بقلم:  الأستاذ منذر شعار

         نزل القرآن الكريم على أمة اللسن والبيان، فشدهم عن شعرهم الرائع وكلامهم البليغ، ورفعهم إلى أفق من البيان الرحب، وإلى قمة من البلاغة أعظم إطلالة وأكرم نسمات. ولقد دخل العرب جو القرآن دخولا عريضا فتلوه وتدبروه ووقعوا على كثير من كنوزه، ثم انساحوا في الحياة، وانتشروا في الأرض وآيات القرآن معهم تغلي في صدورهم، وترفرف على رؤوسهم، وتنساب بالإيمان والبيان في صافي نفوسهم، وقد ذكرت الكتب أن الشاعر الفرزدق في أواسط العهد الأموي، خرج ذات يوم من بيته في دائرة بني تميم فوجد شبان القبيلة قاعدين والمصاحف في حجورهم يتلون القرآن ولهم فيه دوي كدوي النحل، فسر وبش، وقال: ثابروا بني تميم، هكذا والله كان آباؤكم.

         وفي هذا دليل سريع على شدة تعلق الناس.. كل الناس.. بالقرآن الكريم تعلقا يوميا، ودخوله في نفوسهم وانشغالهم به عن كل شيء.

         ولذلك كان القرآن الكريم يتواثب على شفاه العرب إذا أرادوا الكلام من أي طبقة كانوا وفي كل وقت، وكانت آياته الشريفة تبرز في كل مناسبة حوار، ولو كانت المناسبة هذه فكاهة أو غيرها، وما أقل ما يرى الحوار.. أي حوار بين اثنين خاليا من آية أو بعض آية في معرض تضمين أو تمثل أو اعتبار، وذلك لكثرة الحفظ، وطول الترداد وشدة المدارسة. ودوام المصاحبة. ومن ذا يتضمخ بالمسك ولا يفوح نشره، أو ينغمس في بحر العنبر فلا يكون عنبر الأنوف والأرواح حيث كان من الحياة.

         ولقد حفظت لنا كتب الأدب واللطائف من هذا نُبذا ظريفة، كالذي جرى لعبد الله بن المبارك من مصادفته عجوزا في الحج لا تتكلم إلا بالقرآن، أي: لا تنطق كلاما في جاري حوارها وخطابها وجوابها إلا من آي الذكر الحكيم، والقصة طويلة ومروية في الكتب، لامرأة ذات دين وعقل ضاعت عن بنيها في الحج فجلست في الطريق الخاوي تنتظر، فمر بها العالم التاجر عبد الله بن المبارك (من عصر أبي حنيفة ومن قطره)، فأناخ ناقته وتقدم فسلم فردت تقول: ﴿سَلَٰمٞ ‌قَوۡلٗا ‌مِّن ‌رَّبّٖ ‌رَّحِيمٖ﴾ (1) فسألها عن أمرها فقالت: ﴿وَمَن ‌يُضۡلِلِ ‌ٱللَّهُ ‌فَمَا ‌لَهُۥ ‌مِنۡ ‌هَادٖ﴾ (2). وحين يتعجب فيقول: لم لا تكلميني مثل ما أكلمك تقول: ﴿مَّا ‌يَلۡفِظُ ‌مِن ‌قَوۡلٍ ‌إِلَّا ‌لَدَيۡهِ ‌رَقِيبٌ ‌عَتِيدٞ﴾(3) وهكذا شأنها: قرآنية الحوار والجواب باستمرار وإصرار، فيعجب ابن المبارك ويعرض عليها الطعام فتقول: ﴿ثُمَّ ‌أَتِمُّواْ ‌ٱلصِّيَامَ ‌إِلَى ‌ٱلَّيۡلِۚ﴾ (4)، إلى آخر القصة وحتى يسير ابن المبارك بالمرأة إلى بنيها الذين عرفته بأسمائهم نفسها بآيات من كتاب الله.

         ومن طرائف هذا الباب حوار خاطف؛ ولكن خصيب جرى بين الشاعر الفرزدق الذي تقدم ذكره وبين سيد عربي في زمنه يدعى خالد بن صفوان. وكان خالد عاملا لبني أمية ومن المستأمنين عندهم، والفرزدق شاعر، جاء في صفته أنه مستدير الوجه، وقد ملأه نمش أحمر، فشبهه الناس يومئذ بالرغيف الفارسي (الفرزدق) وهو رغيف كبير مستدير قد ملئ سمسما وحمِّر بالنار، ولزم الفرزدق الشاعر فعرف به في التاريخ وإنما اسمه (همام بن غالب) وكنيته: أبو فراس.. فالفرزدق كلمة فارسية معربة، وجمعها فرازد.. بإسقاط القاف، ولا يزال أهل الشام إلى اليوم يعرفون هذا (الفرزدق) في مخابزهم ويسمونه في عاميتهم (برزقة) ويجمعونها على (برازق)، ومن رآه هناك عرف بقوة كيف كان وجه الفرزدق الشاعر همام.

         يتحصل مما شرحنا أن الفرزدق لم يكن وسيما، وبهذا تهكم خالد بن صفوان في مجلس ضمهما مع آخرين وفي مجرى حديث مداعب لطيف؛ ولكن على طريقة عجيبة خلدت هذا الحوار بينهما أربعة عشر قرنا، وذلك أن خالدًا قال للفرزدق:

         ما أنت والله يا أبا فراس بالذي ﴿.. فَلَمَّا ‌رَأَيۡنَهُۥٓ ‌أَكۡبَرۡنَهُۥ ‌وَقَطَّعۡنَ ‌أَيۡدِيَهُنَّ﴾(5).

         يعني خالد أن الفرزدق دميم غير وسيم.. ولو وقف الخبر عند هذا التهكم الصائب لما كان له النفاذ والشهرة اللذان كانا له مع جواب الفرزدق الفوري، وذلك أن الفرزدق رد على خالد فقال:

         ولا أنت والله يا أبا صفوان ممن قالت فيه الفتاة لأبيها: ﴿يَـٰٓأَبَتِ ‌ٱسۡتَـٔۡجِرۡهُۖ ‌إِنَّ ‌خَيۡرَ ‌مَنِ ‌ٱسۡتَـٔۡجَرۡتَ ‌ٱلۡقَوِيُّ ‌ٱلۡأَمِينُ﴾ (6).

         أما مراد خالد بن صفوان فواضح، وهو التعريض بوجه الفرزدق، وأنه غير وسيم ولا جميل، وقد تلا آية أو .. جزءًا من آية من القرآن الكريم في هجوم قوي على الفرزدق، متخذا في قصة يوسف عليه السلام جناحًا إلى ذلك، وكأنه قال للفرزدق: إنك من عدم الوسامة بحيث لا تفكر النساء بأن يقطعن أيديهن إذا رأينك مكبرات جمالك فعل صواحب يوسف لما رأين يوسف.

         هذه الإلقاءات التاريخية، وهذا القمس البارع في عطور القرآن الكريم، وهذه التورية اللطيفة.. وكل ذلك حدث في أوجز عبارة، وأشد انخطاف خطاب جعلت من تعريض خالد بالشاعر أدبًا حلوًا لطيف النهلة من القرآن، وكذلك رد الفرزدق، فإنه كما عرض خالد بوسامته وهو الشاعر عرض الفرزدق بأمانة خالد وهو الوالي عند بني أمية، وساق تعريضه مساقا فنِّـيًّا مقتبسا أيضًا من القرآن ناهلا منه، فتلا قول الله تعالى حكاية عن بنت شعيب عليه السلام ﴿يَـٰٓأَبَتِ ‌ٱسۡتَـٔۡجِرۡهُ..﴾ وكأنه يقول لخالد: لست من الأمانة والقوة بحيث ينطبق عليك ما قالته بنت النبي وهي تتحدث عن النبي.

         والطريف في هذه المحاورة الدائرة حول آي القرآن، أن خالد بن صفوان جاء بآية تتصل بنبي، وجاء الفرزدق بآية تتصل بنبي، وآية خالد تدور حول امرأة، وآية الفرزدق كذلك تدور حول امرأة، ولكن الفرزدق أعلى بديهة وأسرع من حيث إنه رد من فوره دون تهيئة ولا استعداد فجاء بجواب مسكت، وقد يكون خالد بن صفوان هيّأ ما قاله قبل أيام.

         هذه المحاورة اللطيفة تدل على شدة التعلق بالقرآن حتى لتثب آياته الكريمة إلى سطح اللسان والحس، ولو كان المجال ظرفًا وفكاهةً، ومثل ذلك ما رواه المبرد في (كامله).. أن بني أمية أجروا الخيل في دمشق ذات يوم فسبقت فرس الوليد بن عبد الملك – وكان وليًّا للعهد – فرس ابن عم عبد الله بن يزيد بن معاوية، فعبث الوليد بعبد الله وأصغره أمام الناس، فغضب عبد الله وشكا ذلك لأخيه خالدبن يزيد(7) وهو يقول: لقد هممت اليوم أن أفتك بالوليد بن عبد الملك، فيقول خالد.

بئس – والله – ما هممت به في ابن أمير المؤمنين، وولي عهد المسلمين، فيقول عبد الله:

         – إن خيلي مرت به فعبث بها وأصغرني.

         فيقول خالد:

         – أنا أكفيك..

         ثم يدخل خالد على عبد الملك بن مروان والوليد عنده، فيقول:

         – يا أمير المؤمنين: الوليد ابن أمير المؤمنين، وولي عهد المسلمين مرت به خيل ابن عمه عبد الله بن يزيد فعبث بها وأصغره، وعبد الملك مطرق، فرفع رأسه فقال:

         ﴿.. إِنَّ ‌ٱلۡمُلُوكَ ‌إِذَا ‌دَخَلُواْ ‌قَرۡيَةً ‌أَفۡسَدُوهَا ‌وَجَعَلُوٓاْ ‌أَعِزَّةَ ‌أَهۡلِهَآ ‌أَذِلَّةٗۚ ‌وَكَذَٰلِكَ ‌يَفۡعَلُونَ﴾(8).

         يا له من جواب، ويا لها من مفاجأة.. خالد يشكو للخليفة ويتوقع أن يوبّخ الخليفة ابنه، فإذا بالخليفة يعرض بخالد وعبد الله وفرعهما في الأمويين ويخدم نفسه وأهله وفرعه المرواني، وكأنه يقول لخالد: لا تلم الوليد على ما فعل، فإنه ملك من ملوك، والملوك هكذا أفعالهم وهذه تصرفاتهم، وعلى من دونهم أن يعذرهم ويسكت، فهو يمدح ابنه ونفسه في هذا النسق الذي غمس فيه كلامه بقرآن، ويصد الشاكين ويسكت عن ابنه ورعونته المنتقدين.

         ولكن خالد بن يزيد لا يقبل التحدي المفاجئ، ويرفض هذا الاعتذار الذي لا يقل عن ذنب الابن رعونة، فيرد عبارة عبد الملك الذي غمسها بالقرآن بعبارة أخرى مغموسة بالقرآن.. فيقول من فوره:

         ﴿وَإِذَآ ‌أَرَدۡنَآ ‌أَن ‌نُّهۡلِكَ ‌قَرۡيَةً ‌أَمَرۡنَا ‌مُتۡرَفِيهَا ‌فَفَسَقُواْ ‌فِيهَا ‌فَحَقَّ ‌عَلَيۡهَا ‌ٱلۡقَوۡلُ ‌فَدَمَّرۡنَٰهَا ‌تَدۡمِيرٗا﴾(9).

         وإنه والله لجواب..

         وكأن خالدًا يقول لعبد الملك: لا يدخلنك الزهو، وإياك والبطر بما أوتيت، ولا تفرح بأنك ملك، فيوشك هذا ألا يكون عليك وبالا لا جمالا. وكما ساق عبد الملك عبارته مساقا قرآنيًّا ساق خالد عبارته أيضا مساقا قرآنيا، وجال في الموضوع جولان المقتدر العارف بما يقول، وانغمس بجو القرآن واندفع فاقتحم، وأجاب فأفحم. وللقصة تتمة ليست من موضوعنا اليوم ولكن افتتاحها كان – كما رأينا – قرآنيا شريفًا، يدل على كثرة الترداد لكلام الله في كل حال.

         وروى ابن حجة الحموي في (ثمرات الأوراق) أن أخوين: صالحا وطالحا، كانا يسكنان دارا لهما، فيسكن الطالح في الطابق الأرضي والصالح فوق، وكان الصالح يقيم ليله في التهجد والذكر فيفسد عليه جوه أخوه الطالح الذي يسهر في صحن الدار مع رفاقه العابثين في خمر وقصف وغناء وصياح.. فصبر الصالح مدة حتى كانت ليلة زاد فيها صياح أخيه ورفاقه من تحته فأزعجوه عن ذكره وعبادته، فأطل من النافذة هائجا وهو يقول:

         ﴿أَفَأَمِنَ ‌ٱلَّذِينَ ‌مَكَرُواْ ‌ٱلسَّيِّـَٔاتِ ‌أَن ‌يَخۡسِفَ ‌ٱللَّهُ ‌بِهِمُ ‌ٱلۡأَرۡضَ..﴾ (10).

         فرفع أخوه الطالح رأسه وقال وهو مبتسم: ﴿وَمَا ‌كَانَ ‌ٱللَّهُ ‌لِيُعَذِّبَهُمۡ ‌وَأَنتَ ‌فِيهِمۡۚ﴾ (11).

         خطاب بجواب، لم يقل الأخوان من عندهما شيئا، إن هو إلا الشاهد من القرآن، ولكن شاهد سيق مساقا خاصا بحيث عبر عن المكنون وأصاب الغرض وأوضح وأبان..

         شعب كان برمته مغرما بالقرآن.. غرامًا شديدًا، فيتواثب القرآن إلى الشفاه سريعا دون تهيئة، في كل مجال وعلى أي حال، ولقد اتضح في الذي أوردناه أن القوم كانوا واعين لما يقولون، وما به يتمثلون، وكان ذلك الأخ الطالح نفسه عارفا بآية ﴿وَمَا ‌كَانَ ‌ٱللَّهُ ‌لِيُعَذِّبَهُمۡ ‌وَأَنتَ ‌فِيهِمۡۚ﴾، مدركا فحواها وما المقصود منها ومن المقصود. فالولع بالقرآن والإقبال عليه عام وعريض، ومثل ذلك ما رواه ابن الجوزي في كتابه: «أخبار الظراف والمتماجنين»، من خبر رجل صاحب دكان كان وعده صاحب له أن يدعوه إلى طعام مع أصحاب لهما، ثم تباطأ بالإنجاز، فكان الأصحاب يجتمعون عند صاحب الدكان فإذا مر بهم ذلك الواعد المخلف قالوا له: ﴿مَتَىٰ ‌هَٰذَا ‌ٱلۡوَعۡدُ ‌إِن ‌كُنتُمۡ ‌صَٰدِقِينَ﴾ (12)، حتى إذا تكرر ذلك منهم جاءهم ذات يوم فقال: ﴿‌ٱنطَلِقُوٓاْ ‌إِلَىٰ ‌مَا ‌كُنتُم ‌بِهِۦ ‌تُكَذِّبُونَ﴾(13) فذهبوا إلى مأدبة أعدها لهم.

         هذا نمط من عناية الأمة الأولى بالقرآن: حفظه وترداد تلاوته، فوقر في القلوب وتماثل على الشفاه وظهر في كل حوار وتلامح في كل خطاب، وكان القوم ظرافا لطافا في غمسهم كلامهم في عطوره، وفي تقليب فكرهم في أشعة بدوره. فكسب الأدب البيان، ودل اللسان على شيوع الإيمان في تزاحف الأزمان.

*  *  *

الهوامش:

  • الآية 58 من سورة يس.
  • بعض الآية 33 من سورة الرعد، وهي مذكورة في غير موضع.
  • الآية 18 من سورة ق.
  • بعض الآية 187 من سورة البقرة.
  • بعض الآية 31 من سورة يوسف.
  • بعض الآية 26 من سورة القصص.
  • هو المعروف في التاريخ أنه ترك الخلافة لولعه بالكيمياء والترجمة عن اليونان. وكان يدعى (عابد قريش).. عاقلا حليما كريما.
  • الآية 34 من سورة النمل: «قالت ان الملوك..».
  • الآية 16 من سورة الإسراء.
  • بعض الآية 45 من سورة النحل.
  • بعض الآية 33 من سورة الأنفال.
  • الآية 48 من سورة يس: «ويقولون متى هذا الوعد..».

الآية 29 من سورة المرسلات.

مجلة الداعي، جمادى الأولى 1444هـ = ديسمبر 2022م، العدد: 5، السنة: 47

Related Posts