الفكر الإسلامي

بقلم : الشيخ الكبير المربي الجليل العلامة أشرف علي التهانوي

المعروف بـ “حكيم الأمة” المتوفى 1362هـ / 1943م

تعريب : أبو عاصم القاسمي المباركفوري

          قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيٰتِ اللهِ وَاللهُ شَهِيدٌ عَلىٰ مَا تَعْمَلُونَ (98) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتٰبِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ مَنْ اٰمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنْتُمْ شُهَدَآءُ وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (99) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ اٰمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتٰبَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ (100) وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلىٰ عَلَيْكُمْ اٰيٰتُ اللهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللهِ فَقَدْ هُدِىَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ(101).

التفسير: المناسبة:

       ساق فيما قبل الردَّ على أقوال أهل الكتاب، وفيما يأتي رد ولوم على فعل من أفعالهم. حاصله أن شماس بن قيس- وكان شيخا قد عسى في الجاهلية عظيم الكفر شديد الضغن على المسلمين شديد الحسد لهم- مرَّ على نفر من أصحاب النبي –صلى الله عليه وسلم- من الأوس والخزرج في مجلس قد جمعهم يتحدثون فيه فغاظه ما رأى من ألفتهم وجماعتهم و صلاح ذات بينهم على الإسلام بعد الذي كان بينهم من العداوة في الجاهلية، ففكر في الإغراء بينهم، فأمر فتى شابا معه من اليهود فقال: اعمد إليهم فاجلس معهم ثم ذكرهم يوم بعاث وما كان قبله وأنشدهم بعض ما كانوا تقاولوا فيه من الأشعار.. ففعل، فتكلم القوم عند ذلك وتنازعوا وتفاخروا حتى تواثب رجلان من الحيين على الركب، فتقاولا. وتقرر موعد الحرب ومكانها. فبلغ ذلك رسول الله –صلى الله عليه وسلم- فخرج إليهم فيمن معه من المهاجرين من أصحابه حتى جاءهم فقال: يا معشرالمسلمين، الله الله أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم، بعد إذ هداكم الله تعالى إلى الإسلام وأكرمكم به وقطع به عنكم أمر الجاهلية واستنقذكم به من الكفر وألف به بينكم ترجعون إلى ما كنتم عليه كفارا. فعرف القوم أنها نزغة من الشيطان وبكواوعانق الرجال بعضهم بعضا وتابوا، فنزلت هذه الآيات. ذكره في روح المعاني برواية ابن إسحاق وجماعة عن زيد بن أسلم. وهذا السياق مستمر إلى آيات عدة لاحقة، بدأت باللوم على أهل الكتاب الذين أتوا هذا الفعل، ويتضمن هذا اللوم بلاغة عظيمة حيث قدم اللوم على كفرهم على اللوم على هذا الفعل. وحاصله أن المفروض عليهم أن يؤمنوا هم لا أن يهموا إضلال غيرهم، وتبعه النصح والإرشاد للمسلمين.

لوم أهل الكتاب على كفرهم وإغوائهم:

       يا محمد (قُلْ)لأهل الكتاب هؤلاء(1) (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ) بعد ظهورالحجة على صدق الإسلام (بِاٰيٰتِ اللهِ) أحكامه، وتعم الأصول والفروع (وَاللهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ) فلا تخافونه، ويا محمد (قُلْ) لهم أيضا: (يَا أَهْلَ الْكِتٰبِ لِمَ تَصُدُّونَ) أي تحاولون أن تصدوا (عَنْ سَبِيلِ اللهِ) دين الحق(مَنْ آمَنَ) بهذا الدين الحق(2) وذلك بأن (تَبْغُونَهَا) أي تحدثوا فيها (عِوَجًا) كما حاولوا في القصة المذكورة أن يحدثوا فيها الخلل بالشقاق الذي هو إثم، و يَفتّ القوة والرقي، كما أنهم يبتعدون عن الدين بالتورط في هذه الهنات (وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ) بشناعة هذه التصرفات (وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) فيجازيكم عليه في حينه.

فائدة:

       وعموم لفظ أهل الكتاب – وإن كان سبب النزول خاصًا – يعم النصارى. ويدخل في معنى الصد عن سبيل الله كتمانهم البشارة المحمدية وتبديلها، واختار هذا التفسير الحسن وقتادة والسدي. هكذا في روح المعاني.

الربط:

       فيما يأتي تنبيه للمسلمين في خصوص هذه الواقعة.

تنبيه وإرشاد للمسلمين:

       (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ اٰمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا)(3) (مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتٰبَ) أي أهل الكتاب (يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ) اعتقادًا أوعملًا (وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ) أي لاينبغي لكم ذلك (وَ) الحال أن العوائق عن الكفر متوفرة؛ إذ (أَنْتُمْ تُتْلىٰ عَلَيْكُمْ اٰيٰتُ اللهِ) أحكامه (وَفِيكُمْ رَسُولُهُ) وهذان سببان قويان يحملان على البقاء على الإيمان، فعليكم الثبات على الإيمان وعلى خصاله وفق تعليم وتلقين هذين السببين (وَ) اعلموا أن (مَنْ يَعْتَصِمْ بِاللهِ) أي يستقِم على الإيمان كل الاستقامة، فإن الاعتصام بالله تعالى هوالتصديق بذاته وصفاته؛ ويمتثلْ أوامره و لا يوافق غيره (فَقَدْ هُدِىَ إِلىٰ صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) حتمًا ويقينًا. أي يكون على الصراط السوي، والاستقامة على الصراط المستقيم يرجع إليه كل صلاح و فلاح. ففيه بشارة ووعد بكل صلاح وفلاح لمن هذا شأنه.

فائدة:

       والتقييد بـ«اعتقادًا وعملًا» في تعميم الكفر، حاصله أن الكفر له معنى معروف، وهو الكفر العقدي، وله معنى آخر وهو أن يؤمن بقلبه، إلا أنه يفعل ما يفعله الكفار، وأطلق عليه الكفر مجازًا(4). وهو المراد بالكفر العملي. وكثر هذا الإطلاق في الكتاب والسنة النبوية، فمعنى الآية: أن طاعة أهل الكتاب يخشى منها الكفر، فإن أطاعهم في عقيدتهم كان كفرًا عقديًا، وإن أطاعهم في الأعمال والمعاصي مثل تهيئهم للقتال والحرب بتحريش أهل الكتاب. فهذا من عمل الكفار. وهذه الآية إن حملنا الخطاب فيها على الصحابة خاصةكما تدل عليه القصة المذكورة، فقوله: (وَفِيْكُمْ رَسُوْلُ اللهِ) ظاهر لايحتاج إلى تأويل، وأما لوجعلناها عامةً، كما يقتضيه عموم المعنى، فبقاء آثار نبوته وشواهدها إلى قيام الساعة بمنزلة تواجده –صلى الله عليه وسلم- بنفسه؛ فإن كونه هاديًا حين وجوده بين ظهرانيهم كان بالنظر إلى هذا الوصف نفسه، فتقرر أن المؤثر الحقيقي هو هذا الوصف.

مسائل السلوك:

       قوله تعالى: (وَمَن يَعْتَصِم بِاللهِ فَقَدْ هُدِىَ إِلٰى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ) قال العبد الضعيف: فيه التبرئ عن غير الله  وهو من شعائر أهل الطريق ويعبر هذا الاعتصام بما في الروح. وحقيقة الاعتصام عند بعضهم انجذاب القلب عن الأسباب التي هي الأصنام المعنوية والتبري إلى الله تعالى من الحول والقوة، و قيل: الاعتصام للمحبين هو اللجوء بطرح السوي، ولأهل الحقائق رفع الاعتصام لمشاهدتهم أنهم في القبضة.

اللغات:

       (شهيد) مطلع. (روح المعاني)

       (تصدون): في القاموس: صده: منعه وصرفه.اهـ، قلت: لوأخذ الإيمان بالفعل ناسب الثاني، ولو أخذ بالقوة بمعنى من أراد الإيمان ناسب الأول.

النحو:

       (تَبْغُوْنَها عِوَجًا) مستأنفة جيء بها كالبيان لذلك الصد، كذا في روح المعاني. و(عِوَجًا) أحد مفعولي «تَبْغُوْنَ»؛ فإن بغى يتعدى لمفعولين: أحدهما بنفسه، والآخر باللام، كما صرح به اللغويون، و تعديته للهاء من باب الحذف والإيصال، أي: تبغون لها.

البلاغة:

       في روح المعاني: لما كان كفرهم ظاهرًا ناسب ذكر الشهادة معه في الآية السابقة؛ لأنها تكون لما يظهر ويعلم، أوما هو بمنزلته – وصدهم عن سبيل الله – وما معه لما كان بالمكر والحيلة الخفية التي تروج على الغافل ناسب ذكر الغفلة معه في هذه الآية فلهذا ختم كلّاً من الآيتين بما ختم.

       قوله: (يا أهل الكتاب) قلت: صيغة العموم، وكان المحرش واحدًا أو اثنين كما يظهر من سبب النزول بناء على معنى الجنس، أو أنه كان هذا التحريش مرضيًا عند جميعهم. في روح المعاني: «خاطبهم الله تعالى بنفسه بعد ما أمر رسوله –صلى الله عليه وسلم- بخطاب أهل الكتاب إظهارًا لجلالة قدرهم وإشعارًا بأنهم هم الأحقاء بأن يخاطبهم الله تعالى. وفيه: وإيراده (أي قوله: بعد إيمانكم «مع عدم الحاجة إليه (لأن الرد إنما يكون بعد الإيمان).. وتوسيطه بين المنصوبين لإظهار كمال شناعة الكفر وغاية بعده من الوقوع.. كأنه قيل: بعد إيمانكم الراسخ». وفيه: «وقدم توبيخ الكفارعلى هذا الخطاب؛ لأن الكفار كانوا كالعلة الداعية إليه» وفيه: «قوله تعالى (وَكَيْفَ) قيل: المراد التعجيب أي لا ينبغي لكم أن تكفروا في سائر الأحوال لا سيما في هذه الحال. وفيه: «ولم يسند سبحانه التلاوة إلى رسول الله –صلى الله عليه وسلم- إشارة إلى استقلال كل من الأمرين في الباب، وإيذانًا بأن التلاوة كافية في الغرض من أي تالٍ كانت. في الكشاف: (فَقَدْ هُدِىَ) فقد حصل له الهدى لامحالة، كما تقول: إذا جئت فلانا فقد أفلحت. كان الهدى قد حصل، فهو يخبر عنه حاصلًا.اهـ، قلت: فالجزاء: فليتيقن أونحوه.

الروايات:

       في لباب النقول: أخرج الفريابي وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: كانت الأوس والخزرج في الجاهلية بينهم شر، فبينما هم جلوس ذكروا ما بينهم حتى غضبوا وقام بعضهم إلى بعض بسلاح. فنزلت: (وَكَيْفَ تَكْفُرُوْنَ) الآية والآيتان بعدها اهـ أي إلى قوله تعالى: (لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُوْنَ).

*  *  *

الهوامش:

(1)        قوله: هؤلاء: إشارة إلى العهد بقرينة سبب النزول.  

(2)        كما في روح المعاني في جملة الأقوال أومن صدق بتلك السبيل وآمن بذلك الدين بالفعل أوبالقوة القريبة منه.اهـ      

(3)        فريقًا أي غير معين فشمل شماس بن قيس وغيره وفيه مبالغة أي كل واحد منهم متشابه في الإضلال فضلًا عن جميعهم.          

(4)        فيكون في الآية عموم المجاز، فلايرد الجمع بين الحقيقة والمجاز.

*  *  *

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، المحرم – صفر  1438 هـ = أكتوبر – نو فمبر 2016م ، العدد : 1-2 ، السنة : 41

Related Posts