كلمة العدد
إنّه لمن فضل الله علينا أنه مَنَّ علينا بالعيدين: عيدالفطر وعيد الأضحى، وإذا كان الأوّل عيدًا نحتفل به حسبما سمح لنا دينُنا إثر صيام رمضان المبارك، فإن الثاني عيد يحفل بدروس كثيرة ينبغي أن نعيها، ونتخذها ضوءًا ساطعًا نستضيئ به في دروب الحياة.
فمن المؤسف أن هذا العيد يُطِلّ علينا كل عام، ونمرّ به دون أن نستقي منه الدرس الذي من شأنه أن يُغَيِّر منا كلَّ شيء، ويبعث فينا روح التغيّر والتغيير في حياتنا الفردية والجماعيّة، ويجعلنا نهبّ لتقديم كل تضحية يطلبها منا الدين والعقيدة. وذلك لأننا عُدْنا نتخذ كل مناسبة دينية – فضلًا عن المناسبات غير الدينية – عرفًا وتقليدًا، جريًا وراء غيرنا من اليهود والنصارى والوثنيين والعلمانيين الذين ظَلَّ ولا يزال الدينُ عندهم أُلْعُوبَةً من الألاعيب، فيتعاملون معه – الدين – ومقتضياته بالهزل دون الجدّ، واللهو واللعب دون الاهتمام والعناية، ويجعلون كل مناسبة دينية مُجَرَّدَ وسيلة للترفيه والتسلية، فلا تترك هي فيهم تأثيرًا، ولا تُحْدِث فيهم تغييرًا، ولا تردعهم عن غيّ، ولا تدعوهم إلى خير، ولا تُصْلِح منهم فاسدًا، ولا تُقِيم فيهم مُعْوَجًّا.
ولو أننا احتفينا بأعيادنا ومناسباتنا الدينية، صادرين عن روح الدين الحقيقية، لكان كل عيد من أعيادنا، وكل مناسبة تتصل بديننا بصلة قريبة أو بعيدة، نقطةَ تغيّر جذريّ وانطلاقة كبرى في حياتنا، ولصَحَّ ما فسد من أمرنا، واستقام ما اعْوَجَّ من شأننا، واتضح ما التوى من طريقنا، والتبس من منهجنا.
كم منا من يريق الدم يوم النحر العظيم مخلصًا لله، مبتغيًا وجهَه، مُؤْثِرًا رضاه على كل شيء في الكون، صادرًا عن عزمـه الأكيد الصادق على أنه سيريق دمــه هـو، ويُضَحَيِّ بنفســه هو، ويُقَدِّم أغلى تضحية، ويدفع أبهظ ثمن، إذا طالبه الدين، واقتضته العقيدة، ودعت إليه الضرورة الدينية؟
لو كان كذلك لعاد من ساعته مسلمًا قويًا لا تَهُدُّه التحديات، ولا تُزَعْزِعُه الأعداء، ولا يَتَصَيَّده المنافقـون، ولا يسقط في الطــريق، ولا ينحرف عـن الجـادة، ولا يسـاوم على المـوقف، ولا يتراجع عن المبدإ، مهما واجه من العناء وناله من الإيذاء.
فقد ورد في الحديث عن عائشة رضي الله عنها، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما عَمِلَ آدميٌّ من عمل يوم النحر أحبّ إلى الله من إهراق الدم، وإنه ليأتي يوم القيامة بقرونها وأشعارها وأظلافها، وإن الدم ليقع من الله بمكان قبل أن يقع من الأرض؛ فطيبوا بها نفسًا» (رواه ابن ماجه 3126؛ والترمذي 1493 وقال: حسن غريب؛ والحاكم 7523 وصححه).
ولا شك أن الدم لا يقع من الله بمكان، ولا يقبله الله هذا القبول العجيب إلا إذا صَاحَبَه الإخلاصُ، وجَانَبَه الرياءُ ومجاراةُ السمعة واتّباعُ العرف والعادة.
فإذا أهرق أحد منّا يوم النحر الدم، بحادي الإخلاص وداعي الإيمان، ومن أجل الحصول على رضا الرب الكريم، فلقد صاغ نفسه على منهاج الإسلام وفي بوتقة الشريعة وقالب السنة المحمدية، وتعهّد أنه لن يتردد في تقديم أي ثمن من الأثمان يتقاضاه منه الدين الحنيف.
إن إهراق الدم يوم النحر رمزٌ قويٌّ على أن المؤمن قد تجرد من إرادته، واستجاب لإرادة دينه، وانقاد لمواثيق عقيدته؛ فلن يتحرك في الحياة إلّا في ضوء الدين، ولن يتصرف إلا وفق الشريعة، ولن يخطو خطوة لا تُقِرُّها شريعةُ الرحمن.
أما إذا استرسل في غيّه، وأخلد إلى هواه، وتماشى مع شهواته وأغراضه بعد تقديم الأضحية يوم النحر، وبعد ذبح أسمن الشياه، وأغلى الأغنام، وأجمل الحيوانات الجائزِ ذبحُها يوم النحر؛ فمعنى ذلك أن أضحيته لم تقع من الله بمكان، ولم يقبلها الله عزّ وجل قبولًا يَتَوَخَّاه المؤمنُ، ولم ينل منه تعالى ذلك الرضىٰ الذي إذا ناله مؤمن فاز بخيري الدنيا والآخرة.
الحق أن التقوى التي تصل الله عز وجل، والتي تدفع المؤمن على ممارسة كل عبادة مشروعة في الدين، هي قيمة إهراق الدم، وهي النتيجة السارة التي يستبشر بها المؤمن لقاءَ تقديم الأضحية أو أي عبادة أخرى في الدين. قال الله تعالى: « لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ» (الحج/37)
التقوى التي دفعت المؤمن إلى إهراق الدم هي التي يريد الله أن يعلمها ويختبر مدى وجودها في قلبه؛ لأنها دفّاعة إلى الخير، ومنّاعة من كل شرّ، وحرّاضة على تحري رضا الله تعالى؛ حيث ما صَاحَبَتْ عملًا ما إلّا جَعَلَتْه كالتبر الخالص والذهب المُصَفَّى الذي صبيحةَ ديمة يجنيه جانٍ.
إذا كانت التقوى هي الباعثة على عمل من الأعمال فإنها تجعل المؤمن يُوْلَد ولادةً جديدةً وينشأ نشأةً محمودةً؛ فإذا به لا يمارس تصرفًا إلا وفق مُقْتَضَيَات دينه، ومتطلبات عقيدته، فإذا به لا يخاف أحدًا إلا الله، ولا يغار على شيء إلا على دينه، ولا يقوى إلا بصلته القوية بالله، التي تجعله يثق الثقَة كلَّها أن الدنيا لو اجتمعت على أن تنفعه بشيء لن تنفعه إلّا بما قد كتبه الله له، وأنها لو اجتمعت على أن تضرّه بشيء لن تضرّه إلا بما قد كتبه الله عليه.
مثل هذا المؤمن القوي الصلة بربّه، العظيم الثقة بنصره وتأييده، لا يخاف غابةً مُوْحِشَةً في الدنيا، ولا صحراءَ مُقْفِرَةً على الأرض، ولا يتزلزل لدى المصائب، ولا يضعف لدى المحن والبلايا، كما لا تُبْطِرُه السرّاءُ، ولا تُفْرِحُه إفراحَ الـمُتْرَفِين الثروةُ الماديّةُ ووسائلَ الحياة الفارهة الرغيدة؛ لأنه يعود مصوغًا في قالب العبد المرضي المطلوب لدى الله تعالى.
إننا إذا ألقينا نظرةً على وضعنا على المستوى المحلي والعالمي، علمنا أننا نحن المسلمين لم تُعَلِّمنا مناسباتُ عيد الأضحى الدرس الذي كان الواجب أن نَعِيَه؛ وأننا لم نستفد منها في تصحيح صلتنا بالله وتقوية رابطتنا مع الدين، وتقويم مسارنا في الحياة؛ وأن هذه المناسبات وغيرها تأتي وتمرّ بصورة عفوية ولا تترك فينا أثرًا، ولا تحرك منّا غافلًا، ولا توقظ منّا نائمًا.
إننا نَظَلُّ ضُعَفَاءَ مُسْتَضعَفِين بعد عودتها المتكررة علينا، نظل هَيِّنِين أَذِلَّاءَ بعد ترددها المتصل علينا، لا نحاول أن نتقوى بعد الضعف، ونستبدل العزةَ بالذل المُسَلَّط علينا.
يمرّ عيد الأضحى هذا العام ونحن المسلمين نعيش أشدَّ المواقف ضعفًا واستكانةً، تجتمع علينا الأعداء، وتجعلنا لقمةً سائغةً وفريسةً سهلةً، تتهمنا في ديننا، وتهجم علينا في عقر دارنا، وتتصيدنا بين إخواننا وعن طريق بني جنسنا، وتُنَفِّذُ فينا مُخَطَّطَها بشكل لم يسبق له مثيلٌ، وتضحك علينا ضحكَ الخبيث، وتُوقِفُنا في قفص الاتهام، وتحاول – بكل ما أُوتِيَتْ من الوسائل – أن تُحَوِّل ديننا مُرَادِفًا للإرهاب، وأن تُؤَكِّد عَبْرَ وسائل الإعلام القوية أن التعليم الإسلامي لا يُخَرِّج إلّا «الإرهابيين» وأن الدول الإسلامية يجب عليها أن تصوغ مناهج التعليم الإسلامي مُطَعَّمَةً بالعلمانية الغربية التي تساعد على تخريج «علماء معتدلين» و«متدينين معتدلين» و«دعاة معتدلين» و«مفكرين معتدلين»، وبالإيجاز: «مسلمين معتدلين». أما إذا لم تفعل ذلك فإنها مُهَدَّدَةٌ بخطر التصنيف ضمن «الدول الإرهابية». ومعنى ذلك أنها مُهَدَّدَة بالهجوم المسلح والتدمير الشامل والتخريب الكامل والإبادة الجماعية من قبل راعي العالم وشرطي الدنيا: أمريكا وأذنابها في الغرب والشرق.
إننا نخوض حقًّا معركةً حاسمةً فاصلةً مع الغرب الصليبي الحاقد المُمَدّ بالحقد الصهيوني الأسود والوثني الأخبث، ولن ننتصر فيها إلا بقوة الإيمان الذي يُلَقِّن المؤمنَ أن النفع والضر كله من الله؛ وبروح التضحية والفداء التي تُعَلِّم المؤمنَ أن الحياة ليست كلها ورودًا ورياحين، وإنماهي أيضًا أشواك وقتاد، وبلايا ومِحَن تُمَيِّز بين المؤمن الصابر الصادق وبين دعيّ الإيمان الكاذب المنافق.
«الم (١)أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ (٢) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ» (العنكبوت/1-3).
« وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ» (محمد/31).
«لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأمُورِ» (آل عمران/186).
إن الصبر والتقوى في حالة الابتلاء والامتحان التي يضع الله فيها المؤمن لحكمة يعلمها وليميز الخبيث من الطيب وليفرق بين الصادق الإيمان والكاذب المدعي للإيمان، هما ملاك الثبات والاستقامة وملازمة الجادة، وهما الرصيد الذي لاينفد لدى المؤمن في حال من الأحوال. إن المتمسّك بالصبر والتقوى عامل بعزم الأمور، والعامل به لايخونه النصرُ في محطة من محطات الحياة، ولا يُصابُ باليأس والإحباط، ولا يُمْنَى بالسقوط والانهيار في موقف من المواقف.
وإننا نحن المسلمين لن نتجاوز اليوم المحنةَ القاسيةَ المعاصرةَ إلّا بهذا السلاح الماضي الفعّال الذي نصّ الله تعالى على مضائه وفَعَّالِيَّته وكونه هو الناجح النافع في المحن والأزمات والتحديات التي يُقَابَلُ بها المؤمنُ من قبل الأعداء بأنواعهم: من اليهود والنصارى والمشركين وأقسام الكافرين الذين تَأَلَّبُوا اليوم على فعل الأفاعيل مع الأمة الإسلامية والنكاية بها وتشنيع القول والفعل في شأنها.
إن الأمة تتلقى من المحن والشدائد دروسًا عملية كثيرة، والله تعالى حكيم فيما يفعل، وفعّال لما يريد، وعادل فيما يقضى ويقدّر:
« كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ» (الأنبياء/35).
إن المناسبات الدينية والأعياد الإسلامية بل العبادات كلها التي فرضها علينا الإسلام ولاسيّما تقديم الهدي والأضاحي الذي نقوم به نحن المسلمين في العـاشر مـن ذي الحجة اتباعًا لسنة أبينا إبراهيم عليه وعلى نبينا أفضل الصلوات وأزكى التسليمات، تتكــرر علينا لتلقي علينا درسَ تقديم كل نوع من التضحيات: تضحية النفس أو المال أو تحمل الأذى بأشد أنواعه: الأذى في الجسد، الأذى في النفس، الأذى في الروح، الأذى في العقل، الأذى في الوجدان والشعور والعاطفة؛ والأذى بالاعتقال، والأذى بالجلاء، والأذى بالإرغام على مفارقة الأهل والأوطان، ومهاجرة مسقط الرأس ومدرج الصبا ومنشأ الأقارب؛ والأذى بالقتل والإهانة والإذلال؛ والأذى بالتعذيب على الطريقة القديمة والحديثة؛ والأذى بالحيلولة دون القيام بشرع الله ودون الاستجابة لدواعي الدين والعمل بمقتضيات الإيمان واليقين؛ والأذى بالاتهام بالذنوب التي لم يرتكبها المؤمن؛ والأذى بفرض المحاكمات والتعذيبات عليه لذنب واحد، وهو الانتصار للإسلام والانتقام من أوليا الشيطان وأعداء الرحمن.
ومما يجب أن نثق به ثقةً لا تشوبها شائبةٌ من الشك وقت الأزمات والامتحانات أن الله عزّ وجل لن يجعل للكافرين على المؤمنين سبيلاً، وأنه لن يحابي المشركين على المُوَحِّدِين، ولن يجعل العاقبة إلّا للمتقين؛ فقد يحدث أنه تعالى قد يكفّ بأس أوليائه عن أعدائه، ليجعل العقاب الأخروي لهذه الأعداء أضعافًا مضاعفة، وليلقن المؤمن الدرس الذي يزيدهم إيمانًا ويقينًا:
« وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ» (آل عمران/178).
أجل، إن لهم عذابًا مهينًا أبديًّا في الآخرة مهما رقصوا وفرحوا وتشامتوا بالمسلمين وعذّبوهم بالقول والفعل في هذه الدنيا التي أيامها معدودة، ومدّتها محدودة، ونعمها زائلة، ومنافعها عاجلة، وراحتها ظل زائل، وكل ما على ظهر الأرض تراب لا يعدل ذرة من نعيم الآخرة.
يجب علينا أن نكون على مستوى الصبر والتقوى الذي طلبه الله منّا، ولا ندع مناسبة عيد الأضحى هذه المرة تفوتنا دون أن نستفيد منها روح الصبر والتقوى وروح الفداء والتضحية التي ينبغي أن تكون عدتنا في الحياة، ورصيدنا لدى المحن، وسندنا لدى كل أذى ينالنا من الكفار والمشركين الخبثاء والصليبيين والصهاينة الملعونين في كل مكان، وبذلك سيرفع الله راية دينه، ولواء كلمته، ويرفع رؤوس الأمة الإسلامية في كل مكان بالتوفيق لفعل ما يجب أن تفعله لتحقيق العزة، وإزالة حالة الذلّة، إنه سميع مجيب.
(تحريرًا في الساعة الواحدة من ظهر الثلاثاء: 2/شوال 1438هـ الموافق 27/يونيو 2017م).
نور عالم خليل الأميني
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، ذوالحجة 1438 هـ = أغسطس- سبتمبر 2017م ، العدد : 12 ، السنة : 41