دراسات إسلامية

بقلم: الأستاذ أشرف عباس القاسمي (*)

            لقد من الله تعالى على الهند إذ شهدت طلائع النهضة الحديثية في القرن الثاني عشر بعد ما خمدت ريح هذا الفن الشريف في الدول الإسلامية، وفضل هذه النهضة يرجع إلى الإمام الأكبر ومسند الهند الشاه ولي الله بن عبد الرحيم الدهلوي.

       سافر الإمام الدهلولي إلى الحجاز، وأخذ الحديث الشريف عن الشيخ أبي طاهر محمد بن إبراهيم المدني الكردي (ت 1145هـ) ولازمه مدة طويلة، ورجع إلى الهند وبدأ يدرس الأمهات الست وغيرها من الكتب الحديثية، وغيّر مناخ الهند العلمي الذي كان متجهًا إلى العلوم الفلسفية وشيء من الفقه؛ إلى حديث الرسول الكريم عليه الصلاة والتسليم الذي لا ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى. فقد أفاد وأجاد وأعدَّ رجالا بارزين رفعوا راية السنة المطهرة في جميع نواحي البلاد، وخلفه أبناؤه وتلاميذه الذين خدموا الدين المتين، وأقاموا دولة الحديث النبوي الشريف في هذه البلاد النائية عن مهبط الوحي، ولم يزل كذلك إلى أن تم استيلاء الإنكليز على البلاد وحكموا المسلمين وحاولوا القضاء على دينهم وثقافتهم وهويتهم، فقام عدد وجيه من العلماء الغيارى بالثورة عام 1857م، ولكنها باءت بالإخفاق، وأسسوا جامعة ديوبند الإسلامية سنة 1283هـ التي قامت بمواجهة التحديات المعاصرة، وأنجبت شخصيات بارة هبَّت للدفاع عن الإسلام والمسلمين ولإيجاد الثقة فيهم، وجادت بخيرات العلم والدين منذ ذلك الوقت إلى أيامنا هذه، وممن تخرج في الجامعة على أجلة الأساتذة فضيلة الشيخ المحدث الناقد المفسر الفقيه شبير أحمد العثماني – رحمه الله تعالى رحمة واسعة – الذي أخذ الحديث عن الشيخ محمود حسن الملقب بشيخ الهند (ت 1339هـ) الذي كان من أكبر الممثلين في عصره للمدرسة الفكرية للشاه ولي الله المحدث الدهلوي نشرا للحديث النبوي الشريف وتطهيرا للوطن من براثن الاستعمار، وحفاظًا على الكيان الإسلامي في الهند.

       وهذا مقال وجيز يدور حول حياة الشيخ العثماني وما قام به من عمل جليل في خدمة الحديث النبوي الشريف. وقد وزعناه على فصلين:

       الفصل الأول في التعريف بالعلامة شبير أحمد العثماني. والفصل الثاني في التعريف بكتابه «فتح الملهم».

الفصل الأول: التعريف بالعلامة شبير أحمد العثماني

       اسمه ونسبه:هو الإمام العلامة شبير أحمد بن الشيخ فضل الرحمن – أحد مؤسسي دارالعلوم ديوبند – العثماني الديوبندي، ولد في 10 من المحرم الحرام سنة 1305هـ/1889م في بلدة بجنور، أترابراديش، الهند، حيث كان والده رئيس دائرة شؤون التعليم، وينتهي نسبه إلى الخليفة الثالث أمير المؤمنين سيدنا عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه، كما ساقه بتمامه فضيلة الشيخ أنوار الحسن الشيركوتي في كتابه (حيات عثماني).

نشأته العلمية ومراحل دراسته المختلفة:

       قرأ القرآن الكريم على الحافظ نامدار علي – مدرس دارالعلوم – وغيره، ثم درس الكتب الأردية وغيرها على والده وغيره.

       ومن عام 1319هـ بدأ في دراسة العلوم الإسلامية والعربية، فتلقّاها عن مشايخ الهند وأساتذة دارالعلوم ديوبند، من بينهم: شيخ العالم ومسند العصر الشيخ محمود حسن الديوبندي المعروف بشيخ الهند، والشيخ الفقيه النابغة عزيز الرحمن الديوبندي، والشيخ غلام رسول الهزاروي، والشيخ الحافظ محمد أحمد – نجل حجة الإسلام الإمام محمد قاسم النانوتوي – وغيرهم من الأجلة – رحمهم الله تعالى رحمة واسعة – ونال شهادة الفضيلة حائزًا مرتبة الشرف الأولى سنة 1325هـ وهو ابن 20 سنة.

نشأته بعد التخرج:

       وفي عام 1331هـ إثر تخرجه مباشرةً عيّن مدرسًا في دارالعلوم نظرًا إلى تفوقه العلمي وبالغ ذكائه، ثم أرسله بعد عدّة أشهر مديرُ دارالعلوم الشيخ حبيب الرحمن العثماني – أخوه لأبيه – إلى مدرسة فتحفوري بدهلي كرئيس هيئة التدريس على طلب ملحّ من القائمين على المدرسة، فأقام بها سنتين يدرس أمهات الكتب من الحديث والعلوم الأخرى ثم أعاده أعضاء المجلس الاستشاري لدارالعلوم في شوال عام 1338هـ فجعل يدرس الشيخ في دارالعلوم حتى تولى تدريس صحيح مسلم وسنن أبي داود من عام 1338هـ في حياة شيوخه الأجلة.

       ولما استقال من دارالعلوم ديوبند سنة 1347هـ – لأسباب يطول ذكرها – رحل إلى مدرسة تعليم الدين – بدابيل – بولاية غجرات مع إمام العصر الشيخ السيد محمد أنور شاه الكشميري وتولى الشيخ بها تدريس صحيح مسلم وغيره من الكتب الجليلة. ولما توفّي الشيخ الكشميري سنة 1352هـ فوّض إليه تدريس الجامع الصحيح للإمام البخاري، وأثناء إقامته بجامعة دابيل عيّنه أعضاءُ دارالعلوم الرئيسَ الأول لها عام 1354هـ فأدّى واجب المنصبين. ولحقه مرض وجع المفاصل سنة 1363هـ وامتدّ إلى سنة كاملة، وبعد أن عافاه الله تعالى لم يرجع إلى «دابيل» ولم يتمكن من القيام بالتدريس في جامعة لاشتغاله بالأعمال السّياسيّة التي كانت أمة الإسلام بحاجة شديدة إليها.

فكره السياسي ودوره في تأسيس دولة باكستان:

       لما خرجت الهند واستقلت من الاحتلال الإنجليزي الغاشم، اختلف العلماء والشعب في قضية تقسيم الهند إلى دولتين: الهند وباكستان؛ فبعضهم كان لا يرى تقسيم الهند مفيدًا وضروريًّا؛ بل ضررًا وخطرًا على الدعوة الإسلامية، وأن المسلمين سيفقدون نفوذهم السياسي وتأثيرهم الديني في الهند، ورأى البعض الآخر أنّ التقسيم لابدّ منه، وكان يفضّل دولةً مستقلةً تكون للمسلمين وحدهم وتقوم على أساس الكتاب والسنة، لأن السّلطة ستكون للمسلمين فقط لايشاركهم فيها غيرهم، ويعيش المسلمون فيه حياة العزّ والكرامة، فمن أبرز من أيّد فكرة التقسيم فضيلة الشيخ العلامة شبير أحمد العثماني، فلذلك قام بأعمال مجيدة وخدمات مشكورة في تأسيس دولة باكستان.

       ولما تأسّست باكستان سنة 1366هـ/1948م التمس منه رئيسها القائد الأعظم محمد علي جناح أن يكون هو أوّل من يرفع رايتها لأوّل مرة في تاريخ باكستان، فرفعها. وكان عضوًا في برلمان الدولة الجديدة الإسلامية الشرقية الكبرى وشيخًا ومشرفًا عامًا على شؤون الجامعة العباسية في بهاولفور بباكستان.

وفاته:

       وافته المنية يوم الثلاثاء 21 من صفر سنة 1369هـ الموافق 13 من ديسمبر عام 1949م في بلدة بهاولفور، وكان سافر إليها لافتتاح الجامعة الإسلامية بها ثم نقل نعشه إلى كراتشي، وصلى عليه جمع حاشد أمّهم العلامة المفتي محمد شفيع رحمه الله تعالى.

ثناء العلماء عليه:

       قال حكيم الأمّة الشيخ أشرف علي التهانوي – رحمه الله تعالى – : «هذا أصغر مني سنًا؛ ولكني أعتقده أكبر مني».

       ووصفه إمام العصر الشيخ محمد أنور شاه الكشميري – رحمه الله تعالى – : «علامة عصره محدثه ومفسره ومتكلّمه».

       ويقول الشيخ الإمام العلامة محمد زاهر الكوثري – رحمه الله تعالى – : «الجهبذ الحجة الجامع لأشتات العلوم محقق العصر صاحب المؤلفات المشهورة في علوم القرآن والحديث والفقه والرد على المخالفين».

       وقال الشيخ محمد بدر عالم الميروتي في مقدمة «فيض الباري شرح صحيح البخاري»: «محقق العصر الشيخ العلامة شبير أحمد نظير نفسه ونسيج وحده وصاحب التصانيف الجليلة والملكات الباهرة».

       وقال الشيخ العلامة محمد يوسف البنوري: «فقد كان ذا علم صحيح وكان محققَ عصره وكان مفكر أمة وخطيب الإسلام».

       ويقول الشيخ عبد الفتاح أبوغدة: «محقق العصر المفسر المحدث الفقيه البارع مولانا شبير أحمد العثماني الهندي ثم الباكستاني أحد أعلام الفكر الإسلامي بالهند وباكستان في القرن الرابع العشر».

       (هذا كله مقتبس من كتاب «مبادئ علم الحديث وأصوله» صدر حديثا بتعليق الشيخ عبد الفتاح أبو غدة، وهو في الأصل مقدمة لكتاب «فتح الملهم»).

       وقال الشيخ السيد أبو الحسن علي الحسني الندوي: «كان حامل لواء الإسلام، والملقب بحق بشيخ الإسلام رحمه الله تعالى وجزاه على خدمة الإسلام والمسلمين» (من تقريظه لكتاب «تكملة فتح الملهم» 1/15).

تآليفه:

       وأشهر تآليفه: «الفوائد التفسيرية المعروفة بتفسير عثماني» باللغة الأردية بأبدع أسلوب وأفصح تعبير، وهي حواشٍ علمية على ترجمة القرآن الكريم لشيخه شيخ الهند محمود الحسن – رحمه الله تعالى – وقد طبعها ووزّعها بكمية كبيرة مجمعُ الملك فهد لطباعة المصحف الشريف ثم توقف طبعها.

       (2) فتح الملهم بشرح صحيح مسلم: كتاب ممتاز ومعروف في الأوساط العلمية لمزايا وخصائص سنذكرها قريبًا.

       (3) «تاليفات عثماني»: مجموع مقالات علمية رفيعة كتبها في مناسبات شتّى.

       (4) فضل الباري بشرح صحيح البخاري: مجموع أماليه في درس صحيح البخاري بلغة أردو ويعدّ من أحسن الشروح للجامع الصحيح.

       (5) خطبات عثماني: مجموع بعض خطبه المهمة، رتّبها العلامة محمد أنوار الحسن الشيركوتي.

الفصل الثاني: التعريف بكتاب فتح الملهم بشرح صحيح مسلم:

       قد اعتنى المحدثون والمؤلفون قديمًا وحديثًا بكتاب صحيح مسلم لما يملك من مكانة سامية بين أصول الإسلام – فمنهم من ألّف مستخرجات عليه، ومنهم من ألّف في رجاله خاصّةً ومنهم من عُني بمواضع النقد عند بعض أهل النقد سندًا ومتنًا. ومنهم من سعى في إيضاح مخبّئات معانيه، وشرحِ وجوه دلائله وكشف ما أغلق في أسانيده.

       فمن جملة الشارحين لهذا الكتاب الجليل: الإمام أبو عبد الله محمد بن علي المازري – صاحب «المعلم في شرح صحيح المسلم» – ومنهم القاضي عياض بن موسى اليحصبي – مؤلف «إكمال المعلم في شرح صحيح مسلم» ومنهم: أبو العباس أحمد بن عمر القرطبي – مصنف «المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم»- ومنهم: أبو زكريا محي الدين يحيى النووي – صاحب «المنهاج في شرح صحيح مسلم بن الحجاج» – استمد من الكتب الثلاثة التي ذكرناها ومن الأعلام «أعلام السنن في شرح المشكل من أحاديث البخاري» و«معالم السنن للخطابي». (مقتبس من مقالات الكوثري، ص82).

       ومن أشهر مختصراته تلخيص كتاب مسلم وشرحه لأحمد بن عمر القرطبي، ومختصر الإمام زكي الدين عبد العظيم المنذري، ومختصر زوائد مسلم على البخاري لسراج الدين عمر بن علي بن الملقن الشافعي، ولأبي بكر أحمد بن علي الأصبهاني كتاب في أسماء رجال مسلم.

       وكذلك شرَحَه أبو عبد الله محمد بن خليفة الأبي تم طبعه مع «مكمل إكمال الإكمال»لأبي عبد الله محمد بن محمد السنوسي، ولكن رغْم هذه الشروح المتكاثرة كانت الحاجّة ماسّة إلى شرح جديد يفي صحيح مسلم حقه من الشرح والإيضاح، فظهر في عالم الوجود «فتح الملهم بشرح صحيح مسلم» للشيخ المحقق شبير أحمد العثماني الذي سدّ الفراغ، وشفى الطالبين وكفاهم من كل ناحية.

التعريف بالكتاب:

       اسمه: «فتح الملهم بشرح صحيح مسلم» وكتب له الشيخ مقدمة حافلة نافعة للغاية، قد أفردها المحدث الشيخ عبد الفتاح أبوغدّة، وطبعتها دارالبشائر الإسلامية باسم «مبادئ علم الحديث وأصوله» في 691 صفحةً.

       والجدير بالذكر أنّ الشيخ العثماني لم يتمكن من إتمام هذا الشرح النافع الممتع فقد وصل فيه المؤلف إلى آخر كتاب الطلاق ثم لم يتمكن من المضي في العمل وإتمامه لشواغل وعوائق، وتم طبعه أوّل مرة في «بجنور» الهند سنة 1352هـ طبعًا حجريًا، وبالتالي في كراتشي وديوبند. وأكمل شرح باقي الكتاب فضيلة الشيخ المحدث الفقيه محمد تقي العثماني حفظه الله ورعاه، فقد صدرت من تكملته ستة مجلدات كبار من كراتشي. ثم طبع الكتاب مع التكملة كاملا في بيروت عن دارالقلم سنة 1427.

الباعث على تأليف الكتاب:

       إنّ صحيح مسلم مما عكف عليه المحدثون، وشرحوا له شروحًا نافعةً وجيزة وطويلةً، من أشهرها: شرح الإمام أبي زكريا يحيى بن شرف النووي؛ ولكن رغم هذه الشروح الكثيرة كان الكتاب في حاجة ملحّة إلى خدمته من جديد؛ لأنّ هذه الشروح لم تف حق صحيح مسلم من جميع النواحي فإنها تذكر ناحيةً فتهمل أخرى، فجاء هذا الشرح العظيم والسفر العلمي الفخم الذي يشفي غلّة الباحث في جلّ المطالب من شرح الحديث شرحًا وافيًا متنًا وسندًا وتوضيح ما يتعلق بسائر المذاهب عملًا واعتقادًا وإبراز ما فيه من الفقه والحكمة.

       يقول الشيخ العلامة الناقد محمد زاهد الكوثري:

       وتجد بين الشراح من يترك الكلام على الرجال بالمرة؛ مع أن الباحث في حاجة شديدة إلى ذلك في مواضع النقد المعروفة، فإذا أعجبك أحدُ تلك الشروح من بعض الوجوه تجده لا يشفي غلتك من وجوه أخر وهكذا سائر الشروح، وهذا فراغ ملموس كنا في غاية الشوق إلى ظهور شرح لصحيح مسلم في عالم المطبوعات يملأ هذا الفراغ، وها نحن أولاء قد ظفرنا بضالتنا المنشودة ببروز «فتح الملهم بشرح صحيح مسلم» بثوبه القشيب وحلله المستملحة في عداد المطبوعات الهندية، وقد اغتبطنا جدّ الاغتباط بهذا الشرح الضخم والفخم صورةً ومعنىً حيث وجدناه قد شفى وكفى من كل ناحية. (مقالات الكوثري، ص83، مبادئ علم الحديث وأصوله، ص39).

       وكذلك من شرَحَ صحيح مسلم؛ جلُّهم من السادة الشافعية، فربما شرحوا الأحاديث بما يلاقي مذهبهم بدافع المعرفة والدراسة لمذهبهم فجاءت الحاجة إلى شرح يجمع المذاهب مع إيضاح مذهب الحنفية وذكر أدلتها دون تعصب وانحياز.

أسلوبه:

       وأما أسلوبه في شرح الحديث فكما هو المعروف لدى أهل العلم، أي يأخذ اللفظ المراد شرحُه من الحديث ويبدأ مباشرةً في شرحه ويستوفي ضبط الأسماء وشرح الغريب والكلام على الرجال، ويسرد أدلة المذاهب في المسائل ويقارن بينها ويقوي القوي ويوهّن الواهي بكل نَصَفة.

مزايا هذا الكتاب:

       قد تميز هذا الكتاب الممتع بمزايا نادرة تفرد بها ونذكر فيما يلي بعضًا منها.

(1) استهلال الكتاب بمقدمة عظيمة ممتعة:

       استهل الشيخ شبير أحمد العثماني كتابه «فتح الملهم بشرح صحيح مسلم» بمقدمة كبيرة في أوله تاسيًا بالإمام مسلم في كتابه «الصحيح» وقال في فاتحته: هذه فصول نافعة مهمة في بيان مبادئ في علم الحديث وأصوله التي يعظم نفعها ويكثر دورانها (مبادئ علم الحديث وأصوله، ص43).

       يقول العلامة الكوثري وهو يعرّف بهذه المقدمة النافعة: يجد الباحث مقدمة كبيرة في أوله تجمع شتات علم أصول الحديث بتحقيق باهر يصل آراء المحدثين النقلة في هذا الصدد بما قرره علماء أصول الفقه على اختلاف المذاهب، غير مقتصر على فريق دون فريق، فهذه المقدمة البديعة تكفي المطالع مؤنة البحث في مصادر لانهاية لها (مقالات الكوثري83).

       وقد أشاد العلامة الشيخ عبدالفتاح أبو غدة بهذه المقدمة إشادة بالغة وذكر بعض مزاياها المهمة تفرد بها من بين كتب المصطلح منها: حسن انتقاء مؤلفه وسمو اختياره فيما ينقله عن غيره ودقة نظره وجودة قريحته فيما يفيده من عنده، ومنها: الاهتمام بذكر مذهب الحنفية في كثير من المسائل المختلف فيها مع أدلتها عندهم ومنها: الجمع بين مباحث السنة فقهًا وحديثًا إلى أن قال «وهذه المزايا وغيرها هي التي حدتني إلى خدمة هذا الكتاب وإعادة طبعه مفردًا في بلادنا ليسهل وصوله إلى أيدي العلماء وطلاب العلم في البلاد العربية وغيرها» (راجع مبادئ علم الحديث وأصوله، ص17-20).

(2) ترجمة أبواب مسلم:

       إن الإمام مسلم لم يذكر تراجم الأبواب كما ذكرها الإمام البخاري وغيره من المحدثين، فقد قرأ «صحيح مسلم» على جامعه مع خلو أبوابه عن التراجم، وأما العناوين والتراجم المثبتة في النسخة التي نتداولها؛ فقد وضعها الإمام النووي – رحمه الله تعالى- وقال: إن مسلما رتب كتابه على أبواب، فهو مبوب في الحقيقة ولكنه لم يذكر تراجم الأبواب فيه لئلا يزداد حجم الكتاب أو لغير ذلك. وقد ترجم جماعة أبوابه بتراجم، بعضها جيد وبعضها ليس بجيد إما لقصور في عبارة الترجمة أو لركاكةٍ في لفظها وإما لغير ذلك، وأنا أحرص على التعبير عنها بعبارات تليق بها في مواطنها (شرح مسلم 1/21).

       ولكن يقول الشيخ العثماني معلقا عليه: «والإنصاف أنه لم يترجم إلى اليوم كما يليق بشأن هذا المصنف الجليل. ولعل الله يوفق عبدا من عباده لما يؤدي حقه، وبيده التوفيق انتهى». (مبادئ علم الحديث، ص632) ولعل الشيخ العثماني هو العبد الموفق؛ فإنه قد ترجم الأبواب من جديد بدقة نظره وسعة فكره، فأتى بما تنشرح به الصدور وتقر به العيون.

(3) التعريف بالراوي:

       يترجم الشيخ العثماني ترجمة مختصرة تكفي لإعطاء القارئ فكرة موجزة عن شخص الراوي وحاله، ملخصًا ذلك من كتب التراجم والرجال مع التنبيه على ما لابد منه، مثاله: ترجمة الأعمش والرد على كونه مدلسا؛ فإنه قال: قوله: عن الأعمش عن أبي سفيان الخ الأعمش سليمان بن مهران أبو محمد، وأبو سفيان طلحة بن نافع، قال الشارح: وقول الأعمش عن أبي سفيان مع أن الأعمش مدلس، والمدلس إذا قال عن، لا يحتج به إلا أن يثبت سماعه من جهة أخرى؛ وقد قدمنا في الفصول وفي شرح المقدمة أن ما كان في الصحيحين عن المدلسين بعن فمحمول على ثبوت سماعهم من جهة أخرى. والله أعلم. (فتح الملهم 1/178، ط: ديوبند)

(4) شرح الحديث كاملا:

       لم يهمل الشارح المفضال أمرا يتعلق بالحديث في الأبواب كلها، بل وفّاه حقه من التحقيق والتوضيح فاستوفى ضبط الأسماء، وشرح الغريب والكلام على الرجال وتحقيق مواضع أورد عليها بعض أئمة هذا الشان وجوهًا من النقد من حيث الصناعة. (من كلام الشيخ الكوثري في مقالاته، ص:82-84).

(5) بيان المذاهب والخلافيات مع العناية بالمذهب الحنفي:

       ساد منذ قرون في شبه القارة الهندية التمذهب بالمذهب الحنفي، ودرج على ذلك العلماءُ والعوام هناك قرونًا كثيرة، ولكن أكثر الشروح التي برزت كانت لأتباع المذاهب الأخرى، فشرحوا الأحاديث بمايلاقي مذهبهم. فذكر المؤلف في هذا الكتاب مذهب الحنفية إلى جنب غيره من المذاهب، واتجه إلى خدمة المذهب الحنفي بتقرير وتحقيق مسائله مع عرض أدلته في الخلافيات، وبيان أن أدلته تكافئ أدلة أصحاب المذاهب الأخرى ليطمئن المتمسكون بالمذهب الحنفي أنهم يتعبدون الشريعة الغراء على علم وحجة وبرهان كغيرهم من أهل المذاهب الأخرى. (من كلام الأستاذ محمد يحيى بلال منيار في دراسته عن معارف السنن، ص511).

(6) فوائد ولطائف في ثنايا الشرخ:

       قال العلامة الكوثري: وكم أثار في ثنايا الأحاديث المشروحة فوائد شاردة، وحقائق عالية، لا ينتبه إليها إلا أفذاذُ الرجال وأرباب القلوب. (مقالات الكوثري، ص83) ويقول الشيخ عبد الفتاح أبوغدة: وأمّا مايفيده المؤلف في أثناء النقول من نتائج أفكاره شرحًا لقول أو إضافة إليه أو تعقيبًا له أو تاييدًا، فلا تسأل عن جودته ولطافته ورزانته ومتانته لما آتاه الله تعالى من موهبة فائقة وقريحة فياضة وفهم دقيق غواص في الحقائق والدقائق. (مبادئ علم الحديث، ص18).

       أعرض عليكم مثالًا لذلك يبين حقيقة ما قاله العبقريان الجليلان. إن الشيخ العثماني ذكر قول السيوطي في تسمية الحديث ثم قال: والذي يظهر للعبد الضعيف – والله تعالى أعلم – أن إطلاق الحديث على مايضاف إليه صلى الله عليه وسلم مقتبس من قوله تعالى: ﴿وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ﴾ فإنه سبحانه وتعالى عد أولًا في سورة الضحى منته العظيمة على نبيه صلى الله عليه وسلم من إيوائه بعد يتمه، وإغنائه بعد عيله، وهدايته بعد ما وجده ضالا، ثم رتب على هذه المنن الثلاثة أمورًا ثلاثة أي النهي عن قهر اليتيم، والنهي عن نهر السائل، والأمر بتحديث النعمة. حاصل المعنى أنك كنت يتيمًا وضالًا وعائلًا، فآواك وهداك وأغناك، فمهما يكن من شيء فلا تنس نعمة الله تعالى عليك في هذه الثلاث، واقتد بالله تعالى فتعطف على اليتيم وترحم على السائل؛ فقد ذقت اليتمَ والفقر، وقوله تعالى ﴿وأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ﴾ هو في مقابلة قوله تعالى: ﴿وَوَجَدَكَ ضَآلًّا فَهَدَى﴾ أي حق هذه النعمة الجسيمة التي هي الهداية بعد الضلال ليس إلا أن تحدث بها عباد الله تعالى وتشيعها فيهم، وتبين لهم ما نزل إليهم. وظاهر أن أقواله وأفعاله صلى الله عليه وسلم التي سميناها أحاديث؛ إنما جلها شرح وتبيين لما هداه الله تعالى بها، وتحديث وتنويه لما أنعم الله عليه من صنوف الهداية، وفنون الإرشاد. والله تعالى أعلم بالصواب (مبادئ علم الحديث، ص44-45).

(7) الرد على صنوف أهل الزيغ وتفهيم الحقائق الدينية:

       يقول الشيخ العلامة محمد يوسف البنوري – رحمه الله تعالى – : كان الشيخ شبير أحمد العثماني وحيدًا في الأمة في تفهيم الحقائق الدينية ببلاغة بديعة في خطاباته وتقريبها إلى أذهان المنكرين من غير أي تبديل يدخل جوهره وصميمه أو تاويل يلجأ إليه كثيرٌ من العلماء، وكان غيورًا على سياج الدين وحقائقه» (مبادئ علم الحديث وأصوله، ص30).

       وكتابه «فتح الملهم» خير شاهد عليه؛ فإنه لا يكتفي بشرح الحديث بل ربما يسوق بحثًا علميًا ويأتي بدلائل عقلية مقنعة تنطق بحقية الإسلام وترسي دعائمه مثلًا: يقول في التوحيد ضمن حديث «بني الإسلام على خمس»: التوحيد هو رأس الطاعات ولب الاعتقادات وأم العبادات وأس القربات، والملل معظمها وإن اتفقت على إقرار نوع من التوحيد إلا أن التوحيد الصحيح الخاص العام التام المشتمل على توحيد الربوبية وتوحيد الإلهية وتوحيد الصفات لايوجد في شيء من المذاهب غير الإسلام، فالدين عند الله الإسلام، ومن يبتغ غير الإسلام دينًا فلن يقبل منه، وهو في الآخرة من الخاسرين. والدليل العقلي على إثبات التوحيد هو برهان التمانع المصرح في القرآن، ثم شرح تقرير التمانع مع الخلاف فيه إلى أن قال «وقد قرر شيخ شيخنا قاسم العلوم والخيرات في كتابه الهندي «تقرير دل پذير» – الخطبة المقبولة لدى القلب – هذا البرهان بأحسن تقرير وأسهله، ولخصناه في فوائد القرآن فليراجع» (فتح الملهم 1/178-179).

       وأنا أكتفي بذكر هذه المزايا والخصائص التي تتجلى من خلالها مكانة الكتاب وسمو شأنه وما فيه من بحوث علمية قيمة ودرر بهية، وأحببت أن أنهى مقالي الوجيز بكلمة الشيخ يوسف البنوري في رسالةٍ له إلى العلامة محمد زاهد الكوثري: «أمامكم كتابه فتح الملهم، ولكنه يكشف ناحية من علمه وكماله، وربما تكون ضئيلةً بالقياس إلى غيره من مفاخره السائرة في بسيط الهند والسند» (مبادئ علم الحديث وأصوله، ص30).

       رحمه الله تعالى رحمة واسعة.

*  *  *


(*)        أستاذ بالجامعة.

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، رمضان – شوال 1438 هـ = يونيو – يوليو 2017م ، العدد : 9-10 ، السنة : 41

Related Posts