الفكر الإسلامي

بقلم:  الدكتور رشيد كهوس (*)

          إن الحديث النبوي الشريف هو السبيل الوحيد – بعد القرآن الكريم- لمعرفة الشرائع والأحكام – كما هو معلوم-؛ لأننا لو وُكلنا إلى القرآن وحده لغمض علينا، ولما عرفنا بأن الصلوات خمس، ولا عرفنا شرائطها وأركانها ومواقيتها، وكذلك الأمر مع جميع الأحكام… ثم إنه لا سبيل إلى معرفة سنة المصطفى –صلى الله عليه وسلم­- إلا بتلقي الأقوال والأفعال المنتهية إليه –صلى الله عليه وسلم- بالاتصال والعنعنة سواء كانت من لفظه المبارك أو كانت أحاديث موقوفة صحت الرواية بها عن جماعة من الصحابة والتابعين -رضي الله عنهم-.

       والحديث في اصطلاح المحدثين هو: كل ما أضيف إلى النبي –صلى الله عليه وسلم- من قول، أو فعل، أو تقرير، أو صفة خُلقية أو خِلقية، أو سيرة، سواء أكان ذلك قبل البعثة أم بعدها(1).

       ولذلك سأتحدث في هذا المقال عن مكانة الحديث النبوي الشريف وحجيته في التشريع. وذلك في مبحثين رئيسين.

المبحث الأول

الحديث النبوي وحي من الله تعالى

       إن الحديث النبوي الذي نريد أن نثبت كونه وحيًا يعني ما ثبت نسبته إلى سيدنا رسول الله –صلى الله عليه وسلم- من أقواله وأفعاله وتقريراته، وهو الذي أطلق عليه اسم «الهدي» كما روي عن عبد الله بن مسعود (أنه قال: «إن أحسن الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد-صلى الله عليه وسلم-»(2).

       وهنا نقف وقفة عند جملة من النصوص الشرعية التي تبين بوضوح أن الحديث النبوي الشريف وحي من الله تعالى: فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي-صلى الله عليه وسلم- قال:  «ما من الأنبياء نبي إلا أعطي من الآيات ما مثله أومن، أو آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيت وحيًا أوحاه الله إلي، فأرجو أني أكثرهم تابعًا يوم القيامة»(3).

       يبين سيدنا رسول الله –صلى الله عليه وسلم- في هذا الحديث الشريف أن معجزته الكبرى هي الوحي، والوحي لا ينحصر في القرآن الكريم الذي هو أعظم المعجزات وأَفْيَدها وأخلدها لاشتماله على العلم والمعرفة والدعوة والحجّة ودوام الانتفاع به إلى يوم القيامة. وإنما يدخل ضمنه بيان القرآن وشرحه الذي أجراه الله على لسان نبيّه –صلى الله عليه وسلم- في حديثه الشريف. وقد وردت آيات كثيرة تثبت هذا المعنى، من ذلك قوله تقدست كلماته: ﴿لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ﴾ (القيامة: 16-19).

       فالله تعالى يطمئن نبيه –صلى الله عليه وسلم- في هذه الآيات ويعده – ووعده حق- بأنه سيجمع القرآن في صدره فيحفظه دون أن يتفلّت منه شيء، ويردّده متى شاء بكل يسر، وسيعلّمه قراءته كما نزل. وقطع سبحانه وتعالى بأنه تكفّل ببيانه. قال عبد الله بن عباس – رضي الله عنهما- في قوله تعالى: «﴿ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ﴾: علينا أن نبينه بلسانك، فكان إذا أتاه جبريل أطرق، فإذا ذهب قرأه كما وعده الله»(4).

       وعبارة «بيانه» في قوله عز وجل: ﴿ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ﴾ جنس مضاف، فيعمّ جميع أصناف البيان المتعلّقة بالقرآن الكريم من إظهاره وتبيين أحكامه وما يتعلّق بها من تخصيص وتقييد ونسخ وغير ذلك(5).

       ونظرًا إلى أن السنة هي التي بيّنت الغامض، وفصّلت المجمل، ووضّحت المشكل، وفسّرت المبهم، وقيّدت المطلق، وخصصت العام، وحددت مواطن التدرج في التشريع فهي المراد في الآية والمقصود. فهي إذن وحي من الله تعالى.

       وكذلك قوله جل وعلا: ﴿لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْـمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُوْلًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ اٰيٰتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتٰبَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ﴾ (آل عمران: ١٦٤). إذ فُسرت الحكمة بالعقل والإتقان والصواب في القول والعمل(6).

       وفسرها عبد الله بن عباس – رضي الله عنهما- بعلم القرآن، ناسخه، ومحكمه ومتشابهه. وفسرت كذلك بفهم حقائق القرآن (7). وهي معانٍ تنطبق على الحديث الشريف ولا تخرج عن دائرته.

       والحكمة وردت في القرآن العزيز مقرونة بالكتاب في مواطن عديدة، وممن بسط القول في شرحها على أنها السنة المطهرة، الإمام محمد بن إدريس الشافعي (ت204هـ) – رحمه الله- حيث قال في رسالته: «سمعتُ مَنْ أرضى من أهل العلم بالقُرآن يقول: الحكمة سنة رسول الله-صلى الله عليه وسلم-»(8). ويعلل ذلك بقوله: «لأن القُرَآن ذُكر وأُتْبِعَتْه الحكمة، وذكرَ الله منَّه على خَلْقه بتعليمهم الكتاب والحكمة، فلم يَجُزْ – والله أعلم- أن يقال الحكمة هاهنا إلا سنة رسول الله.

       وذلك بأنها مقرونة مع كتاب الله، وأن الله افترض طاعة رسوله، وحتَّم على الناس اتباع أمره، فلا يجوز أن يقال لقول «فرضٌ» إلا لكتاب الله، ثم سنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

       لِـمَا وصفنا، من أنَّ الله جَعَلَ الإيمان برسولهم مقرونًا بالإيمان به.

       وسنة رسول الله –صلى الله عليه وسلم- مُبَيِّنَة عن الله معنى ما أراد، دليلًا على خاصِّه وعامِّه، ثم قرن الحكمة بها بكتابه، فأتبعها إياه، ولم يجعل هذا لأحد من خلقه غير رسوله»(9).

       ويبسط الشيخ مصطفى السباعي (ت:1384هـ) – رحمه الله- القول في دليل الشافعي فيقول: «وواضح مِمَّا ذكره الشافعي هنا –رَحِمَهُ اللهُ- أنه يجزم بأن الحكمة هي السُنَّةُ، لأن الله عطفها على الكتاب، وذلك يقتضي المغايرة، ولايصح أن تكون شيئًا غير السُنَّةِ، لأنها في معرض المِنَّةِ من الله علينا بتعليمنا إياها، ولا يمن إلا بما هوحق وصواب، فتكون الحكمة واجبة الاتباع كالقرآن، ولم يوجب علينا إلا اتباع القرآن والرسول، فتعين أن تكون الحكمة هي ما صدر عن الرسول-صلى الله عليه وسلم- من أحكام وأقوال في معرض التشريع.

       وإذا كان كذلك، كان رسول الله قد أوتي القرآن وشيئًا آخر معه يجب اتِّبَاعُهُ فيه. وقد جاء ذلك مصرحًا فيقول تعالى في وصف الرسول صلى الله عليه وسلم: ﴿يَأْمُرُهُمْ بِالْـمَعْرُوفِ وَيَنْهٰهُمْ عَنِ الْـمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبٰتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبٰئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأغْلٰلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ﴾ (الأعراف: 157) و ما دام اللفظ عَامًّا فهو شامل لمايحله ويحرمه مِمَّا مصدره القرآن، أو مصدره وحي يوحيه الله إليه»(10).

       يقول أبو البقاء الكفوي (ت:1094هـ): «وَالْحَاصِل أَن الْقُرْآن والْحَدِيث يتحدان فِي كَونهمَا وَحيًا منزلًا من عِنْد الله بِدَلِيل: ﴿إِن هُوَ إِلَّا وَحي يُوحى﴾ (النجم: 4) إِلَّا أَنَّهُمَا يتفارقان من حَيْثُ إِنّ الْقُرْآن هُوَ الـمنزل للإعجاز والتحدي بِهِ بِخِلَاف الحَدِيث، وَإِن الفَاظ الْقُرْآن مَكْتُوبَة فِي اللَّوْح الْـمَحْفُوظ، وَلَيْسَ لجبريل -عليه السلام- وَلَا للرسول –صلى الله عليه وسلم- أَن يتصرفا فِيهَا أصلاً، ثمَّ أنزل جملَة من اللَّوْح الْـمَحْفُوظ إِلَى السَّمَاء الدُّنْيَا وَأمر السفرة الْكِرَام بانتساخه، ثمَّ نزل إِلَى الأَرْض نجومًا فِي ثَلَاث وَعشْرين سنة. وَ أما الْأَحَادِيث فَيحْتَمل أَن يكون النَّازِل على جِبْرِيل معنى صرفًا فَكَسَاهُ حلَّة الْعبارَة، وَبَين الرَّسُول –صلى الله عليه وسلم-بِتِلْكَ الْعبارَة أَو ألهمه كَمَا تلقفه فأعرب الرَّسُول بِعِبَارَة تفصح عَنهُ»(11).

       أما الإمام ابن حزم الأندلسي (ت: 456هـ)-رحمه الله- فيؤكد ذلك في قوله: «صح لنا –بالآية: ﴿إِن هُوَ إِلَّا وَحْي يُوحَى﴾- أن الوحي ينقسم، من الله عز وجل إلى رسول الله –صلى الله عليه وسلم-، على قسمين:

       أحدهما: وحي متلو، مؤلف تأليفًا، معجز النظام وهو القرآن.

       والثاني: وحي مروي منقول غير مؤلف ولا معجز ولا متلو، لكنه مقروء، وهو الخبر الوارد عن رسول الله –صلى الله عليه وسلم-، وهو المُبَيِّن عن الله عز وجل مراده هنا»(12).

       ومن الأدلة القرآنية على أن السنة وحي، قوله تعالى: ﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾ (النحل:44).

       ويشرح الإمام ابن حزم عبارة «الذكر» الواردة في الآية بالوحي، فيقول: «صح أن كلام رسول الله –صلى الله عليه وسلم- كله في الدين وحي من عند الله عزوجل لاشك في ذلك، ولا خلاف بين أحد من أهل اللغة والشريعة في أن كل وحي نزل من عند الله تعالى فهو ذكر منزل، فالوحي كله محفوظ بحفظ الله تعالى له بيقين، وكلمات كفل الله بحفظها فمضمون ألا يضيع منه وألايحرف منه شيء أبدًا»(13).

       وردَّ على من زعم أن المراد بالذكر في الآية «القرآن وحده» بقوله:  «هَذِهِ دَعْوَى كَاذِبَةٌ مُجَرَّدَةٌ عَنْ البُرْهَانِ وَتَخْصِيصٌ لِلْذِّكْرِ بِلاَ دَلِيلٍ … وَالذِّكُرُ اسْمٌ وَاقِعٌ عَلَى كُلِّ مَا أَنْزَلَ اللهُ عَلَى نَبِيِّهِ (مِنْ قُرْآنٍ أَوْ سُنَّةٍ وَحْيٌ يُبَيِّنُ بِهَا القُرْآنَ، لَكِنْ بِبَيَانِ النَّبِيّ –صلى الله عليه وسلم-فَإِذَا كَانَ بَيَانُهُ صلى الله عليه وسلم لِذَلِكَ الـمُجْمَلِ غَيْرَ مَحْفُوظٍ وَلاَ مَضْمُونٍ سَلاَمَتُهُ مِمَّا لَيْسَ مِنْهُ، فَقَدْ بَطَلَ الاِنْتِفَاعُ بِنَصِّ القُرْآنِ، فَبَطَلَتْ أَكْثَرُ الشَّرَائِعِ الـمُفْتَرَضَةِ عَلَيْنَا فِيهِ، فَإِذَا لَـمْ نَدْرِ صَحِيحَ مُرَادِ اللهِ تَعَالَى مِنْهَا فما أخطأ فيه المخطئ أو تعمد فيه الكذب الكاذب، ومعاذ الله من هذا»(14).

       فالذكر بيانٌ أنزله الله تعالى، والحديث النبوي هو هذا البيان، فيكون بهذا وحيًا منزلًا من عند الله تعالى، وقد قام سيدنا رسول الله –صلى الله عليه وسلم- بتبليغ ما أنزل إليه من ربه على أكمل وجه، كما قام بتبيين القرآن الكريم خير تبيين؛ حيث فصل مجمله، ووضح مشكله، وفسر مبهمه، وقيد مطلقه، وخصص عامه، وبين ما تدرج من أحكامه وشرائعه، واستنبط من أحكامه وفرائضه، وحدد مقاصده ومراميه، وكشف عن مغازيه، وأبان عن معانيه.

       وعليه فإذا علمنا أن الله تعالى لا يقرّ نبيه على خطأ، تبين لنا أن سيدنا رسول الله –صلى الله عليه وسلم- عندما يحكم بين الناس إنما يحكم بما ورد في القرآن الكريم مما نص عليه فيه من أحكام، كما يحكم بينهم بما علمه الله وأراه.

       وإذا تتبعنا نصوص الحديث النبوي الشريف تبين لنا بصريح العبارة أن ما حرم رسول الله –صلى الله عليه وسلم- مثل ما حرم الله تعالى، وأنه –صلى الله عليه وسلم- أوتي وحيًا متلوًّا وهو القرآن الكريم، وآخر غير متلو وهو الحديث النبوي الشريف، وصدق التابعي الجليل حسان بن عطية – رضِيَ اللهُ عنه – لما قال: «كَانَ جِبْرِيلُ يَنْزِلُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِالسُّنَّةِ، كَمَا يَنْزِلُ عَلَيْهِ بِالْقُرْآنِ»(15). وفي رواية: «وَيُعَلِّمُهُ إِيَّاهَا كَمَا يُعَلِّمُهُ الْقُرْآنَ»(16).

       والكثير من الأحاديث الشريفة الصريحة تبين وتؤكد وتقرّ أن سيدنا رسول الله –صلى الله عليه وسلم- يتلقى الحديث من الله تعالى سواء كان ذلك بوحي جلي بواسطة جبريل – عليه السلام – وفي حال اليقظة، مثل: «أتاني آت»، أم بوحي خفي أي إلهام أو نفث في الروع، أو بالرؤيا في المنام، وهي واضحة الدلالة على أن الحديث وحي من الله تعالى.

       يقول أبو بكر البيهقي (ت:458هـ) – رحمه الله- في عبارة (الكتاب) الواردة في قول رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: «إنِّي لَا أُحِلُّ إِلَّا مَا أَحَلَّ اللهُ فِي كِتَابِهِ، وَلَا أُحَرِّمُ، إِلَّا مَا حَرَّمَ اللهُ فِي كِتَابِهِ»(17). يقول: «إِن صحت هَذِه اللَّفْظَة فَإِنَّمَا أَرَادَ فِيمَا أُوحِي إِلَيْهِ، ثمَّ مَا أُوحِي إِلَيْهِ نَوْعَانِ: أَحدهمَا وَحي يُتْلَى، وَالْآخر وَحي لَا يُتْلَى»(18).

       إن الإقرار بأن الحديث الشريف وحي ينبني عليه الإقرار بأن الحديث حق وصواب لأن مصدره الله العليم الخبير. وهنا قد يسأل سائل: كيف يكون الحديث النبوي وحيًا مبرأ عن الخطأ والاختلاف والتضارب، وفيه أحاديث مختلفة(19)، وأخرى مشكلة(20)، وغيرها ناسخة ومنسوخة(21).

       والمعلوم أن هذه الضروب من الأحاديث محمولة على غير محاملها لا يتعارض مع كون الحديث وحيًا؛ لأن تعارض الأحاديث المختلفة إنما هو تعارض ظاهري وليس حقيقيًا واقعيًا، وقد تولّى علماء الأمة بداية من الإمام الشافعي – رحمه الله- الجمع بين تلك الأحاديث وإثبات توافقها وعدم اختلافها، وحل إشكالات الأحاديث المشكلة بتأويلها على غير ظاهرها، أو الجمع بين بينها…

       وكذلك التدرج في الأحكام فهو حقيقة شرعية ربانية وليس نكوصًا عن حكم شرعي، وليس استبدال حكم آخر به اعتباطًا، وإنما وفق سنة الله تعالى في التدرج، حتى لا يترك الناس الحق جملة واحدة إذا أمروا بما لا طاقة لهم به، لذلك كان التدرج في الأحكام من منع إلى كراهة إلى تحريم؛ رحمة بالعباد ومراعاة لطبيعتهم الخِلقية…

       ومجمل القول: إن الحديث الشريف الذي لا مشكلة فيه ولا يعارض النص القرآني القطعي، وحي مصدره رب العالمين، ولا يعكر صفو هذه الحقيقة وجود أحاديث مختلفة ومشكلة وناسخة ومنسوخة.

       وإذا كان الحديث النبوي وحيًا، وكان رسول الله –صلى الله عليه وسلم- معصومًا من الخطأ فإن كل ما صح صدوره عنه صدق وحق، وجب الأخذ به والعمل بأحكامه، أو بما يمكن أن يستنبط منه من أحكام شرعية.

       ونظرًا إلى أن الحديث النبوي دين وشريعة فقد حرم –صلى الله عليه وسلم- الكذب والتزيد فيه، فعن علي بن أبي طالب – رضي الله عنه- قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تكذبوا علي، فإنه من كذب علي فليلج النار»(22).

       وكما وعد الله تعالى بحفظ كتابه، فإنه تعالى تعهد بحفظ بيان الكتاب وهو الحديث النبوي؛ إذ لا يحفظ المبيَّن إلا بحفظ المبيِّن، وقد قيّض الله لحديث نبيه الأمين –صلى الله عليه وسلم- علماء ربانيين ورجالًا أفذاذًا جهابذة حفظوه ونفوا عنه انتحال المبطلين وتأويل الغالين وشبهات المغرضين، وبينوا صحيحه من ضعيفه، وطهروه مما خالطه من شوائب، وما علق به من موضوعات، وردوا عنه ما ليس منه، فكان مع القرآن الكريم الدين القيم.

المبحث الثاني

حجية الحديث النبوي الشريف

       إن الحديث النبوي هو المنهاج الأمثل والأقوم لتطبيق القرآن الكريم، فلذلك زخر بالأحكام التشريعية على تباين أنواعها، واختلاف أحكامها، فنجده إما أن يكون مؤكدًا ومقرًّا لما جاء في القرآن الكريم، أو مبينًا لمجمله، أو مثبتًا لحكم سكت عنه، أو…

       وعليه، فالحديث الشريف مصدر أصيل من مصادر التشريع الإسلامي، وقد قامت الأدلة المعتبرة الصحيحة الصريحة من القرآن الكريم والأحاديث النبوية وإجماع الأمة وكذلك الأدلة العقلية على إثبات حجيته ومكانته في التشريع الإسلامي.

       لقد فرض الله على المسلمين بأدلة قطعية وجوب قبول حديث النبي –صلى الله عليه وسلم- على أنه مصدر تشريعي في استنباط الأحكام الشرعية، وذلك في قوله جل وعلا: ﴿وَمَا اٰتٰكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهٰكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا﴾ (الحشر:7). وقوله تعالى: ﴿فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ (النور:٦٣). وقوله جلّ ثناؤه: ﴿قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلا الْبَلٰغُ الْـمُبِينُ﴾ (النور:٥٤). وقوله تقدست كلماته: ﴿وَمَا كَانَ لِـمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلٰلًا مُبِينًا﴾ (الأحزاب:36).

       وهكذا شهد القرآن الكريم للسنة النبوية بالاعتبار.

       وقد نهجت الآيات القرآنية مناهج شتى في بيان حجية الحديث النبوي، وتعددت فيها وسائل تؤكد اتباعه وطاعته –صلى الله عليه وسلم-، كما تعددت فيها عبارات الوعيد والإنذار والترهيب من مخالفته والخروج عن مقتضى أوامره.

       وكما سبق أن بيَّنا أن الحديث وحي من الله تعالى والجزء الذي تكامل به الدين مع القرآن الكريم، إذن فهو حجة قاطعة في التشريع الإسلامي.

  وقد نص سيدنا رسول الله –صلى الله عليه وسلم- على حجية حديثه الشريف، وأكد أنه دليل من الأدلة الشرعية بعد القرآن الكريم، وكان هذا التقرير منه صلى الله عليه وسلم بَدَهيًا، ولاسيما بعد برهان القرآن الكريم على ذلك بآيات صريحة لا تحتمل التأويل.

       ولعلنا هنا نسرد أهم الأحاديث الشريفة التي تناولت إثبات حجية الحديث النبوي الشريف، وأنه مصدر مهم وأساس في التشريع الإسلامي بعد الكتاب العزيز.

       هذا، وقد ثبتت مجموعة من الأحاديث الشريفة تدعو صراحة إلى الاعتصام بالسنة والتمسك بها واتخاذها منهاجًا ونبراسًا؛ لأنها صادرة من المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى. ومن الأمثلة على ذلك:

       الدلالة الصريحة في وجوب التمسك بسنته صلى الله عليه وسلم في حديث العرباض بن سارية -رضي الله عنه- عن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «عَلَيْكُمْ بِمَا عَرَفْتُمْ مِنْ سُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْـمَهْدِيِّينَ»(23).

       ومما يدل صراحة على أن الحديث النبوي وحي من عند الله تعالى قوله صلى الله عليه وسلم:  «أَلَا إِنِّي أُوتِيتُ الْكِتَابَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ، أَلَا إِنِّي أُوتِيتُ الْقُرْآنَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ»(24).

       ولهذا أجمع المسلمون منذ عهد مولانا رسول الله –صلى الله عليه وسلم- إلى الآن على حجية الحديث النبوي الشريف، وعدِّه المصدر الثاني للتشريع الإسلامي بعد القرآن الكريم، ولم يخالف في ذلك إلا من اتبع غير سبيل المؤمنين. وقد نقل هذا الإجماع جمع كثير من أهل العلم المحققين(25).

       وهنا من الأهمية بمكان أن نؤكد منهاج حبيبنا رسول الله –صلى الله عليه وسلم- في هذا الاعتقاد من خلال إقراره لمعاذ بن جبل -رضي الله عنه- لما سأله –صلى الله عليه وسلم- حين أراد أن يبعثه إلى اليمن: «كيف تَقضِي إذا عَرَضَ لكَ قَضاء؟»  قال: أقضي بكتابِ الله. قال: «فإن لم تَجِدْ في كتاب الله؟» قال: فبسُنةِ  رسولِ الله صلى الله عليه وسلم. قال: «فإن لم تجد في سُنة رسولِ الله –صلى الله عليه وسلم- ولا في كتابِ الله؟» قال: أجْتَهِدُ رأيِي ولا آلُو، فضربَ رسولُ الله –صلى الله عليه وسلم- صَدْرَهُ و قال: «الحمدُ لله الذي وَفَّق رسولَ رسولِ الله لما يَرضَى رسولُ الله»(26).

*  *  *

الهوامش:

(1)        انظر: فتح المغيث شرح ألفية الحديث، شمس الدين محمد بن عبد الرحمن السخاوي، تحقيق: علي حسين علي، مكتبة السنة – مصر، ط1: 1424هـ=2003م، 1/22.

(2)        صحيح البخاري، كتاب الأدب، باب الهدي الصالح، ح5747.

(3)        صحيح البخاري، كتاب الاعتصام بالكتاب، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: بعثت بجوامع الكلم، ح6846.

(4)        صحيح البخاري، كتاب التفسير، باب الترتيل في القراءة، ح4757. صحيح مسلم، كتاب الصلاة، باب الاستماع للقراءة، ح1032.

(5)        فتح الباري شرح صحيح البخاري، أحمد بن علي بن حجر أبوالفضل العسقلاني الشافعي، دارالمعرفة-بيروت، ط: 1379هـ، رقم كتبه و أبوابه وأحاديثه: محمدفؤادعبدالباقي، ام بإخراجه وصححه وأشرف على طبعه: محب الدين الخطيب، عليه تعليقات: عبد العزيز بن عبدالله بن باز، 8/683.

(6)        انظر: البحر المحيط في التفسير، أبو حيان محمد بن يوسف بن علي بن يوسف بن حيان أثير الدين الأندلسي، تحقيق: صدقي محمد جميل،  دارالفكر– بيروت، ط: 1420هـ، ج2 ص284 وما بعدها.

(7)        انظر: المفردات في غريب القرآن، أبوالقاسم الحسين بن محمد المعروف بالراغب الأصفهانى، تحقيق: صفوان عدنان الداودي، دارالقلم، الدارالشامية – دمشق بيروت، ط1: 1412 هـ، ص250.

(8)        الرسالة، أبوعبد الله محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع بن عبدالمطلب بن عبد مناف المطلبي القرشي المكي الشافعي، تحقيق: أحمد شاكر، مكتبه الحلبي، مصر، ط1: 1358ه-1940م، ص78-79.

(9)        المصدر نفسه.

(10)      السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي،  مصطفى بن حسني السباعي، المكتب الإسلامي: دمشق- سوريا، بيروت-لبنان، ط3:  1402هـ=1982م، ص51.

(11)      الكليات معجم في المصطلحات والفروق اللغوية، أبوالبقاء أيوب بن موسى الحسيني القريمي الكفوي الحنفي، تحقيق: عدنان درويش ومحمد المصري، مؤسسة الرسالة- بيروت، ص722.

(12)      الإحكام في أصول الأحكام، أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم الأندلسي القرطبي الظاهري، تحقيق: أحمد محمد شاكر، قدم له: إحسان عباس، دارالآفاق الجديدة، بيروت، 1/97.

(13)      الإحكام في أصول الأحكام، 1/121.

(14)      المصدر نفسه، 1/122.

(15)      سنن الدارمي، أبو محمد عبدالله بن عبدالرحمن بن الفضل بن بَهرام بن عبد الصمد الدارمي التميمي السمرقندي، تحقيق: حسين سليم أسد الداراني، دارالمغني، السعودية، ط1: 1412هـ-2000م، ح608، 1/474.

(16)      المراسيل، أبوداود سليمان بن الأشعث بن إسحاق بن بشير بن شداد بن عمرو الأزدي السِّجِسْتاني، تحقيق: شعيب الأرناؤوط، مؤسسة الرسالة– بيروت، ط1: 1408هـ، ص361.

(17)      السنن الكبرى، أبوبكر أحمد بن الحسين بن علي بن موسى الخُسْرَوْجِردي الخراساني البيهقي، تحقيق: محمد عبدالقادر عطاء، دارالكتب العلمية، بيروت– لبنان، ط3: 1424هـ-2003 م، 7/120.

(18)      مفتاح الجنة في الاحتجاج بالسنة، عبد الرحمن بن أبي بكر، جلال الدين السيوطي، الجامعة الإسلامية، المدينة المنورة، ط3: 1409هـ=1989م، ص27-28.

(19)      المختلف: هو أن يأتي حديثان متضادان في المعنى ظاهرا، فيوفق بينهما أو يرجح أحدهما على الآخر.

(20)      المشكل: هو حديث صحيح يبدو ظاهره مخالفًا لآية قرآنية أو حكم شرعي أو حقيقة تاريخية أو ناموس كوني ونحو ذلك، فيزال هذا الإشكال ويبين أنه غير متعارض مع هذه الأصول.

(21)      النسخ: هو الخطاب الدال على ارتفاع الحكم الثابت بالخطاب المتقدم على وجه لولاه لكان ثابتا به مع تراخيه عنه.

(22)      صحيح البخاري، كتاب العلم، باب إثم الكذب على النبي صلى الله عليه وسلم، ح106.

(23)      مسند أحمد بن حنبل، تحقيق: شعيب الأرناؤوط وعادل مرشد وآخرون،  إشراف: عبدالله بن عبد المحسن التركي، مؤسسة الرسالة، ط1: 1421هـ=2001م، 28/367.

(24)      مسند أحمد بن حنبل، 28/410. والحديث عنِ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِيكَرِبَ الْكِنْدِيِّ رضي الله عنه.

(25)      انظر: إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول، محمد بن علي بن محمد بن عبدالله الشوكاني اليمني، تحقيق: أحمد عزوعناية، قدم له: خليل الميسوولي الدين صالح فرفور، دارالكتاب العربي، دمشق، ط1: 1419هـ=1999م، ص1/96-97. علوم الحديث ومصطلحه – عرضٌ ودراسة، صبحي إبراهيم الصالح، دارالعلم للملايين، بيروت-لبنان، ط15: 1984م، ص301 وما بعدها. الإحكام في أصول الأحكام، ج2، ص6 وما بعدها.

(26)      سنن أبي داود، كتاب الأقضية، باب اجتهاد الرأي في القضاء، ح3592.

            هذا الحديث النبوي الشريف تكلم فيه كثير من أهل الحديث، لكن الفقهاء يذكرونه في كتبهم ويعتمدون عليه. مما يدل على أن معناه صحيح. انظر: العلل المتناهية في الأحاديث الواهية، جمال الدين أبوالفرج عبدالرحمن بن علي بن محمد الجوزي، تحقيق: إرشاد الحق الأثري، إدارةالعلوم الأثرية، فيصل آباد، باكستان، ط2: 1401هـ=1981م، 2/273.

*  *  *


(*)  أستاذ ورئيس مجموعة البحث في السنن الإلهية بكلية أصول الدين بـ«تطوان» جامعة القرويين، المغرب.

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، المحرم – صفر  1438 هـ = أكتوبر – نو فمبر 2016م ، العدد : 1-2 ، السنة : 41

Related Posts