الفكر الإسلامي

بقلم : الشيخ الكبير المربي الجليل العلامة أشرف علي التهانوي

المعروف بـ Mحكيم الأمةL المتوفى 1362هـ / 1943م

تعريب وتعليق : أبو فائز القاسمي المباركفوري

       الصوم في اللغة العربية: الإمساك، وشرعًا: هو الإمساك عن الطعام والشراب والجماع من طلوع الصبح الصادق إلى غروب الشمس. وهو ثاني فرائض الإسلام وأركانه الواجبة على الأمة الإسلامية. وتوحي دراسة تاريخ الصوم أنه أقدم العبادات التي فرضت على العالم وفي الأديان كلها. فلم يأت دين أوشريعة أو زمن منذ عهد آدم إلى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم إلا وجبت هذه الفريضة فيه. فكان آدم عليه السلام يواظب على صوم أيام البيض من كل شهر قمري. أي الأيام التي لياليها تضيء بالقمر إضاء باهرةً. وهي اليوم الثالث عشر و الرابع عشر والخامس عشر من الشهر. واستمر صيام أيام البيض هذه إلى عهد نوح عليه السلام، ويطلق «آدم الثاني» على نوح عليه السلام، فكأن آدم الأول استمرت عبادة الصيام هذه الأيام من عهده إلى عهد آدم الثاني. وإن اختلف أهل العلم هل كان هذا الصوم فريضة أو تطوعا ونافلة. ثم وجب صوم يوم عاشوراء – العاشر من المحرم الحرام- والسبت وأيام أخرى على عهد بني إسرائيل، وبتعير أدق على ملة يهود. وقَدِمَ النبي صلى الله عليه وسلم المدينةَ المنورة مهاجرًا فصادف اليوم العاشر من شهر المحرم الحرام بعد تسعة أشهر بالتحديد، فقيل له: إن يهود المدينة صاموا اليوم. وقال اليهودُ– حين سئلوا عن ذلك–: إن الله تعالى نَجَّا موسى عليه السلام وقومه من فرعون في العاشوراء،فنصومه شكرًا على ذلك. كما أن النصارى وجب عليهم صيام شهر رمضان هذا، وكانوا يستبدلون به شهرًا آخر بزيادة عشرة أيام توقيا من شدة البرودة والحرارة.

       واستقرت الشريعة والدين الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم بصورة تدريجية في غاية من الحكمة. وهو ما ينسجم مع إنشاء الكون وخلق البشر كل الانسجام. فلم يجب على الأمة الإسلامية في أول أمرها من الأركان والفرائض إلا التوحيد،حتى أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم في السنة الحادية عشرة من النبوة وعُرِج به إلى السماوات، ففرضت الصلاة على الأمة لأول مرة. ويرجع هذا التدرج والتأجيل إلى أن دين الإسلام ليس عبارة عن التدقيق الفكري والعقلي ولا الاستنتاج الذهني، بل هو دين عملي وتطبيقي محض. وعليه قال رسول الله-صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّا أُمَّةٌ أُمِّيَّةٌ، لاَ نَكْتُبُ وَلاَ نَحْسُبُ، الشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا»(1).

       عُلم منه أن دين الإسلام عبارةٌ عن العمل والسلوك. ولاشك أن تحويل الأحكام والأوامر إلى عمل و سلوك في حاجةٍ إلى نفسية كونية ومتطلبات فطرية، فإذا لم يتم خلق عواطف ومشاعر تنسجم مع القانون والأمر ولم يمهد له الذهن والفكر؛ فإن ذلك القانون قد يُزَين القرطاسَ وأما أن يتحول إلى عمل وسلوك، فهيهات وهيهات. وأخيبُ القوانين والأوامر في العالم ما لم يتم توطئة الفكر والذهن له، ولا تَمَّ خلق العواطف والمشاعر من خلال التربية والتثقيف مسبقًا. والله سبحانه وتعالى- وهو أحكم الحاكمين والأعلم و الأكثر حكمةً- قدَّم على بيان أحكام الحلال والحرام في كلامه – إنزالَ المعاني التي تشحذ العمل وتثير العواطف والسلوك. وهي معاني الجزاء والعقاب والحشر والنشر والموت وما بعد الموت، والجنة والنار.فلما تهيأ الجو الفكري والذهني من خلال هذه المعاني بدأ بإنزال الأوامر والنواهي والأحكام. وترتب على ذلك –وبصورة منطقية – أن تجلت للعالم – بعد سماع الحكم الإلهي من غير تنبيه أو معاتبة- من مظاهر حسن العمل وحسن الطاعة ما يعجز عن الإتيان بمثله أعتى الحكومات الدنيوية أو دين من أديان العالم.فمثلا الخمر التي أشربت في قلوب العرب نراها قد صبَّت في زقاق المدينة فور ما نزل الوحي بتحريمها؛ بل سارعوا إلى كسر كأسات الخمر وأوانيها. وبناءً على ذلك فرضت الصلاة- التي تشكل الركن الأول من أركان الإسلام بعد توحيد الله تعالى- بعد النبوة بإحدى عشرة سنة، ونزل الوحي بوجوب الصوم- الذي يعد الركن الثاني من أركان الإسلام الهامة- بعد الهجرة بنحو سنة ونصف سنة.

       والصوم في ظاهره عبارة عن الجوع والعطش، وعليه لم يفرض الصوم على المسلمين في الوقت الذي استولى عليهم الجوع والفقر والبؤس، وخاصة في السنة السابعة إلى السنة العاشرة من النبوة، حين قاطعت قريش بني هاشم، ولجأ رسول الله صلى الله عليه وسلم ببني هاشم إلى شعب أبي طالب. فقد صُبَّت على المسلمين في هذه السنوات الثلاث من مصائب الفقر والجوع والبؤس ماقد لا يتعرض له المسلمون إلى أن يرث الله الأرض ومَن عليها. فلو فُرض الصوم عليهم في تلك الحقبة من الزمان لاختفى فقرهم وجوعهم في ستار من العبادة، و لقالت الأجيال اللاحقة: إن الصوم ليس عبادةً من العبادات، وإنما هو حيلة سياسية للتكتم على الجوع و الفقر، ومن المتطلبات الآنية. وحيث لايعاني المسلمون هذه المجاعة والفقر اليوم؛ بل يملك أفراد هذه الأمة من الأموال و الثروات ما لو قارنتَ مجموعَ ما ملكه الصحابة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأموال بما يتمتع به فرد واحد من أفراد هذه الأمة اليوم لفاق ذلك مجموعَ ما كان يملكه الصحابة -رضي الله عنهم- من الثروات والأموال. فلم يكن ثمة ما يدعو إلى الصوم في أيام الرخاء والنعيم هذه!، وعليه فُرِضَ الصوم على المسلمين في الوقت الذي انتقلوا- المسلمون-  فيه مما كانوا يعانون من ضيق العيش وضنكه إلى حياة الرخاء واليسار.

       وعمل الأنصار بعد ما هاجر إليهم المهاجرون على توفير فرص العمل وأسباب المعيشة لهم- المهاجرين- مما جعلهم مستقلين في معاشهم. ثم إن المسلمين غنموا قافلة كفار مكة التجارية التي كانت عائدة من الشام فأصبح المسلمون أكثر رخاء وأرفه عيشًا. فلايسع أحدًا من العالمين أن يتهم  الصوم بأنه عبادة لم تُفرَض إلا بصورة طارئة ولاتشكل إلا حيلةً سياسية توفر غطاء على الجوع الذي كان يتعرض له المسلمون؛ بل يبدو – نظرًا إلى الوضع الرغيد – أن الصوم صلته بمن يتمتع بالرخاء ورغد العيش أكثر من صلته بالبؤساء الذين يصطلون بنار الجوع والفقر؛ فإن الجوع يشكل بنفسها نوعًا من الرياضة وهضم النفس، مما يعتري الفقيرَ البائس في معظم أيام السنة علاوةً على ما في صيام رمضان. وأما المنعمون الذين يتقلبون في أحضان الرخاء والنعيم فلايتوفر لهم فرص الرياضة الروحية وهضم النفس في مرحلة من مراحل الحياة وإن كان هؤلاء أحوج الناس إلى إصلاح الروح وشفائها. ففرض الله تعالى الصوم للجهاد الروحاني والرياضة النفسية في شهر رمضان.

       وعُلم منه أن الصوم –شأن سائر الأحكام والعبادات- له صورة ظاهرة وله روح. ولاينال عمل صالح أو عبادة من العبادات القبول عند الله تعالى ما لم يحمل معه روحه وحقيقته. فالإمساك عن الطعام والشراب والجماع يشكل الوجه الظاهر والصورة البادية للصوم، وأما روح الصوم وحقيقته فعبارة عن الرياضة الروحية والتغلب على دوافع المعصية وإخضاعها. وهو ما يطلق عليه الشريعةُ «المجاهدةَ». فيقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «من لم يدع قول الزور والعمل به والجهل، فليس لله حاجة أن يدع طعامه وشرابه»(2) أي لايستحق أن يوصف الصوم- في نظر الله تعالى- بـ«الصوم» إذا أمسك المرء عن الطعام والشراب دون أن يمسك عن المعصية والذنوب؛ فإن روح الصوم وحقيقته تتمثل في التغلب على النفس وترك المعصية. ولن يكون المرء فردًا من أفراد المجتمع مهذبًا ومثقفا ولامواطنًا متحضرًا في المجتمع الإنساني فضلًا عن أن يتم بناء سيرته وسلوكه إذا لم يتغلب على دوافع المعصية وأهواء النفس ومتطلباتها.وتفيد دراسة النفس الإنسانية أن الإنسان ينبعث فيه نوعان من العواطف والدوافع بقوة جامحة. وهاتان العاطفتان تحفزانه– في الغالب – إلى هوة المعاصي والذنوب: إحداهما: عاطفة الطلب والهوى، مما ينبعث في القلوب لتحصيل النافع  الحسن الخلاب. والثانية: عاطفة الغضب والدفاع مما ينبعث لإزالة ما يعوق دون تحقيقه الأهداف وكسبه النجاحَ. فإذا لم يتم التغلب على العاطفة الأولى بالتربية الروحية والرياضة النفسية فاق الإنسانُ الحيواناتِ والأنعامَ في العمل بحرصه ومتطلباته. وإذا لم يتم التغلب على قوة الغضب والغيظ الجامحة بهضم النفس وقتلها لَاستحَالَ الإنسان إلى الوحشية والبربرية والاستبداد. فيستلزم بناءُ الإنسانية والتهذيب والتثقيف سلوكَ طريق التربية الروحية والرياضة النفسية. وخير السبل وأكملها إلى ذلك هو الصوم.

       وقال الصوفية البارعون في تزكية النفس وتربية الأخلاق: إن تربية النفس وإصلاح الروح المتكامل يتطلب أربعة أنواع من الرياضات: الإقلال من الطعام، والإقلال من النوم، والإقلال من الكلام، والإقلال من مخالطة الناس؛ فإن دراسة أمراض الروح وأسبابها تفيد أن الإكثار من الطعام والنوم والكلام ومخالطة الناس مما يورث الإنسان أنواعًا من الأمراض الخلقية والخصال السيئة. فالإكثار من الطعام يؤدي- علاوة على الأمراض الجسدية- إلى الكسل والتثاقل في النفس نظرًا إلى الجانب الروحي. ثم إن هذه الصفات تسبب بعضَ الهنات الخلقية أو التقصير في العمل على أقل تقدير. وبناءً عليه وُصِفَ الإقلال من الطعام سبيلا إلى إصلاح الأخلاق والروح. كما أن الإكثار من النوم يَفُلُّ تفكير الإنسان وذهنه، وتصاب الروحانية بالموت والفناء. فلابد من الإقلال من النوم لإصلاح الأخلاق وتربية الروح. وكذلك الإكثار من الكلام والتشدق مما يستخف بالإنسان ويجعله إنسانا لامسؤولا. والإكثار من الكلام يؤدي إلى اضحملال الروحانية وموتها.

       وقد وصفت تلاوة القرآن الكريم ومدارسته لتدارك هذا الضعف والتفادي منه، وذلك ليجعل ذلك الإنسان في معزلٍ عن التشدق والإكثار من الكلام. أضِف إلى ذلك أن الإكثار من العلاقات والمخالطة غير اللازمة مما يؤدي إلى عواقب روحية وأخلاقية غير سليمة. وقد  تحدَّث علماءُ الأخلاق كثيرًا عن  المضار التي تُحدِثها العلاقاتُ والمخالطة غير الواجبة. ولو ذهبنا نرصد التقلبات المتنوعة في الحياة الإنسانية لتبين لنا أن هذا التقلب والتحول يرجع إلى أمر واحد يتمثل في العلاقات ومخالطة البشر بعضهم ببعض. فمصاحبة الصلحاء تُصلح الإنسان ومخالطة الأشرار تُفسده. وعليه سنَّ علماء الأخلاق القانون الخاص بالمخالطة فيما بين البشر بقولهم: الوحدة خير من جليس السوء، و الجليس الصالح خير من الوحدة».

       فعلم منه أن العلاقات غير الواجبة والإكثارَ من المخالطة مذموم وضار بالأخلاق والروح. فالإقلال من المخالطة وُصِفَ علاجًا ورياضةً من الرياضات الروحية والأخلاقية. و هو العشر الأواخر من رمضان. مما واظب عليه النبي صلى الله عليه وسلم وداومَ.

       وهذا جانب هام من جوانب الصوم الخاص بتزكية النفس وتربية الروح. وله جوانب أخرى تسترعي الانتباه. منها أن كل عبادة تختص بميزات لاتوجد في غيرها من العبادات، فمثلا التظاهر بالعبودية مما يتصف به الصلاة والذي يتمثل في وضع الرأس- الذي يحتل من المكانة السامية مالايخفى- على الأرض. مما يفقده العبادات الأخرى. وتخلية القلب من شوائب حبِ المال مما يتصف به الزكاة لاتوجد في غيرها من العبادات. و قِسْ عليه الصوم الذي يعدُّ سرًا بين العبد وربه، مما لايطلع عليه غيرهما، فهذه الخصيصة لاتوجد في العبادات عدا الصوم. وعليه كان أرجى العبادات بالقبول عند الله تعالى.

*  *  *

الهوامش:

(1 )       الحديث رواه البخاري برقم 1913 من حديث ابن عمرt.

(2 )       رواه البخاري برقم 6057 من حديث أبي هريرة.

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، رمضان – شوال 1438 هـ = يونيو – يوليو 2017م ، العدد : 9-10 ، السنة : 41

Related Posts