يفهموا شيئًا، ولا يدركوا أمرًا، ولا يقوموا بعمل في الحياة حسب الـمُقْتَضَىٰ.
وذلك يرجع إلى أن الصنف الأوّل من الغلمان والشباب يكون مفطورًا على الحسّ السليم والوعي العام الذي ينبغي أن يتمتع به كلُّ إنسان سليم، وأن الصنف الثاني يولد مجردًا من هذا الوعي والحس؛ فالأول ينفع فيه التعليم والتربية ما لاينفع في الثاني. وذلك هو الأمر الذي يضع الفرق بين إنسان وإنسان؛ حيث إن هناك أفرادًا يدركون عاجلًا كيف يصطادون الكواكب والنجوم، ويُسَخِّرون الشمس والقمر، ويكتشفون ما في الكون من أسرار، وما في البحر والبر والجو من الكنوز، وينتصرون في معارك الحياة، ويكسبون القلوب، ويجعلون الناس يسيرون خلفه، ويدورون في فلكه، ويكونون رهنَ إشارته، يُنَفِّذُون أمره، ويقتفون أثره.
وهناك أفرادٌ عقولهم بسيطة، وأفهامهم بطيئة، فلا يدركون رغم جميع ما يُمَارَسُ فيهم من التعليم والتربية، كيف يعيشون الحياة؛ فيُمْضُون أيام حياتهم عشواء، ويقومون بالأمور خرقاء، ولا ينفع فيهم تعليم، ولا يُثْمِر فيهم توجيه.
وهناك من يكونون بين هؤلاء وأولئك، فهم ذكاؤهم وَسَطٌ، وأفهامهم تحتاج إلى نوع من الصقل، وعقولهم تنفتح بعد قليل من عملية التنوير؛ فقد ينفع فيهم التعليم والتربية، ويؤتي التعليم والتثقيف فيهم بعضَ الأكل.
الأفراد الذين يَحْظَوْن بالوعي المطلوب والحسّ السليم تثمر فيهم عملية التعليم والتربية إثمارًا عاجلًا ويستوعبون سريعًا ما يُلْقَىٰ إليهم من توجيه، فتنفتح جميع أبواب وشبابيك وفتحات وعيهم سريعًا، ويُصْبِحُون لَبِقِين في الحياة، لا يقومون بشؤونها إلّا على الوجه المطلوب الذي تأتي نتائجه مَرْضِيَّة، وكأنهم خُلِقُوا ليقوموا بها ويَتَولَّوْا أداءَها. وأمثالُهم ينالون ثناء الناس، ويقطعون أشواطاً بعيدة في المجال الذي يعملون فيه، وتَقَرُّ بهم العيون، وتدعو لهم الأَلْسُن، وتُحَيِّيهم الحياةُ، ويُحَبِّذهم المجتمعُ، وتتنتظرهم المناصبُ، فيكسبون النجاحَ الذي لا يُتَصَوَّر فوقَه.
كان عندنا طالبٌ من أسرة تعاني فقرًا مُدْقِعًا؛ ولكنه كان رغم ذلك ذكيًّا ذا وعي كبير وحسّ مُفْرِط، يُسيغ للحد المطلوب ما يُصْدَر إليه من الأوامر، وما يُلْقَىٰ إليه من التوجيهات، ويدرك مغزى ما يُكَلَّف من الأعمال الدراسية أوالحياتية، وتَزَلَّف إلى كاتب السطور؛ لأنه تسامع على ألسنة الطلاب أنه يأخذ الطلاب بتهذيب وتثقيف، وينالهم بالتوجيه وبالزجر والملام عندما يكررون الأخطاء بعد تنبيه مسبق. وبعدما كثر اختلافه إلى كاتب السطور، سُرَّ به كثيرًا، لحسن تعامله مع أمور الحياة، وإجادته في العمر المبكر لكل ما يُكَلَّف من الأعمال التي تمس الحياة اليومية مما لايمت بصلة إلى الدراسة والأشغال التعليمية. فكان يقوم بها كأنه تعلمها عن إتقان في بطن أمه، وكأنه تَفَطَّنَ لهوى كاتب السطور في شأنها، فكان يُؤَدِّيها على ما يريده من المستوى، ويُحِبّه من الأسلوب. ومع مرور الأيام صار من أحبّ التلاميذ إليه، للباقته وحسن أدائه وذكائه، حتى غدا كأنه حاجته في الحياة اليومية، فكلما كانت تمسه حاجة كان يطلبه ويستدعيه، ويسند إليه ما يريد من الأعمال، فكان يقوم به عن سرور وإجادة كأنه صاحبه المطلوب.
ولما تخرج من الجامعة – وعاد إلى وطنه، ثم شُغِلَ بما يُشْغَلُ به مثلُه ممن يشكون وسائل الحياة، فخاض معركة الحياة عن انتصار، لأن لباقته وذكاءه وأداءه لأعمال الحياة كما ينبغي جعله يحقق مكاسب مادية ومعنوية – بحثتُ كثيرًا عن مثله فلم أفز إلّا كما يفوز الباحث عن الماء في السراب، وإنما اكتفيتُ بمن كانوا كأنصافه أو أرباعه، فتذكرتُ النعمةَ الإلهية الكبيرة المتمثلة في شخصه التي كنتُ أتمتع بها حين كان طالبًا في الجامعة.
إن إجادة أعمال الحياة قيمة كبيرة في حياة الإنسان، بها يكسب معاركَ الحيـاة، وبها يكون محبـوبًا عند الله وعند الناس. من فاز بها فاز بحسنات الدنيا والآخـرة، ومن خَسِرَ ها خَسِرَ كلَّ ما يَحْلُم به في حياته ويَتَمَنَّاه في آخرته. إن المجيد المتقن لأعمال الحيـاة، يحظى – ولا سيما إذا أداها لغيره – بثناء المثنين، الذين كلُّ شعرة في أبدانهم تدعو له وتشكر، والفاقـدُ للإجادة والإتقان لا يأبه به أحد، بل يتأذى منه كلُّ أحد، فلا يستحق ثناءً، ولا يفوز بشكر، ولا يذكره أحد في مجالس المدح والذكر بالخير، فضلًا عن أن يُسَجِّله التأريخ، ويذكره الزمان.
اللباقة والإتقان والإجادة صفات يُكَرِّرها الدهرُ لصاحبها، ويحفر اسمه في سِجِلِّ الخلود والثناء، ويحاكيه الراغبون في فعل الحسنات، ويحصد الحمد والإعجاب والتقدير مهما كانت ديانته وتوجهاته ومذهبه؛ لأن الصفات التي يتصف بها يجعل المجتمع يكيل له المدح، ويعرف له الجميلَ، ويذكره بالخير الكثير، متغاضيًا عن كل ما عنده من المعتقدات والاتجاهات.
إنها صفات إنسانية سامية قَرَّظَها الإسلام ودعا إليها دعوة مكثفة متصلة. والإنسان مفطور على استحسانها أينما وُجِدَتْ.
(تحريرًا في الساعة السادسة من مساء يوم الاثنين: 21/ذوالقعدة 1438هـ الموافق 14/أغسطس 2017م).
أبو أسامة نور
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العــلوم ديوبند ، المحرم – صفر 1439 هـ = سبتمبر- نوفمبر2017م ، العدد : 1 – 2 ، السنة : 42