دراسات إسلامية

بقلم: أ/ محمد إبراهيم الخطيب (يرحمه الله)

            * الصوم هو أحد الأركان الخمسة في الإسلام يقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ (البقرة:١٨٣).

       ومعنى هذا أن تشريع الصوم ليس جديدًا في الشرائع السماوية، وإنما هو تشريع قديم شرع للأمم السابقة أيضا، وفي هذا ما فيه من راحة للنفوس وتيسير للقبول والطاعة وعدم الشعور بالحرج؛ لأن المسلمين ليسوا منفردين بما يطالبون به.

       والهدف من الصوم هو أن يكون وقاية تقي الإنسان من الميول المرذولة ومن كل المنكرات، وإذا كانت هذه الوقاية للمجتمع في مجموعه.. وفي البداية نذكر بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنما الصوم جنة، فإذا كان أحدكم صائما فلا يرفث ولا يجهل، وإن امرؤ قاتله أو شاتمه فليقل إني صائم».

       ولكن في أي مجال تكون هذه الوقاية؟ إنها تقيه من الغفلة عن الله ونسيانه، وتعده لمراقبته والخشية منه.. ذلك لأن أمر الصيام موكول إلى نفس الصائم حيث لا رقيب عليه إلا الله فإذا ترك هذا الصائم شهواته التي تعرض له أثناء صومه امتثالا لأمر الله الذي يراه وإن كان لا يراه، وشعورًا منه بأنه يطلع على سر نفسه، وإذا تكرر منه هذا الموقف مع الشهوات شهرًا كاملا تكونت عنده ملكة مراقبة الله وخشيته.. والحياء من أن يراه الله حيث نهاه.. وبهذا يكون قادرًا على ترك ملذات يجمل به أن يتركها، ثم إن مراقبة الله هذه قادرة على أن تؤهله لكل أعمال الخير، وأن تحول بينه وبين كل ألوان الشر، فإذا كان لا يخدع ولا يُخدع ولا يغش ولا يقبل أن يُغش ولا يَظلم ولا يُظلم ولا يهضم حقا ولا ينصر باطلا، ولا يسعى أبدًا بالفساد في الأرض، وهو بهذا السلوك الراقي يبرهن في صورة عملية على أن مجرد الإمساك عن الطعام والشراب بعيدًا عن مراقبة الله أمر غير مقصود من الصوم الذي فرضه الله على عباده المؤمنين، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه».

       ويقي الصوم الصائم من خطر شهوته التي هي أم المعاصي حيث يخففها عنه.. وبهذا يضعه على طريق الطاعة، ويدفع به إلى الاستقامة في كل صورة من صورها.. وقد قرر رسولنا صلى الله عليه وسلم هذا الدور للصوم حين قال: «يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة – أي القدرة على الزواج – فليتزوج؛ فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء – أي وقاية».

       ويقي الصوم أيضًا من سلطان العادة، تلك التي يبلغ تأثيرها عند بعض الأفراد حد الاستعباد فمثلا إذا تأخر الطعام عن موعده وعضهم الجوع ثاروا، وانفعلوا، وساءت أخلاقهم وقد يكون هؤلاء مستعبدين لعادات المكيفات من القهوة والشاي والتدخين، ومثل هؤلاء إذا طلب منهم تغيير نظام حياتهم لم يستطيعوا فيفشلوا أمام التبعات التي يلقيها الزمن عليهم، فإذا جاءالصوم وأضعف سلطان هذه العادات فقد أدى دورًا عظيمًا في بناء الإنسان والمجتمع.

       ولا شك أن الخلاص من ضغط الشهوة وسلطان العادة تقف وراءهما بصورة واضحة قوة الإرادة التي يقوم الصوم بها دون أدنى شك.. ذلك لأن الصائم يواجه حرمانا ماديا في نهاره يستعين عليه بقوة إرادته التي تجعله يتفوق على هذا الحرمان أو هذه الشهوة أو العادة بتفوقه على نفسه الأمارة بالسوء، ولا عجب في هذا؛ لأن الصيام حقا هو كف النفس بجميع حواسها عن كل ما لا يليق بالمسلم: فإطلاق اللسان بلغوٍ في أعراض الناس وسلوكهم – بحق وبدون حق – جرم ينافي الصيام، وكذلك إطلاق العين وراء ما لا يحل للإنسان أن يراه – أيا كان نوعه – وأيضًا استراق السمع والتجسس على الناس، ومد الأيدي إلى ما يحرم من كل ما يملكه الغير ولم يسمح به، والمشي بالقدمين إلى الشر، واستخدام المال أو الصحة أو الفراغ أو الشباب في غير ما يتفق ووضع الصائم، كل أولئك وما إليه جرم ينافي الصيام. وهكذا نجد أن الصائم في مسيس الحاجة إلى إرادة قوية يتمكن بها من ضبط نفسه ذلك الذي يتجلى في مواجهة نفسه الأمارة بالسوء، وفي مواجهته لغيره من السفهاء، وتربية إرادة الصائم تقتضي أن يواجه الحياة والمجتمع بعيدًا عن الانعزالية والسلبية المطلقة، وما يقال على ألسنة العامة من أن «نوم الصائم عبادة» وهذا القول يعد أمرًا بعيدًا عن الصواب، لأن في سلسلة رواته – كما يقول «الحافظ العراقي» في تخريجه لأحاديث «إحياء علوم الدين»: «سليمان بن عمر النخعي أحد الكذابين»، وهذا هو الصواب؛ لأن الصوم يجب أن يدفع إلى العمل وإلى تربية إرادة الصائم ولن تتوفر هاتان الناحيتان إذا ركن الصائم إلى النوم بحجة أن نوم الصائم عبادة.

       ثم ماذا؟ إن الصوم يقي من القسوة والغلظة ويفجر الصائم ينبوع العطف والرحمة على الفقراء والمساكين وأصحاب الحاجات؛ لأن الصائم عندما يجوع يتذكر من هذا حاله في عموم الأوقات فيحمله هذا التذكر على رحمة المساكين والضعفاء، لأن الرحمة في الإنسان تنشأ عن الألم، والصيام طريقة عملية لتربية الرحمة في النفس، والحقيقة أنه متى تحققت رحمة الغنى للفقير الجائع أصبحت للكلمة الإنسانية الداخلية سلطانها النافذ لهذا روي: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان).

       ثم ماذا؟ إنه يقي الصائم أيضًا من الرغبة في التسلط والتكبر ويشعره بالمساواة فلا فرق في الصوم بين غني وفقير؛ لأن هذا الصوم نظام عملي من أقوى وأبدع الأنظمة التي شرعها الله تعالى لعباده وفرضها عليهم ليتساوى الجميع في بواطنهم وليشتركوا في الإحساس بالألم الواحد وهنا يتعاطفون. وهذا الذي ذكرت يمثل بعض الصور التي جعلت الصوم جنة (بضم الجيم) وجعلته – بلا ريب – علاجا ناجعا لكثير من الأمراض النفسية والبدنية والاجتماعية.

       * ولا شك أن صيام المسلمين بصورته الواقية التي عرضت لها سريعا إنما هو صورة من صور رحمة الله تعالى بعباده المؤمنين؛ لأنه خير لهم في دنياهم وممهد لهم – بإذن الله ومشيئته – طريقهم إلى جنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين الذين وقوا أنفسهم من كل ما حرم الله وحذر منه.

       وها هو ذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن في الجنة بابا يقال له الريان لا يدخله إلا الصائمون، فإذا دخلوا أغلق فلا يدخل منه أحد» ويقول: «من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن قام ليلة القدر غفر له ما تقدم من ذنبه». وقد قرن الرسول – عليه الصلاة والسلام – الصيام بتلاوة القرآن الكريم فقال فيما رواه أحمد والحاكم: «الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة، يقول الصيام: أي رب منعته الطعام والشهوة فشفعني فيه، ويقول القرآن: منعته النوم بالليل فشفعني فيه، قال: فيشفعان». وها هو ذا يقول أيضًا في بيان ثمرة الصيام الذي يرضى عنه الله تعالى: «كل عمل ابن آدم يضاعف، الحسنة بعشر أمثالها إلى سبع مئة ضعف، قال الله تعالى في حديث قدسي: «إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به، يدع شهوته وطعامه من أجلي، للصائم فرحتان: فرحة عند فطره، وفرحة عند لقاء ربه، ولخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك».

       وأقف أمام هذه العاقبة التي أعدها الله للصائمين حقًا وصدقًا لأقول وأؤكد أنها لا يمكن أن تكون نتيجة الامتناع عن الشهوات والمنكرات فقط دون القيام بعمل إيجابي يقرب العبد من ربه أكثر فأكثر، ولكن لماذا؟

       لأن عبادة الصوم في الإسلام ذات شطرين؛ فهي في شطرها الأول كف وانتهاء وابتعاد واجتناب ووقاية من المنكرات، ولكنها في شطرها الآخر إقبال واقتراب وإنشاء وبناء فتح الإسلام فيه بابين للأرواح تتدفق منهما: أما أحدهما فباب إنساني، وأما الآخر فباب رباني .. ومن هنا نرى الصائم الصادق يطعم الجائع، ويسقي الظمآن، ويفتح لنفسه مسالك متعددة للطاعات: فهو في تسبيح وتحميد وتكبير وتمجيد وهو راكع ساجد قائم مشمر ناهض، وهو في مناجاة الله بكلامه وفي مدارسة كتابه كما كان يفعل رسول الله مع جبريل عليهما السلام، كل هذا العمل الإيجابي وغيره إنما هو مكمل للشطر الأول الذي وقى ومهد وأعد الأرض لتنبت نباتا حسنا مباركا.

       * وهنا ندرك تمام الإدراك سر حفاوة وفرحة رسول الله صلى الله عليه وسلم بشهر رمضان.. لأنه نعمة كبرى للمسلمين وللإسلام وللفرد والمجتمع.

       روى ابن خزيمة عن سلمان الفارسي رضي الله عنه أنه قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في آخر يوم من شعبان قال: «أيها الناس قد أظلكم شهر عظيم مبارك، شهر فيه ليلة خير من ألف شهر، جعل الله صيامه فريضة، وقيام ليله تطوعًا، من تقرب فيه بخصلة من الخير كان كمن أدى فريضة فيما سواه، وهو شهر الصبر، والصبر ثوابه الجنة، وشهر المواساة، وشهر يزاد فيه رزق المؤمن، من فطر فيه صائما كان مغفرة لذنوبه، وعتق رقبته من النار، وكان له مثل أجره من غير أن ينقص من أجره شيء».

       وكان صلى الله عليه وسلم يبشر أصحابه بقدوم رمضان ويقول: «قد جاءكم شهر رمضان شهر مبارك كتب عليكم صيامه، تفتح فيه أبواب الجنة، وتغلق فيه أبواب الجحيم، وتغلّ الشياطين، فيه ليلة خير من ألف شهر» وهو القائل: «لو علمت أمتي ما في شهر رمضان من الخير لتمنت أن يكون رمضان السنة كلها».

       وكان عليه السلام إذا رأى الهلال قال: «اللهم أهله علينا بالأمن والإيمان والسلامة والإسلام، ربي وربك الله تعالى» وكان يقول أيضًا إذا نظر إليه: «اللهم اجعله هلال يمن ورشد، وآمنت بالله الذي خلقك فعدلك، فتبارك الله أحسن الخالقين».

       وبعد فإن الصيام رحمة فيجب أن نتراحم، وإن الصيام محبة فيجب أن نتحاب، وإن الصيام رفع لدرجة الإنسانية إلى مرتبة الملائكة فيجب أن نكون فوق الحيوانية وفوق الغرائز الجشعة والشهوات الثائرة.

       إن الصيام جُنة فيجب أن نقي أنفسنا من كل شر، وإن الصيام جنة فتزودوا لها بأعمالكم، فإن خير الزاد التقوى، والله من وراء القصد يهدي ويعين.

*  *  *

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، رمضان – شوال 1438 هـ = يونيو – يوليو 2017م ، العدد : 9-10 ، السنة : 41

Related Posts