دراسات إسلامية
بقلم: د. السيد محمد الديب (*)
للتطوع إلى عمل الخير أحوال متعددة، ومساقات مختلفة، وأرقى المقاصد لذلك أن يكون الفعل بلا مقابل حسّي أو معنوي، إذ ينهض الإنسان بما يقبل عليه ويشرع فيه، ابتغاء ذات الله تعالى، وليس سعيا لوجاهة اجتماعية مستهدفة، أو هدف دنيوي يسعى إليه.
والعمل التطوعي: انتصار على أنانية النفس، وقهر للرغبة في إثبات الأهواء، بحيث تكون الأهداف المنوطة، بالفعل، تعبيرًا عن احتياجات مشروعة لصالح الفرد والجماعة.
إن التطوع لعمل الخير مشاركة إيمانية بإحساس المجتمع، أو مجموعة من الناس إلى شيء ضروري، وعندما يهبُّ المسلم من تلقاء نفسه لصنائع المعروف؛ فإنه يكتسب الرضا والثواب العظيم من الله تعالى، ومحبة كل من يصل إليه ناتج الخير المتحقق من التطوع.
والطَّوع كما تقول مصادر اللغة: ضد الكره، والتطوع: تبرع ينهض به الإنسان من ذات نفسه، ويكون في العبادة فيما زاد على الفريضة الواجبة، وبذلك يحقق القرب والارتقاء في علاقة الإنسان بربه، ويكون التطوع في سائر العبادات، ومن ذلك ما جاء في القرآن الكريم بحق الصيام والإطعام والحج والعمرة، قال تعالى: ﴿فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ﴾ (البقرة:184).
وقيل في ذلك: «من أراد الإطعام مع الصوم» وقيل: «من زاد في الإطعام على المدّ»، وقال ابن العباس: «فمن تطوع خيرًا» قال: «مسكينا آخر فهو خير له» (تفسير القرطبي ج2 ص289).
والحاصل أن الزيادة منصوص عليها مع الاختلاف في التوجيه بين المفسرين، فالتطوع بالإطعام مع الصوم زيادة على الواجب، وللفقهاء بيانات متعددة في هذا الشأن، قال تعالى: ﴿إِنَّ الصَّفَا وَالْـمَرْوَةَ مِنْ شَعَآئِرِ اللهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ﴾ (البقرة:١٥٨) قال القرطبي (رحمه الله) تعقيبا على رأي أبي حنيفة وغيره من الفقهاء ممن قالوا: إن السعي بين الصفا والمروة ليس بواجب: «فإن تَرَكه أحد من الحجاج، حتى يرجع إلى بلاده جَبَره بالدم، لأنه ليس بسنة من سنن الحج، وهو رأي مالك في العتبية»(1). وروى ابن عباس وابن الزبير وأنس بن مالك وابن سيرين: «أنه تطوع»(2).
مجالات العمل التطوعي
يأتي التطوع من الفرد أو الجماعة لعمل خيري يعود أثره إلى المجتمع، وتتحقق به المنفعة للكثيرين، ويحصل المتطوعون على الثواب العظيم من الله تعالى، وأمثلة ذلك كثيرة، مثل بناء مسجد يهتدي الناس به إلى صحيح الإيمان، أو بناء مستشفى للعلاج من الأمراض وما يستتبعه من التوسع في الرعاية الصحية ومكافحة التدخين، أو إقامة دار للعمل النافع المفيد مثل تحفيظ القرآن الكريم، أو رصف طريق تنحل به مشكلات السير والحركة، وما شابه ذلك مثل الإنفاق على دور الأيتام ودور المسنين، ورعاية أسر المسجونين، وأكثر ما يكون التطوع إلى عمل الخير خلال الكوارث والنكبات، وتجلى ذلك في أعقاب زلزال عام 1992م بمصر، حيث تعددت مجالات التطوع في سابقة لازلنا نذكرها بفخر واعتزاز، فالعمل التطوعي على كافة أشكاله يضاعف من قدرة الإنسان على التفاعل والتجاوب مع الآخرين، وفي هذا الشأن قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى»(3).
فالتطوع ليس واجبًا أو مفروضًا؛ بل هو عمل اختياري، ولا يتحقق إلا من الأتقياء والأنقياء من الناس، هؤلاء الذين يرون سعادتهم في إسعاد الآخرين، والناس في ذلك درجات قيل عنهم: «والناس ثلاثة أقسام: إما غافل مهمل لا يؤدي فرضا ولا نفلا، وهذا شر العباد، وإما متوسط يؤدي الفروض والواجبات ويكتفي بها ويقتصر عليها، وهذا جدير بالنجاة من العذاب، وإما أن يؤدي الفرائض ويتبعها بالسنن والنوافل، وهذا خير الناس وأحقهم بفضل الله سبحانه»(4).
فإذا كان العمل التطوعي نشاطا اجتماعيّا اختياريّا دون إلزام أو فرض فإن جذوره راسخة وعميقة وممتدة ومؤكدة في نصوص القرآن والسنة.
ويأتي الإحسان بمعنى الفضل والزيادة في عمل الواجب «فأداء الواجب عدل والزيادة عنه إحسان»(5) وفي هذا المعنى، قال الله تعالى: ﴿إنَّ الله يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ﴾ (النحل:90).
تعدد الأحوال في عمل الخير
لا تقتصر علاقة المسلم بالمجتمع على ما سبق بيانه من مجالات التطوع إلى عمل الخير، ومن ذلك ما ينصرف إلى مساعدة المحتاجين مما يدخل في مجالات الصدقات التطوعية، وشهادة الحق، التي تسهم في إنصاف المظلوم، والقرض الحسن الذي لا يلجأ إليه إلا شديد الاحتياج، هروبًا من قسوة الربا وفظاعة القهر والإذلال.
ولقد تعددت مجالات التطوع إلى عمل الخير في أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم بحيث لا يقتصر العمل التطوعي على نقاط محدودة حسية أو معنوية، بما لا ينتبه إليها الكثيرون، ولا تدخل في تقديراتهم إلى مجال العمل التطوعي، ومن ذلك ما رواه ابن عمر (رضي الله عنهما) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أحب الناس إلى الله أنفعهم للناس، وأحب الأعمال إلى الله عز وجل سرور تدخله على مسلم، أو تكشف عنه كربة أو تقتضي عنه دينا، أو تطرد عنه جوعا، ولأن أمشى مع أخي المسلم في حاجة أحب إليَّ من أن أعتكف في المسجد (أي مسجد المدينة) شهرًا، ومن كفّ غضبه ستر الله عورته، ومن كظم غيظه – ولو شاء أن يمضيه أمضاه – ملأ قلبه رضا يوم القيامة، ومن مشى مع أخيه المسلم في حاجة حتى يثبتها له أثبت الله قدمه يوم تزل الأقدام، وإن سوء الخلق ليفسد العمل كما يفسد الخل العسل»(6).
فهذا الحديث بمثابة بيان شامل للأمة على امتداد رحلتهامع الزمن، عالج الرسول صلى الله عليه وسلم فيه منظومة العلاقة بين المسلم وغيره، وما يكتنفها من أعمال وأحوال تطوعية، تسهم جميعها في الارتقاء الإيماني باالمكونات المجتمعية، بحيث تتحول فيه الحياة إلى نماذج تكاتفية يزداد إحساس المسلم فيها بغيره، فينشط إلى صنائع المعروف اختيارًا بلا إجبار، وليس سعيًا إلى شهرة أو انتصارٍ لمذهب سياسي أو توجه فكري، بحيث يكون التسابق إلى عمل الخير ابتغاء محبة الله والرسول صلى الله عليه وسلم.
وقد تحدث ابن القيم في (زاد المعاد) عن جانب من حياة الرسول صلى الله عليه وسلم عرض فيه لشيء من منهجه في التطوع إلى عمل الخير، بحيث يكون هديا واهتداء لسائر مكونات أمته صلى الله عليه وسلم.
قال ابن القيم: «كان صلى الله عليه وسلم أعظم الناس صدقة مما ملكت يده، وكان لا يستكثر شيئًا أعطاه لله تعالى ولا يستقله، ولا يسأله أحد شيئا عنده إلا أعطاه، قليلاً أو كثيرًا، وكان عطاؤه عطاء من لا يخاف الفقر، وكان العطاء والصدقة أحب شيء إليه، وكان سروره وفرحه بما يعطيه أعظم من سرور الآخذ بما يأخذه، وكان أجود الناس بالخير.. بما يأخذه، وكان إذا عرض له محتاج آثره على نفسه تارة بطعامه، وتارة بلباسه، وكان يتنوع في أصناف عطائه وصدقته، فتارة بالهبة وتارة بالصدقة وتارة بالهدية…»(7) إلى غير ذلك من الطرائق الإيمانية في أعمال البر والخير، وقد أفاض ابن القيم في بيان المنهج النبوي وتطبيقه، للاقتداء به والسير على منواله وفق متطلبات الأحوال.
التطوع إلى عمل الخير في عصر الرسول صلى الله عليه وسلم
كانت حياة الإسلام بالمدينة المنورة في أشد الحاجة إلى المال، الذي تُدعم به حياة المهاجرين، الذين تركوا ديارهم وأموالهم، وانتقلوا إلى المدينة، وهي مجتمع جديد بالنسبة لهم لا يعرفون كل أسراره ومنافذ الوصول إلى الثروة فيه، وانطلق الكثيرون منهم إلى دروب الحياة بما فيها من رزاعة وتجارة وصناعة، لكن احتياج الدولة الجديدة إلى المال كان فوق طاقتها، ومن هنا كان التسابق إلى عمل الخير إما بالدعوة الشمولية العامة، التي لا توجه إلى فرد أو جماعة بعينها أو أن يكون التطوع من الصحابي بلا دعوة مطالبة له، وصار ذلك أسلوبا ومنهجا ارتقت به الأمة الإسلامية في مراحلها الأولى، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من يحفر بئر رومة فله الجنة، فحفرها عثمان»، وقال (عليه الصلاة والسلام): «من جهز جيش العسرة فله الجنة فجهزه عثمان»(8).
لقد أخلص ذو النورين في تجارته فزادت ثروته وكان السبق إلى التطوع لحفر البئر، ليرتوي العطشى وتحيا الأرض ويزداد النماء، وكان التسابق لتجهيز الجيش الإسلامي عندما استشعر الرسول صلى الله عليه وسلم أن دولة المدينة مهددة بالهجوم من الروم قبل غزوة تبوك، ولم يكن موقف عثمان بن عفان – رضي الله عنه- إلا صورة لحالة واحدة أو بيانا لعدة مواقف، تنافس فيها مع أثرياء الصحابة إلى العمل التطوعي، ومنهم أبوبكر الصديق وعمر بن الخطاب، أما عبد الرحمن بن عوف فهو أحد العشرة المبشرين بالجنة، وأحد الثمانية السابقين إلى الإسلام، وأحد الذين هاجروا الهجرتين إلى الحبشة وإلى المدينة المنورة، وكان على رأس المجاهدين في غزوة تبوك، ولما كان يوم العسرة وتسابق الصحابة إلى التطوع لدعم تجهيز الجيش فتبرع ابن عوف بمئة أوقية من الذهب الخالص، وهي نصف ماله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ماذا تركت لنفسك»؟ فقال: بقي عندي مثل ما تبرعت لا يزيد ولا ينقص، فقال صلى الله عليه وسلم: «بارك الله لك فيما أمسكت وفيما أعطيت»(9) وفي صنائع هؤلاء الكرام نزل قول الله تعالى: ﴿الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوٰلَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ (البقرة:٢٦٢)، وقد صارت هذه الأعمال الخالصة لوجه الله تعالى ذات دلالات مشرقة من زمن المبعث النبوي، ليحيا على تذكرها والاقتداء بها المخلصون الصادقون من عباد الله المتقين.
إن العمل التطوعي تحتاج إليه الأمم الناهضة، التي تضع في خططها أهدافًا عظيمة تسعى إليها ولا يتحقق ذلك إلا إذا تعاونت كل فئات الأمة وطوائفها، لكن النظرة الذاتية الضيقة المعبرة عن الأنانية والطموح الخادع تجعل الكثيرين لا يفكرون إلا في أنفسهم، ويغفلون عن الطوائف التي تلهث إلى رغيف الخبز ولا تسعفهم أعمالهم البسيطة على سد احتياجاتهم الضرورية فلا بد أن تكون النظرة عمومية شاملة كالأشعريين الذين جمعوا ما كان لديهم في رداء واحد واقتسموه بالسوية فيما بينهم، فإذا ما انخرط الناس في الأعمال التطوعية فإن التقارب سوف يشمل الكثيرين، وتتلاشى الكراهية والبغض، الذي ينتاب المحتاجين في ظلال الحياة الاجتماعية المكشوفة بكل وسائل الإعلام.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله ما لا فسلطه على هَلَكته في الحق، ورجل أتاه الله الحكمة فهو يقضى بها ويعلمها»(10) فما أجدر المسلمين عموما أن يقتدوا برسول الله صلى الله عليه وسلم، ويتبعوا منهج أصحابه في التسابق إلى العمل التطوعي، الذي يرضاه الله سبحانه وتعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم.
* * *
الهوامش:
العتبية: كتاب في مذهب الإمام مالك.
تفسير القرطبي ج2 ص183.
صحيح البخاري (6011) وصحيح مسلم (2586) واللفظ له.
موسوعة أخلاق القرآن للدكتور/أحمد الشرباصي ج5 ص66.
فيض الخاطر لأحمد أمين ج9 ص20.
أخرجه الطبراني في المعجم الكبير (13646)، وأخرجه ابن أبي الدنيا في كتاب قضاء الحوائج، وحسنه الألباني وصححه في الأحاديث الصحيحة (906).
زاد المعاد لابن القيم ج1 ص15.
البخاري باب مناقب عثمان بن عفان، فتح الباري ج7 ص65.
العشرة المبشرون بالجنة – عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه بقلم الدكتور/ محمد رجب البيومي ص19.
البخاري ومسلم. والحسد المذكور يعني الغبطة وهي: أن يتمنى الإنسان أن يكون لديه مثل ما لدى الآخرين.
* * *
* *
(*) الأستاذ بجامعة الأزهر.
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، ذوالحجة 1438 هـ = أغسطس- سبتمبر 2017م ، العدد : 12 ، السنة : 41