أنباء الجامعة

بقلم: مساعد التحرير

       في نحو الساعة السابعة والنصف من الليلة المتخللة بين 30 من ربيع الأول و1 من ربيع الثاني عام 1438هـ الموافق 30 -31/ديسمبر2017م  توفي إلى رحمة الله تعالى العلامة فضيلة الشيخ / عبدالحق الأعظمي- تغمده الله تعالى بواسع رحمته- وهو في نحو 88 عامًا من عمره تاركًا في دنياه أحسن ذكر مقدمًا لآخرته أعمالاً طيبات؛ فإنا لله وإنا إليه راجعون، لقد جلَّت الرزية وفدحت المصيبة وأذهل الخطب الألباب، فمازال – رحمه الله- مواظبًا على تدريس الحديث وإفادة الطلاب، وإسداء الخير إلى العامة من على منابر الحفلات الإصلاحية والتوعوية الشعبية في مختلف أنحاء البلاد حتى أصيب بالمرض الذي انتهى بوفاته، وقد شيعت جنازته من مدينة ديوبند والمناطق القريبة والبعيدة منها جمعٌ عظيمٌ لايشهد مثله في غالب الأحوال في الوقت الذي خرج طلاب المدارس في المدينة وضواحيها إلى بيوتهم ليقضوا إجازة  الاختبار النصف السنوي مع أهاليهم. كان الناس من طلاب الجامعة والمدارس الأخرى وأهالي مدينة ديوبند والوافدين من المناطق القريبة و البعيدة وقوفًا بالآلاف على جانبي الطريق، يحيّون الفقيد في مشهده، ويترحَّمون عليه.

       وظلّ -رحمه الله- ينهض بأعباء التدريس ومهمة الدعوة والإرشاد حتى قبل وفاته بأيام بعزم فتيّ، لاتنال منه الشيخوخة، ولا يدركه هرم.

       ويرجع صلتي بالفقيد إلى نحو سبعة وعشرين عاما في الماضي وبالتحديد عام 1409هـ/1989م إذ التحقت بدار العلوم/ديوبند في الصف السابع العربي، ثم ارتقيت إلى الصف النهائي الذي يطلق عليه في شبه القارة الهندية: «دورة الحديث الشريف»، وكان من أساتذة الدورة الفقيد الغالي، وكان يلقي دروسه في صحيح البخاري عقب صلاة العشاء. و الجالس إلى دروسه يستغرب استحضاره لنصوص المصادر الحديثية وأقوال المحدثين وأهل العلم في القضايا المطروحة للنقاش أثناء تدريسه، وكان يتلوها على الطلاب عن ظهر القلب كما يقرأ قارئ القرآن منازله.

       ولا يفوتني هنا أن أشير إلى أن الفقيد- رحمه الله- زار المدينة المنورة – زادها الله شرفًا- في الوقت الذي كنا نحن شببة متقاربين من خريجي دارالعلوم /ديوبند نطلب العلم في الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، فالتمسنا منه زيارة الجامعة، فوافق، فأخذناه إليها وزرنا به مختلف الكلّيات والمراكز العلمية في الجامعة، ومن بينها مركز الدعوة التي تزوّد الزائرين والمعاهد الدينية والمؤسسات الأكاديمية بالكتب والمصادر العلمية، وكان مديرها آنذاك واحد من زملاء حضرة والدي فضيلة الشيخ/ جميل أحمد القاسمي حفظه الله، فأخذته إليه في مكتبه وتجاذب المدير أطراف الحديث في العلوم الدينية عامة وفي علوم الحديث خاصة، وكان إعجابه أكبر وأشد من استحضار الشيخ – رحمه الله- للنصوص العلمية وسعة اطلاعه على المصادر والمآخذ الشرعية من الحديث والتفسير و غيرهما، فتأثر بالشيخ تأثرًا كبيرًا و أمر قسم التوزيع بتزويد الشيخ – رحمه الله- بالمصادر العلمية التي لاتمنح في العادة إلا الجامعات والأكاديميات الكبيرة دون الأشخاص مهما سمت منزلتهم وارتفع شأنهم، فأخذنا بالتصريح إلى مستودع المركز فاستغرب مسؤوله الموافقةَ على منح هذه المصادر العلمية لفرد من الأفراد، و شرحنا له منزلة الشيخ ومكانته العلمية فانصاع وأصدر الكتب من المستودع.

       وكان الفقيد وجيهًا في الأوساط العلمية والشعبية، رحب الصدر، طيب الخلق مِضْيَافًا غِرًّا كريمًا وكثير الترحيب للداخل عليه فلا يُذكر لـه حتى اليوم إلا كل مأثرة طيبة وفضل ونبل في هذا الصدد.

       كان من مواليد عام 1347هـ/ 1928م في قرية «جكديش فور» من مديرية أعظم كره بولاية «أترابراديش»، الهند، تلقّٰى دراسته الأولى في كُتَّاب قريته المعروف بـ«مدرسة إمداد العلوم» ثم التحق بمدرسة بيت العلوم/سرائمير، وقرأ بها بعض المقررات الدراسية الفارسية والعربية حتى الصف الرابع العربي، ثم حدا به الشوق إلى الالتحاق بمدرسة دارالعلوم/مئو، فتلقى بها العلوم الدينية حتى المرحلة قبل التخرج، وكان من أمنيّته الأكيدة الملحّة أن يلتحق بالجامعة الإسلامية: دارالعلوم/ ديوبند – أعرق الجامعة الإسلامية الأهلية في شبه القارة الهندية- وينهل من منهلها العذب الفياض فشدَّ رحاله إليها وتخرج منها عام 1374هـ/ 1954م في الحديث على شيخ الإسلام السيد حسين أحمد بن حبيب الله المدني رحمه الله (1296-1377هـ/1879-1957م). ومن أبرز مشايخه- علاوةً على شيخ الإسلام المدني – كل من الشيخ الأديب محمد إعزاز علي الأمروهوي(1300- 1372هـ/1882-1952م) والعلامة محمد إبراهيم بن عبد الرحيم البلياوي(1304-1381هـ /1886-1967م) وشيخ الحديث العلامة السيد فخر الدين أحمد المراد آبادي  (1307-1392هـ/ 1889-1972م)، والمحـدث الكبـير الشيخ حبيب الرحمن بن محمد صابر بن عناية الله أبو المآثر الأعظمي (1319-1413هـ/1901-1992م)، و الشيخ محمد مسلم الجونفوري (ت1413هـ/ 1992م) والمقرئ رياست علي – رحمهم الله- جميعًا.

       كان أول عهده بالتدريس عقب تخرجه في الجامعة الإسلامية دارالعلوم أن عُيِّنَ مدرسًا في جامعة مطلع العلوم/بناراس، فمكث فيها مدة سنة فصاعدًا ، ثم تحوّل منها إلى الجامعة الحسينية / «كريديه» بولاية بيهار سابقًا وولاية «جهار كندا» حاليًا، ثم أصرّ عليه- إصرارًا لا مزيد عليه – القائمون على جامعة مطلع العلوم/ بناراس بالعودة إليها، فعاد ، وتولّى تدريس الحديث الشريف بجانب المواد الدراسية الأخرى، ثم انتقل منها إلى «دارالعلوم/مئو» ومكث بها نحو أربع عشرة سنة يدرِّس طلابها جامع صحيح البخاري كاملًا، وسنن الترمذي وغيرهما من كتب المقرارت،كما أسند إليه الإفتاء والإجابة عن الأسئلة الواردة إلى دارالإفتاء التابعة للجامعة فكان خير محدث وخير مفتٍ. وصدرت من قلمه خلال تواجده في الجامعة ما لايقل عن ثلاثة عشر ألف فتوى في الشؤون الدينية المختلفة، لو تمّ جمعها كلها لجاءت عدة مجلدات ضخام.

       وفي عام 1983م استدعته الجامعة الإسلامية دارالعلوم/ديوبند لتدريس الحديث الشريف فيها، فلبى دعوتها، وانتقل من «دارالعلوم/مئو» إلى دارالعلوم/ ديوبند بعد إلحاح شديد من القائمين عليها بالتحول إليها، وإصرار لامزيد عليه من قبل مسؤولي «دارالعلوم/مئو» بالبقاء فيها، ومواصلة أعماله العملية والتدريسيه وإفادة الناس عامتهم وخاصتهم.

       وأحرِبنا أن نتمثل بقول الشاعر الأستاذ محمد حافظ بك إبراهيم، في رثاء شيخ الأزهرالشيخ سليم البشري:

أيدري المسلمون بمن أُصيبوا

وقد واروا «سليمًا» في التــراب

هوى ركن الحديث فأيّ خطب

لطلاب الحقيقــة والصــواب

موطأ مالك عزى البخــاري

ودع لله تعـــــــزيــة الكتاب

فما في الناطقــين فـم يـــوفي

عزاء الــدين في هــذا المصاب

قضى الشيخ المحدث وهو يملي

على طلابـــــه فصل الخطاب

ولم تنقص له التسعون(1) عزمًا

ولا صدّته عن درك الطلاب

وما غالت قــريحتــــه الليالي

ولا خانتـــه ذاكـــرة الشبـاب

أشيخ المسلمــين نأيت عنـــا

عظيم الأجر موفــور الثــواب

لقد سبقت لك الحسنى فطوبى

لمـوقف شيخنا يـــوم الحساب

إذا ألقى السؤال عليك ملـقٍ

تصــدى عنــك برك للجواب

ونادى العدل والإحسان أَنَّا

نـزكي ما يقـــول ولا نحــابي

قفوا يا أيها العلماء وابكــوا

و رووا لحـده قبــل الحســاب

فهذا يـومنــا ولنحــن أولى

ببذل الدمع من ذات الخضاب

عليك تحيـــة الإسـلام وقفًا

وأهليـــه إلى يــوم الـمــآب

       رحمك الله أيها الشيخ ، أنت حيّ باقٍ أمد الدهر، لا يموت لك ذكر، ولا ينقطع لك أجر، طوبى لك، وقرة عين، سيّما بجوار الصالحين من عباد الله، وأسكنك الله بحبوحة جنانه، وأحسن عزاء من تركت وراءك  من أولاد وأهلين وتلامذة.

*  *  *

————————

  • وكان عمر فقيدنا الغالي 88 عاما.

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، جمادى الآخرة  1438 هـ = مارس 2017م ، العدد : 6 ، السنة : 41

Related Posts