الفكر الإسلامي

بقلم : شيخ الإسلام شبير أحمد العثماني رحمه الله

تعريب : أبو عائض القاسمي المباركفوري

          الـٓمٓ (1)

فائدة:

            هذه الحروف يطلق عليها: الحروف المقطعات، ولايتوصل إلى أصل معناها إلا الله ورسوله؛ فهوسر من الأسرار بين الله تعالى ورسوله، أخفاه الله تعالى لمصلحة وحكمة، وما روي في بيان  معناها عن بعض السلف؛ فإنما يقصدون به التمثيل والتنبيه والتسهيل، لا أنه هو مراد الله تعالى قطعًا، فتغليطه بوصفه أنه رأي شخصي لايعدو أن يكون رأيًا شخصيًا لصاحبه، وهو بعيد عما حققه العلماء كل البعد.

            ذَلِكَ الْكِتٰبُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ(2)

فائدة1:

            أي لايتطرق ريب ولا شبهة إلى كونه كلام الله تعالى، وإلى صدق ما اشتمل عليه. و اعلم أن الشبهة تتطرق إلى الكلام من وجهين:

            الأول: أن يتضمن الكلام نفسه خطأً أو فسادًا. الوجه الثاني: أن يتطرق الخلل إلى فهم سامعه. فالوجه الأول محل الريب والشك فيه هو الكلام نفسه، وأما الوجه الثاني فمرجع الريب والشك فيه إلى فهم سامعه. أي أن الكلام في نفسه حق وصواب على الإطلاق، وإن كان يبدو محلًا للريب والشك لأجل قلة فهم السامع وعدم استيعابه.

            وهذه الآية تنفي الوجه الأول من الريب والشك، فلايقال: ما فائدة نفي الريب والشك ما دام الكفار كلهم كانوا يرتابون في كونه كلامًا من الله تعالى و صدقه. وأما الوجه الثاني من الريب والشك فقد ذكره فيما يأتي بقوله: ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ فِيْ رَيْبٍ﴾ الآية.

فائدة2:

            من هنا إلى نهاية القرآن الكريم جواب عما سأله العباد بقولهم: ﴿اِهْدِنَا الصِّرٰطَ الـمُسْتَقِيْمَ﴾.

فائدة3:

            أي أن هذا الكتاب يهدي العباد الذين يخافون ربهم ويتقونه؛ لأن الخائف من ربه لابدّ أن يتحرى ما يرضي الله تعالى وما يسخطه أي طاعته ومعصيته. و أما العاصي الذي لايخاف الله أصلًا؛ فإنه لايهمّه الطاعةُ ولايخاف المعصية.

            الَّذِيْنَ يُؤْمِنُوْنَ بِالْغَيْبِ وَ يُقِيْمُوْنَ الصَّلوٰةَ وَ مِمَّا رَزَقْنٰهُمْ يُنْفِقُوْنَ (3)

فائدة1:

            أي يوقنون بما غاب عن عقولهم وحواسهم (مثل الجن والنار والملائكة ونحوها)؛ خضوعًا لقول الله تعالى وقول رسوله- صلى الله عليه وسلم -، فدلّ ذلك على أن الذي ينكر هذه المغيبات يُحْرَمُ الهدى والرشدَ.

فائدة2:

            معنى إقامة الصلاة المواظبة عليها مع مراعاة حقوقها.

فائدة3:

            أصل الطاعات كلها ثلاثة: الأول ما يتعلق بالقلب، والثاني مايتعلق بالبدن، والثالث ما يتعلق بالمال. فهذه الآية تتناول هذه الأصول الثلاثة كلها مرتبة.

            وَ الَّذِيْنَ يُؤْمِنُوْنَ بِمَآ اُنْزِلَ اِلَيْكَ وَ مآ اُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَ بِالْاٰخِرَةِ هُمْ يُوْقِنُوْنَط (4)

فائدة:

            تحدثت الآية السابقة عمن آمن مِن مشركي مكة (أي أهل مكة) و هذه الآية تتحدث عمن آمن مِن أهل الكتاب( اليهود والنصارى).

            إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ ءَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (6)

فائدة:

            المراد بهؤلاء الكفارِ هم الذين قُطِعَ بكفرهم وتقرّر لهم ذلك، وحُرموا نعمةَ الإسلام للأبد، (مثل أبي جهل وأبي لهب وغيرهما)؛ وإلا فإن كثيرًا من الكفار أسلموا بعدُ ولايزالون يسلمون.

            خَتَمَ اللهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَىٰ أَبْصٰرِهِمْ غِشٰوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (7)

فائدة:

            خُتِمَ على قلوبهم (أي لايعرفون الحق) وخُتِمَ على آذانهم (أي لايقبلون على الحق) و على عيونهم (أي لايرون الحق). وبهذا انتهى ذكر الكفار، ويعقبه ذكر المنافقين في ثلاث عشرة آية تالية.

            وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ ءَامَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الاٰخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8)

فائدة:

            أي لم يؤمنوابقلوبهم، والإيمان بالقلب هو الإيمان الحقيقي، وإنما يتظاهرون بالإيمان بألسنهم تغريرًا وخداعًا.

            يُخٰدِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَط (9)

فائدة:

            أي لاينطلي خداعهم على الله تعالى؛ لأنه عالم الغيـب، و لا عــلى المــؤمنـين؛ لأن الله تعالى يُطلعهم -بواسطة رسوله صلى الله عليه وسلم وبالأدلة والقرائن الأخرى – على خداع المنافقين؛ و إنما يعود وبال خداعهم  و ضرره على أنفسهم غير أنهم – لغفلتهم وجهلهم وشرورهم – لايفكرون في ذلك، ولايفطنون له. ولو فكروا لعلموا أن خداعهم هذا لايضرّ المسلمين؛ و إنما مغبته الوخيمة تعود عليهم أنفسهم. ومن دقة فهم الشاه قدس سره (الشاه عبد القادر رحمه الله) أنه حمل الشعور هنا على التفكير والتأمل، ولم يحمله على ظاهر معناه.

            فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (10)

فائدة1:

            أي أن قلوبهم كانت تنطوي على مرض النفاق والنفور من الإسلام، وحسد المسلمين وعنادهم من ذي قبلُ، فازداد مرضهم بنزول القرآن الكريم وما شاهدوا من ظهور الإسلام وغلبته و رقيّه وانتصار أهل الإسلام.

فائدة2:

            والمراد بكذبهم هذا هو ادعاءهم الإسلام زورًا وكذبًا: آمنا بالله وباليوم الآخر مما سبق ذكره، أي أن العذاب الأليم في الواقع عقوبة على نفاقهم لا على مطلق الكذب. وأراد الشاه عبدالقادر – رحمه الله- أن يُنَبِّه في ترجمته إلى الأردية على هذا الفرق الدقيق. فجزاه الله ما أدق نظره!

            وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11)

فائدة:

            الحاصل أن المنافقين يفسدون من عدة وجوه:

            الأول: أنهم كانوا ينشغلون في إشباع نفوسهم، ويتكاسلون عن الأحكام الشرعية وتشمئز نفوسهم منها.

            الثاني: كانوا يترددون إلى المسلمين والكفار كليهما، وينقلون حديث بعضهم إلى بعض بهدف رفع قدرهم عند الفريقين.

            الثالث: كانوا يدارون الكفار كل المداراة ويخالطونهم، ولاينكرون عليهم أصلًا إذا خالفوا أمور الدين، و ينقلون شُبَه الكفار وطعونَهم في الدين إلى المسلمين ويعرضونها عليهم، وذلك ليرتاب المسلمون الضعفاء العقيدة والقليلو الفهم في الأحكام الشرعية. فإذا حذرهم أحدٌ هذا الإفسادَ قالوا: إنما نحن مصلحون، و لانريد إلا أن تعيش الأمم والبلاد كلها على قلب رجلٍ واحدٍ كما كانوا عليه قديمًا، و يزول الخلاف الناشئ عن الدين الجديد بصورة نهائية. و هذه شنشنة أصحاب الدنيا وعبدة الأهواء في كل زمان.

            أَلآ إِنَّهُمْ هُمُ الْـمُفْسِدُونَ وَلٰكِنْ لا يَشْعُرُونَ(12)

فائدة:

            أي أن الإصلاح الحق عبارة عن غلبة الدِّين الحق على الأديان كلها،وأن يُقدِّم المرء الأحكامَ الشرعية على كافّة الأغراض والمنافع الدنيوية،ولايبالى بخلاف أحد أو موافقته فيما يخص الدين، وأما ما يأتيه المنافقون من المجاملة والمداراة مع غير المسلمين بحجة المصالحة أوالمصلحة فهو فساد محض في الواقع ،ولكنهم لايشعرون.

            وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ ءامِنُوا كَمَا ءامَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا ءامَنَ السُّفَهَآءُ أَلآ إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَآءُ وَلٰكِنْ لَّا يَعْلَمُونَ(13)

فائدة1:

            وصفوا المسلمين الصادقين في إيمانهم بالسفهاء، أي أنهم تهافتوا على أحكام الله تعالى بقلوبهم تهافتًا جعلهم لايَقُونَ أنفسَهُم التعرضَ لخلاف مخالف ولا سوءِ عاقبة، ولا لما يجلب عليهم تقلبات الدهرمن الأضرار المتنوعة على العكس من المنافقين، الذين تظاهروا بولاء المسلمين والكفار جميعًا، وحملتهم أهواؤهم على أن يتركوا  الآخرة وراء ظهورهم، واستولت عليهم النفعيةُ والمصلحة استيلاءً جعلهم لايرون الالتزام بالأحكام الشرعية لزامًا. وإنما كانوا يكتفون بادعاء الإيمان بألسنتهم ولايقومون من الأعمال اللازمة إلا بما يُضطَرُّونَ إليه اضطرارًا.

فائدة2:

            أي أن السفهاء في الواقع هم المنافقون أنفسهم، حيث لم يبالوا بالآخرة في جنب المصالح والأغراض الدنيوية الموهومة فما أشد سفهًا إيثارُ الفاني على الباقي. وما أجهل الخوفَ من الخلق– الذي بإمكان المرء أن يتقيه بآلاف من الوجوه والحيل – وعدمَ الخوفِ من علام الغيوب الذي لاينطلي عليه شيء! ثم كيف يصالحون صلحًا عامًا في أمر يؤدي إلى الخروج على أحكم الحاكمين وعباده المقبولين، غير أن المنافقين بلغوا من السفه مبلغًا يعجزون معه أن يدركوا  أمرًا واضحًا بينًا مثله.

            وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ ءَامَنُوا قَالُوا ءَامَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيٰطِيْنِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءُونَ (14)

فائدة1:

            والشياطين (أي الأشرار) المراد بهم الكفار الذين يظهرون كفرهم للناس جميعا، أو المنافقون الذين يُعَدون رؤوسهم.

فائدة2:

            أي نحن معكم دائمًا فيما يخص الكفر والعقيدة في الدين،ولن نفارقكم أبدًا.

فائدة3:

            أي لا تحملوا الموافقة – الظاهرة التي نتظاهر بها للمسلمين- على أننا معهم في الواقع، وإنما نسخر منهم، ونكشف به عن سفههم للناس جميعًا؛ حيث إنهم – رغم مخالفة أفعالنا أقوالَنا – يعتبروننا بسفههم مسلمين بمجرد النظر إلى ما يصدر من ألسنتنا، فلا يمدُّون أيديهم إلى أموالنا وذريتنا، ويُشرِكوننا في الغنائم، ويزوِّجُونَنا أولادهم، فنظفر بأسرارهم وخفاياهم، ثم لايفطنون لحيلتنا وخداعنا.

            اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيٰنِهِمْ يَعْمَهُونَ(15)

فائدة1:

            وبما أن الله تعالى أمر المؤمنين أن يعاملوا المنافقين معاملة المسلمين، ولايتعرضوا لأنفسهم و أموالهم، فظنَّ المنافقون بسفههم أن النفع الذي جلبه المسلمون بإسلامهم قد حصل لهم- المنافقين- بحذافيره بمجرد ادعائهم الإسلام باللسان فحسب، فاطمأنوا به، مع أنه يسوقهم في نهاية الأمر إلى عذابٍ شديدٍ، فساء لهم مصيرًا، فقل لي بربك هل هذا الاستهزاء عائد على المسلمين أو المنافقين في الواقع. أو معنى الاستهزاء أن الله تعالى يجازيهم على استهزائهم.

فائدة2:

            أي أن الله تعالى استدرجهم وأملى لهم، حتى تمادوا في طغيانهم كل التمادي، وغووا غوايةً لم يفكروا معها في مغبتهم ومصيرهم، وفرحوا بأنهم يستهزئون بالمؤمنين، والأمر على العكس من ذلك تمامًا. واعلم أن قوله: (في طُغْيٰنِهِمْ) متعلق بقوله (يَمُدُّهُمْ)، إلا أن التراجم الدهلوية علقته بقوله: (يَعْمَهُوْنَ)، فيفسد المعنى، فيوافق رأي المعتزلة ويخالف ما عليه أهل السنة والجماعة والاستعمال العربي وهو باطل، كما لايخفى على أهل العلم.

*  *  *

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، ربيع الآخر  1438 هـ = يناير 2017م ، العدد : 4 ، السنة : 41

Related Posts