إلى رحمة الله
بقلم: رئيس التحرير
nooralamamini@gmail.com
إثر صلاة الفجر من يوم الأحد: 22/ذوالحجة 1437هـ الموافق 25/سبتمبر 2016م كنت جالسًا على الكرسي في رواق بيتي الكائن بـ«أفريقي منزل قديم» الملاصق لمسجد «تشته» الأثري بمدينة «ديوبند»، أُنْهِي كالعادة أورادي من التسبيحات، إذ فَاجَأَني الأخ الفاضل الأستاذ محمود حسن الحسني الندوي باتصاله الجَوَّالي ونعيه إليّ الشيخَ المفتي محمد ظهور الندوي قائلاً: إنه قد تُوُفِّي قبيل الصبح الصادق من الليلة المتخللة بين السبت والأحد: 21-22/ذوالحجة 1437هـ الموافق لـ 24-25/سبتمبر 2016م فضيلة الشيخ المفتي محمد ظهور الندوي – رحمه الله رحمة واسعة – فإنّا لله وإنا إليه راجعون.
وظَلِلْنا نحن الاثنين نتبادل التعازي لدقائق، ثم قال: ها هوذا بالمكان الذي نتكلم فيه فضيلة الشيخ السيد محمد الرابع الحسني الندوي – حفظه الله – يمكنكم أن تُسَلِّمُوا عليه وتُقَدِّمُوا إليه التعازي، فقلت: حسنًا، فأَسْلَمَ إليّ المكالمةَ فسَعِدْتُ بالسلام على فضيلته وتقديم ما حَضَرَني عاجلًا من كلمات التعزية والتسلية التي تقال بهذه المناسبة لمن يكبر سنًّا وعلمًا وفضلًا.
وأُدِّيَتْ صلاةُ الجنازة عليه في يوم الأحد المذكور إثر صلاة العصر، أَمَّها فضيلة الشيخ السيد محمد الرابع الحسني الندوي الأمين العامّ لندوة العلماء، وحَضَرَ الصلاةَ عليه جمعٌ كبير من الناس ما بين العلماء والصلحاء والطلاب وعامة الناس شَيَّعَه – جمع كبير – إلى مثواه الأخير في مقبرة «دَالِيغَنْجْ» Daliganj المجاورة لدارالعلوم ندوة العلماء لا يحضر مثلُ هذا الجمع الحاشد في الأغلب صلاةَ الجنازة على عامة العلماء والصالحين، مما دَلَّ على أنه كان حقًّا من العلماء الصالحين الأتقياء، وقد أفادنا بعضُ أساتذة دارالعلوم ندوة العلماء أنّ الفقيد – رحمه الله – كان يُكْثِر منذ يومين من تكرار كلمة «لا إله إلّا الله محمد رسول الله» وكان يُلَقِّن قراءتَها من يحضر إليه لعيادته واستخبار وضعه الصحي. كما أفادوا أنه قد ساءت حالتُه في نحو الساعة الثانية من الليلة المذكورة، وذُهِبَ به إلى مستشفيات معروفة في مدينة «لكنؤ» ولكنه وافاه الأجل المحتوم في السيَّارة فعِيدَ بجثمانه إلى مسكنه بدارالعلوم ندوة العلماء. حيث تكاثر الحضور لزيارته الأخيرة وتقديم التعزية إلى الأهل والأولاد.
* * *
رغم أنه – رحمه الله – كان يعاني الضعف والآثار الناشئة عن الشيخوخة، ظلّ يتمتع بذهن حاضر فعّال لآخر لحظة من حياته، وبالتالي ظلّ يقوم بالمسؤوليات المُسْنَدَة إليه لحين وفاته. ومنذ نحو عامين أُقْعِدَ وعاد يعاني الأعذارَ الناتجة عن ذلك، فكان يستخدم الكرسيّ المُتَنَقِّل، فكان يصل به الفصولَ الدراسية، والمكاتب الإدارية، ويواظب على حضور صلوات الجماعة بالمسجد، ورغم أنه كان يواجه صعوبات في أداء السجدات كان يُؤَدِّيها، ويُؤَدِّي الصلوات بالجلوس على الأرض، ويجتنب أداءَها جالسًا على الكرسي؛ لأنّه كان يَتَحَرَّج من أداء السجدات على الكرسي عن طريق طَأْطَأَةِ الرأس، كما يصنع عامّةُ من تُصِيبُهم الأعذار التي تُسَبِّبُ لهم صعوبةً في القيام والقعود.
ومنذ إصابته بالأعذار في رجليه والآلام الناتجة عنها فيهما كان يُضْطَرُّ أن يُدْخَلَ المستشفى من وقت لآخر، فكان يبقى فيه ليوم أو أيام يَتَلَقَّى العلاجَ اللازم، فكانت تُوَجَّهُ إليه في المستشفى الأوراقُ المحتاجةُ إلى دراسته وتوقيعه، فكان يقوم بمسؤوليته تلك عن كامل التيقّظ، ولم يقل قطّ أنه ليس في وضع يسمح له بممارسة مثل هذه الوظيفة.
شَغَلَ في دارالعلوم ندوة العلماء مناصبَ تعليميّة وإداريّة إلى جانب تدريسه لموادّ الفقه والحديث والقيام بأعمال الإفتاء والإجابة عن الأسئلة الفقهية على مدى نحو 68 عامًا هجريًّا و66 عامًا ميلاديًّا، في إخلاص تام، وشعور كامل بالمسؤولية، وأهليّة لائقة، وصمت لا يعرف شائبةً من الرغبة في الظهور والصيت الذي يحرص عليه ذووالعلم في الأغلب. وفي كلّ من أقسام الإدارة والتعليم ظَلَّ يُرَىٰ رجلًا مطلوبًا ذاخِبْرَة ناضجة، فكان المسؤولون في دارالعلوم ندوة العلماء يستعينون به في هذه الأقسام لدى كل حاجة تمسّهم إليه، فكان مِسَدَّ كلِّ فراغ في هذه الأقسام.
* * *
خلال تدريسي بدارالعلوم ندوة العلماء في العقد الثامن من القرن العشرين الميلادي الماضي ظلّ يُعْجِبُنِي جدًّا هدوؤُه وبساطتُه، وخفضُ صوته لدى التحادث، وبسمتُه التي قلما كانت تُفَارِق شَفَتَيْه، وتواضعُه المثالي الذي كان يجعل جميعَ من لا يعرفه يظنّ أنه رجل عاديّ، بل هو ربما يكون أميًّا، وكانت البساطةُ في المأكل والملبس وجميع شؤون الحياة هُوِيَّتَه التي كان يُعْرَف بها.
ما رأيتُه قطُّ يَغْضَب على أحد، أو يَثْأَر منه لنفسه، أو يَتَرَفَّع عليـه، أو يغتـابه، أو يَتَّهِمه بشيء، أو يُؤْذِيه بأي من لسانه وسلوكه، كان يتواضع حتى مع الصغير، وكان التواضعُ فيه طَبْعًا لا تَطَبُّعًا، وكانت تزدان به شخصيتُه، وكانت مِشْيَتُه هي الأخرى تَشِفّ عن تواضعه، فكان لايتسارع فيها ولا يتباطأ، وإنما كان يعتـدل بيـن هذا وذاك؛ ولكنه لم يكن عابسًا مثلَ بعض المتـواضعين، وإنما كان باسمَ الوجه طَلْقَ المُحَيَّا، يتعامل مع الكل صادرًا عن القيم الإنسانيّة التي تُؤَدِّي دائمًا إلى التّآلف بين بني البشر، وكان يشارك غيرَه في رأيه إذا كان مما ينفع المجتمع ولا يضرّ أحدًا من البشر، ولا يخالفه لكي يَتَفَرَّدَ.
* * *
ذاتَ مرّة حدث أنه وقع طائر مَيِّتٌ في خَزَّانَ الماء الحديدي – الذي كان خزَّانًا وحيدًا في محيط دارالعلوم ندوة العلماء – قربَ المسجد من الجانب الشرقي، وكان كاتب السطور يشعر بتغيّر رائحة الماء لدى خروجه من الحنفيّة عند فتحها للوضوء، وكان يقول للمتوضئين: إنه يشعر أن الماء قد تغيرت رائحته التي تزداد كراهة مع الوقت؛ ولكنهم كانوا يُنْكِرون رأيَه ويُجْمِعون على عدم تغيّر الرائحة، وكان فيهم الفقيد فضيلة المفتي محمد ظهور – رحمه الله – حتى زادت الرائحة كراهةً، فعاد الكل يصدقون رأيَه ويُذْعِنون له، فأُحْضِرَ السلمُ وصَعِدَ أحد المُوَظَّفِين المَعْنِيِّين إلى الخَزَّان، فإذا فيه غرابٌ ميّت قد تَفَسَّخَ من جوانب، فأمر المفتي – رَحِمَه الله – باستفراغ ماء الخزان وبتنظيفه بالماء الصافي الطاهر مرات عديدة. وأصدر «الفَتْوَىٰ» بأن أنف كاتب السطور يُعْتَبَرُ منذ اليوم مقياسًا للروائح في محيط هذه الدار، ومن لم يتقيّد بهذه الفَتْوَىٰ، يُعْتَبَر خارجًا على «الشرع الاجتماعي».
بدأ يعمل عام 1369هـ/1950م بدارالعلوم ندوة العلماء بعد تخرجه منها، فعمل مفتيًا نائبًا، ثم مفتيًا مستقلّاً، وإلى ذلك شغل منصب نائبَ المدير، وعميد كلية الشريعة، والمشرف على المعهد العالي للقضاء والإفتاء، ومدير قسم التعمير والتنمية.
كان من مواليد 1927م/1345هـ. وكان وطنه قرية «سِكْتِهي» (Sikthi) الملاصقة لبلدة «مُبَارَكْفُورَ» بمديرية «أعظم جراه» (Aazamgarh) بولاية «أترابراديش» بالهند. تلقى مبادئ القراءة بقريته، والتعليم الابتدائي بمدرسة «إحياء العلوم» ببلدة «مباركفور» ثم التحق عام 1944م/ 1363هـ بدارالعلـوم ندوة العلماء، حيث تخرج منها عـام 1368هـ/1949م وبدأ يعمل بها بدءًا من 1950م/1369هـ مدرسًا لمادة الفقه ونائبَ مُفْتٍ.
وخَلَّفَ – رحمه الله – وراءه من البنين ثلاثةً، وهم الأساتذة: محمد سهيل الندوي/ أستاذ بدارالعلوم ندوة العلماء، ومحمد شعيب الندوي/ أستاذ بجامعة الفلاح بقرية «بلرياكنج» بمديرية «أعظم جراه» ومحمد زهير الندوي/ أستاذ بـ«معهد سيدنا أبي بكر الصديق» بقرية «مهبات مئو» الملاصقة لمدينة «لكنؤ» عاصمة ولاية «أترابراديش».
ومن البنات اثنتين، وكان قد تُوُفِّيَ قبل وفاته – رحمه الله – ابن له وهو الأستاذ محمد طفيل الندوي وبنت له إلى جانب زوجته هو.
تَغَمَّدَ الله الفقيد الغاليَ بواسع رحمته ورضوانه، وأسكنه جنةَ الفردوس، وألهم جميع ذويه وأهله ومحبيه وزملاءه ومعارفه الصبرَ والسلوانَ، إنه نعم المولى ونعم النصير.
* * *
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، جمادى الأولى 1438 هـ = فبراير2017م ، العدد : 5 ، السنة : 41