الفكر الإسلامي
بقلم: الدكتور رشيد كهوس (*)
إن التدرج هو الميزة البارزة في مسار الرسالة القرآنية الخالدة، فالقرآن الكريم المنزل من عند الله رب العالمين نزل منجما قال الحق جل ثناؤه: ﴿وَقُرْءَانًا فَرَقْنَـٰهُ لِتَقْرَاَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَـٰهُ تَنْزِيلًا﴾(1)، ثم إن التربية القرآنية للصحابة رضي الله عنهم كانت متدرجة فبدأت بتصحيح العقيدة ونبذ الشرك والأوثان وإفراد الله تعالى بالعبودية، ثم بعد بضع سنين من تصحيح العقيدة وتثبيتها في قلوب المؤمنين فرضت الصلاة ثم الصوم وباقي الأركان… وكذلك التدرج في تحريم المنكرات مثل الخمر كان على مراحل بدأ بتذكير المؤمنين بما له من مضار ومفاسد ثم بعد ذلك كان التحريم النهائي على وجه القطع.
(1) التدرج في مواصفات الإنسان بعد ولادته:
يخاطبنا القرآن الكريم لنتأمل آياته ونتملاها، عسى أن تنفتح علينا برياحينها الربانية العطرة لتذهب بما يزكم أنوف قوم ألفوا روائح من صنع مختبرات خاصة أو عامة، كما عساها أن تقبل علينا روحها إقبالا تتفتح له العقول وبه تستنير لنستمع إليها ترتل: ﴿مَّا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلهِ وَقَاراً [13] وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً [14] أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللهُ سَبْعَ سَمٰوٰتٍ طِبَاقاً [15] وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجاً [16] وَاللهُ أَنبَتَكُم مِّنَ الْأَرْضِ نَبَاتاً [17] ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجاً [18] وَاللهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطاً [19] لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلاً فِجَاجاً [20]﴾(2).
خاصة ونحن بصدد دراسة سُنَنية للسيرة العطرة عموما وللجهاد النبوي خصوصا في موضوع جديد لم تسبق الكتابة فيه.
من تلك الربى نستقي الفهم السليم لننظر إلى مراحل تطور الإنسان بعد الولادة،
فهو صبي عند الولادة،
وفي بضع سنين طفل يلعب؛
وفي بضع سنين أخر شاب يافع،بالغ؛
وفي بضع سنين أخر قد بلغ الرشد؛
وفي بضع سنين أخر بلغ الأربعين؛
بهذا التدرج في مسار الحياة ينبت الصبي نباتا، عبر هذه المراحل من ضعف إلى قوة وعند الأربعين يكتمل المرء تكوينه العقلي والجسدي ومعلوم بأن لكل شيء إذا ما تم نقصان:
وفي بضع سنين أخر يدخل الخمسينات وقد اشتعل الرأس شيبا؛
وفي بضع سنين أخر يبدأ الإعياء يأخذ مأخذه من المرء، فتستغني البشرية عن شغله؛
وفي بضع سنين أخر تتغير الملامح، ويستقوي على النهوض بالعصا؛
وفي بضع سنين أخر يدخل الثمانين… والقليل القليل من تجاوز عقباتها؛
ثم الموت والرجوع إلى الأصل إلى أن تقوم الساعة ثم البعث من جديد.
إنها أطوار تقلبات المرء في الحياة الدنيا، والله جل شأنه قادر على خلق الإنسان تام الرجولة بكلمة كن كما فعل بأبينا آدم، وقادر أيضا على إخراج زوجه منه كامل البنية متكامل الخلقة كما فعل مع أمنا حواء، ولكن سننه الخلقية اقتضت ذلك التدرج البطيء.
(2) التدرج في بعض أحكام التشريع:
اقتضت حكمة الحكيم التدرج في الأحكام لأناس ألفوا عادات معينة، لتنتقل بهم رويدا رويدًا، من طباع سيئة إلى أخرى حسنة، وهكذا كان التدرج في تحريم الخمر والربا.
وقد مر تحريم الربا بأربعة أدوار كما حدث في تحريم الخمر، وذلك تمشيا مع قاعدة التدرج:
الدور الأول: «نزل قوله تعالى: ﴿وَمَا ءَاتَيْتُم مِّن رِّباً لِّيَرْبُوا فِي أَمْوٰلِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُوا عِندَ اللهِ وَمَا ءَاتَيْتُم مِّن زَكَوٰةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْـمُضْعِفُونَ﴾(3) وهذه الآية الكريمة نزلت في مكة وهي-كما يظهر – ليس فيها ما يشير إلى تحريم الربا وإنما إشارة إلى بغض الله للربا، وإنما الربا ليس له ثواب عند الله فهي إذن (موعظة سلبية).
الدور الثاني: نزل قوله تعالى: ﴿فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبٰتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ اللهِ كَثِيراً [160] وَأَخْذِهِمُ الرِّبَوٰا وَقَدْ نُهُواْ عَنْهُ… [161]﴾(4). وهذه الآية مدنية، وهي درس قصه الله سبحانه علينا من سيرة اليهود الذين حرم عليهم الربا فأكلوه واستحقوا عليه اللعنة والغضب، وهو تحريم (بالتلويح) لا (بالتصريح) لأنه حكاية عن جرائم اليهود وليس فيه ما يدل دلالة قطعية على أن الربا محرّم على المسلمين . وهذا نظير (الدور الثاني) في تحريم الخمر ﴿يَسْئَلُوْنَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْـمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَـٰفِعُ لِلنَّاسِ﴾(5) حيث كان التحريم فيه بالتلويح لا بالتصريح .
الدور الثالث: نزل قوله تعالى: ﴿يَـٰأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ الرِّبَوٰا أَضْعٰفاً مُّضٰعَفَةً﴾(6). الآية وهذه الآية مدنية وفيها تحريم للربا صريح ولكنه تحريم (جزئي) لا (كلي) لأنه تحريم لنوع من الربا الذي يسمى (الربا الفاحش) وهو الربا الذي بلغ في الشناعة والقبح الذروة العليا، وبلغ في الإجرام النهاية العظمى، حيث كان الدَينُ فيه يتزايد حتى يصبح أضعافا مضاعفة، يضعف عن سداده كاهل المستدين، الذي استدان لحاجته وضرورته وهو يشبه تحريم الخمر في المرحلة الثالثة حيث كان التحريم جزئيا لا كليا في أوقات الصلاة : ﴿يَـٰأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلَوٰةَ وَأَنتُمْ سُكَـٰرَى حَتَّىَ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ…﴾(7) الآية.
الدور الرابع: وفي هذا الدور الأخير نزل التحريم الكلي القاطع، الذي لا يفرّق بين قليل أو كثير، والذي تدل النصوص الكريمة على أنه قد ختم فيه التشريع السماوي بالنسبة إلى حكم الربا، فقد نزل قوله تعالى: ﴿ يَـٰأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَوٰا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ [278] فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوٰلِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ[279]﴾(8).
وهذه الآيات الكريمة التي كانت المرحلة النهائية في تحريم الربا تشبه المرحلة النهائية في تحريم الخمر في المرحلة الرابعة منه حيث حرمت الخمر تحريما قاطعا جازما في قوله تعالى: ﴿يَـٰأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْـمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلَـٰمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾(9).
وبهذا البيان يتضح لنا سر التشريع الإسلامي في معالجة الأمراض الاجتماعية التي كان عليها العرب في الجاهلية بالسير بهم في طريق (التدرج)(10).
قس على هذا التدرج في باقي الأمور والتدرج في الجهاد القتالي؛ من الكف عن القتال، إلى الإذن في القتال بدون فرض، إلى وجوب القتال لمن قاتل المسلمين من الكفار دون من لم يقاتلهم، إلى أن استقر وجوب قتال المشركين كافة كما يقاتلوننا كافة.
وكذلك التدرج في تأديب المرأة الناشز من الموعظة إلى الهجر في المضجع إلى الضرب غير مبرح، إلى تدخل الحكمين إلى إصلاح أم إلى طلاق بمعروف. ثم التدرج في طلاب العلم وتزكية النفس…
(3) التدرج في الدعوة المحمدية:
فكما تدرج تنزيل أحكام الشريعة تدرجت الدعوة المحمدية، فمن دعوة سرية إلى دعوة جهرية إلى الهجرة إلى الحبشة إلى البحث عن سند اجتماعي وطلب النصرة من القبائل، إلى الهجرة وبناء الدولة الإسلامية بالمدينة إلى السرايا والبعوث والغزوات لحمايتها من كيد الكائدين ودسائس الماكرين.
إذًا فهذه القاعدة الكلية و«السنة الإلهية» في رعاية التدرج، ينبغي أن تتبع في سياسة الناس، وعندما يراد تطبيق نظام الإسلام في الحياة، واستئناف حياة إسلامية متكاملة.
فإذا أردنا أن نقيم (مجتمعا إسلاميا حقيقيا) فلا نتوهم أن ذلك يتحقق بجرة قلم، أو بقرار يصدر من ملك أو رئيس، أو مجلس قيادة أو برلمان.
إنما يتحقق ذلك بطريقة التدرج، أعني بالإعداد والتهيئة الفكرية والنفسية، والأخلاق الاجتماعية.
وهو نفس المنهاج الذي سلكه النبي صلى الله عليه وسلم، لتغيير الجاهلية إلى حياة إسلامية. فقد ظل ثلاثة عشر عاما في مكة، كانت مهمته فيها تنحصر في تربية الجيل المؤمن الذي يستطيع فيما بعد أن يحمل عبء الدعوة، وتكاليف الجهاد لحمايتها ونشرها في الآفاق.
ولهذا لم تكن المرحلة المكية مرحلة تشريع وتقنين، بل مرحلة تربية وتكوين.
وكان القرآن نفسه فيها يعنى – قبل كل شيء-بتصحيح العقيدة وتثبيتها، ومد أشعتها في النفس والحياة، أخلاقا وأعمالا صالحة، قبل أن يعنى بالتشريعات والتفصيلات»(11).
فكما رأينا التدرج في الأمور الشرعية السابقة هناك تدرج كذلك في قطع دابر الكافرين المستكبرين الجاحدين بآيات الله تعالى من إمهال إلى استدراج إلى تدمير وهلاك؛ قال الحق جل وعلا: ﴿وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِاٰيَـٰتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ﴾(12)، وقال عز من قائل: ﴿فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ﴾(13).
(4) التدرج في التربية النبوية للصحابة:
إن مراعاة التدرج كانت سمة لازمة للتربية النبوية للصحابة في مكة والمدينة، لأن تربية النفس الأمارة بالسوء وغسلها وتزكيتها وتطهيرها حتى يزول ما علق بها من شرك وجبروت و آفات ليس بالخطب الهين، كما أن ما تجذرت عليه من مألوفاتها لا يمكن إزالتها في وقت وجيز، بل الأمر يحتاج إلى تدرج ومراحل عديدة.
فالتدرج لازم لتربية النفوس؛ إذ هو سنة من سنن الله في خلقه التي يجب مراعاتها والأخذ بها، فكما بدأت الدعوة النبوية بالتدرج عبر مراحل، فكذلك التربية والدعوة جزء منها، وهذا في غاية الأهمية؛ إذ لا يمكن أن نتصور تغييرا بين عشية وضحاها، فلو كان الأمر كذلك، لكان سيد الوجود صلى الله عليه وسلم أولى به، وقد أخذ بسنة التدرج في كل أنواع الجهاد، من تربية ودعوة وقتال في سبيل الله وبناء المجتمع الإسلامي… لأن التربية عليها مدار كل شيء؛ إذ لا يمكن أن نتصور جهادا بدون تربية.
هذا فضلا على أن التربية تقوم بمعالجة أشخاص لهم ماض، وبيئة اجتماعية مفتونة، واستعدادات. هذه المعالجة تريد من المربي أن يتدرج في التربية، وتريد منه حلما كثيرا وتؤدة، وصبرا طويلا، وتنويعا في الوسائل والأساليب، حتى تنضج الثمرة، ويشتد عود الغرس.
والله جل في علاه خلق السموات والأرض في ستة أيام، وخلق الإنسان عبر أطوار نطفة فعلقة فمضغة…، وكذلك الحيوانات والأشجار والنباتات، ونزول الغيث… وكذلك نزول القرآن بالتدرج، وهو سبحانه تعالى وتقدس قادر على أن يقول لشيء كن فيكون، ومع ذلك كان الخلق في تدرج لينبهنا إلى أهمية هذه السنة الإلهية في الحياة، فالأمة المستخلفة في الأرض والمبشرة بالخير والمتطلعة إلى التمكين والظهور في الأرض لابد لها أن تسلك سبيل التدرج في كل شيء.
ويبدو أن استيعاب هذه السنة الإلهية يعين على حل الكثير من المشاكل، واقتحام العقبات الكأداء.
ولذلك مكث النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة عشر عاما في مكة، وعشر سنوات في المدينة يربي أصحابه على الإيمان والمحبة والبذل والتؤدة والجهاد… مراعيا سنة التدرج، وسنة الله في تغيير ما بالأنفس، فتدرجت التربية من صحبة النبي صلى الله عليه وسلم، إلى الإيمان بكل أركانه، وذكر الله وعبادته، إلى اختبار الصدق والإخلاص بالابتلاء، إلى البذل والسخاء، إلى ربط العلم بالعمل، إلى التميز عن المشركين ومفارقتهم، إلى الصبر وتحمل الأذى في سبيل الله، إلى تجديد قصدٍ ومضاءٍ في الطريق، إلى اكتمال الرجولة والجهاد والموت في سبيل الله.
خلاصة:
وباشتمال أحكام التدرج للصفة الخلقية للإنسان ولغيره من المخلوقات، مع التدرج في التشريع، والتدرج في الدعوة والتربية، والتدرج في إهلاك الظالمين، يستكمل التدرج شموليته في الخلق والأمر.
* * *
الهوامش:
(1) سورة الإسراء: 106.
(2) سورة نوح.
(3) سورة الروم : 39.
(4) سورة النساء.
(5) سورة البقرة : 219.
(6) سورة آل عمران : 130.
(7) سورة النساء : 43.
(8) سورة البقرة.
(9) سورة المائدة : 90.
(10) روائع البيان تفسير آيات الأحكام من القرآن، محمد علي الصابوني، 2/427-429.
(11) الخصائص العامة للإسلام، الشيخ يوسف القرضاوي، ص182.
(12) سورة الأعراف: 182.
(13) سورة القلم: 44.
* * *
* *
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، ذوالحجة 1438 هـ = أغسطس- سبتمبر 2017م ، العدد : 12 ، السنة : 41