دراسات إسلامية
بقلم: مساعد التحرير
المنة لغة: للمنة في اللغة أصلان كما يقول ابن فارس: أحدهما يدل على قطع وانقطاع، والآخر على اصطناع خير.
فالأول: المن: القطع، فيقال: منه يمنه منا: قطعه(1). ومنه قوله تعالى: ﴿وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ﴾ [القلم/3].
قال ابن كثير: ومعنى غير ممنون: أي غير مقطوع. وقوله تعالى: ﴿إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّٰلِحٰتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ﴾ [الانشقاق/25]. وقال ابن عباس: غير منقوص، وقال مجاهد والضحاك: غير محسوب. قال ابن كثير: وحاصل قولهما: أنه غير مقطوع(2). ومن هذا الباب: المنون: الموت وهى جمع منية، سميت بذلك؛ لأنها تنقص العدد وتقطع المدد(3).. والأصل الآخر للمن، تقول: منّ يمنّ منًّا، إذا صنع صنعًا جميلا. ومن هذا الباب المنة، وهي القوة التي بها قوام الإنسان(4).
المنّة: الامتنان، وهو تعظيم الإحسان والتفاخر به حتّى يفسد(5).
وَالْـمَنُّ مِنَ الْأَذَى قَالَ تَعَالَى: ﴿يٰأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقٰتِكُمْ بِالْـمَنِّ وَالْأَذى﴾ [الْبَقَرَة: 264] . وَقَدِ انْتَزَعَ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ عَبْدُ اللهِ بْنُ الزَبِيْرِ (بِكَسْرِ الْـمُوَحَّدَةِ) أَوْ غَيْرُهُ فِي قَوْلِه:
سَأَشْكُرُ عَمْروًا إِنْ تَرَاخَتْ مَنِيَّتِي
أَيَادِيَ لَمْ تُمْنَنْ وَإِنْ هِيَ جَلَّتِ
وَمُرَادُهُ عَمْرُو بْنُ سَعِيدٍ الْـمَعْرُوفُ بِالْأَشْدَقِ.
والمن بالمعروف رذيلة من الرذائل فكان العرب ينأون بجانبهم عنه ويفتخرون بعدم المن، ومنه ما قال الشاعرعبد الصمد بن المعذل(6):
أمُـنُّ عَلىَ المُجْتَــدِي … وَمَـا أُتْبِـعُ المَـنَّ مَن
كَأَنْ لَمْ يَــزَل مَا أَتَـى … وَمَا قَد مَضَى لَمْ يَكُنْ
أَرَى النَّاسَ أُحْدُوْثَةً … فَكُوْنِي حَدِيثًا حَسَنْ(7)
ويقول حاتم(8):
فَخُــذْهَـا إِنَّهَا مِئَــتَا بَعِـــيْرٍ
سِوَى النَّابِ الرَّذِيَّةِ وَالْفَصِيْلِ(9)
فَلَا مَــــنٌّ عَلَيْكَ بِهَـا؛ فَـإِنِّيْ
رَأَيْتُ الْـمَنَّ يُـزْرِيْ بِالْجَزِيْلِ
فَآبَ البَرْجَمِيُّ وَمَــا عَلَيْـــهِ
مِنَ أَعْبَاءِ الْحَمَالَةِ مِنْ فَتِيْلِ(10)
وقال إبراهيم بن العباس الصولي(11) مفتخرًا بترك المن:
أُفَــرِّقُ بَيْنَ مَعْــرُوْفِيْ وَمَنِّى
وَأَجْمَعُ بَيْنَ مَالِيْ وَالْحُقُوْق(12)
ويقول عبد الله بن المعتز في المعتضد بالله(13):
يَهيمُ إلَى كلِّ مــا يَشْتَــهِي
وَإنْ رَدَّهُ الْعَذْلُ لَمْ يَنْجَذِبْ
وَيْسْخُو بِمَا قَدْ حَوَتْ كَفُّهُ
وَلاَ يُتْبِعُ المَنَّ ما قَدْ وَهَبْ
فَكَمْ فِضَّةٍ فَضَّها فِي سُرُو
ر يَوْمٍ وَكَمْ ذَهَبٍ قَدْ ذَهَبْ(14)
يقول أبو الفتح الببغاء(15):
أَفْسَدْتَ بالمن ما أسديْتَ من حَسَنٍ
ليس الكريمُ إِذا أعطى بمنـــــانِ
ويقول علي بن الجهم(16):
يَا مُبْطــلاً فعـلَ الجميلِ بمِنَّــةٍ
أسخطْتنَي مِنْ بَعْدِ مَا أَرْضَيْتَنيْ
يَا لَيْتَ كَفَّكَ لَمْ تُسَامِحْني بِـــهِ
أَوْ لَيْتَنِيْ جَانَبْتُ مَـــا أَوْلَيْتَنِيْ
وقال الإمام الشافعي(17):
إِذا احتاجَ النوالُ إِلى شفيعٍ
فلا تقبلهُ تضحِ قريـرَ عينِ
إِذا عيفَ النوالُ لفردِ منٍ
فأولى أن يُعــافَ لِمنَّتـــينِ
وقال مكي الماكسيني(18):
وَمَنْ سَامَحَ الأيامَ يَرْضَ حَيَاتَهُ
وَمَنْ مَنَّ بِالمْعْرُوْفِ عَادَ مُــذَمَّمَا
وَمَنْ نَافَسَ الإِخوانَ قلَّ صديقُهُ
وَمَنْ لَامَ صَبًّا فِي الْهَوَى كَانَ أَلْوَما(19)
قال أبو يعقوب الخزيمي(20):
زَادَ مَعْرُوفَكَ عِنــدِي عُظَـمًا
أنَّهُ عِنْــدَكَ مَسْتُــورٌ حَقِــيرْ
تَتنـــــــــاساهُ كأنْ لمْ تَأْتِــهِ
وَهُوَ عِنْدَ النَّاسِ مَشْهُورٌ كَبير(21)
وقال آخر:
لأشكرنّك معــروفـًا هممت بــه
إنّ اهتمامك بالمعــروف معـروف
ولا ألومـك إن لـم يمضــه قـدر
فالشىء بالقدر المجلوب مصروف(22)
وكانوا يعتبرون المحروم من حسنة يتبعها المن مرزوقًا حيث يقول أبو تمام:
إَذَا ابْتَدَأَ بُخَلَاءَ النَّاسِ عَارِفَةً
يَتْبَعُهَا المَنُّ فَالْمَرْزُوْقُ مَنْ حُرِمَا
فأراد أبو تمام أنه ليس بمحدود ولا محارفٍ في ملتمساته ومكالبه(23).
و أحسن العطاء موقعًا ما لم يشب بمن وفي مثله يقول الشاعر:
أَحْسَنُ مِنْ كُلِّ حَسَنْ … فِي كُلِّ وَقْتٍ وَزَمَنْ
صَنِيْعَةٌ مَشــــْكُـوْرَةٌ … خَــــالِيَةٌ مِنَ الْمِـنَنْ(24)
ومن المذموم أن يحمل المرء حسنة ممن يتبعها المن، وينسب للإمام الشافعي رحمه الله – وقيل: هو لأبي بشر الخوارزمي-
لَا تـَـحْمِلَـنَّ لِـمَـنْ يَمُـنّ
مِـنَ الأنَامِ عَلَيْــكَ مِنَّــــه
وَاخْتـــَرْ لِنَفْسِكَ حَظَّـهَـا
وَاصْبِـرْ فَإنَّ الصَّبْرَ جُنَّـــه
مِنَنُ الرِّجَــالِ عَلَى القُلُــوْ
بِ أَشَدُّ مِنْ وَقْعِ الْأَسِنَّه(25)
والنابغة الذبياني في مدحه للغساسنة طمعًا في نوالهم، لايهمه مقدار الهدية بقدر ما يهمه ألا تكدر بمن ولا تذكير حين يقول:
عَلَيَّ لِعَمْرٍو نِعْمَةٌ بَعْدَ نِعْمَـــةٍ
لِوَالِدِهِ لَيْسَتْ بِذَاتِ عَقَارِبٍ(26)
والمنّ يمحق النعم، قالوا : خير الإحسان ما لم يتقدمه مطل ولم يتبعه منّ. ولقد أحسن قائل هذين البيتين:
إِذَا زَرَعْتَ جَمِيْلاً فَاسْقِهِ غَــدَقًـا
مِنَ الْمَكَارِمِ كَيْ يَنْمُو لَكَ الشَّجَرُ
وَلَا تَشُبْــهُ بِمَنٍّ فَالَّـــذِيْ نَقَلُوْا
مِنْ عَادَةِ الْـمَنِّ أَنْ يُؤذَى بِهِ الثَّمَرُ(27)
وقال موسى شهوان يمدح حمزة بن عبد الله بن الزبير بترك المن:
حَمْــزَةُ المبْتَـاعُ بِالـمَـالِ الثَّنَاءَ
وَيَــرَى فِي بَيْعِـهِ أَنْ قَـدْ غبن
وَإِذَا أَعْـطَى عَطَاءً مُفَضَّــلاً
ذَا إِخَـــاءٍ لَمْ يُكَــدِّرْهُ بِمَــن
ويستبعدون أن يسود المنان حيث يقول الشاعر:
أَرَاكَ تُـؤَمِّلُ حُسْـنَ الثَّنـَاءِ
وَلَمْ يَـرْزُقِ اللهُ ذَاكَ الْبَخِيْلَا
وَكَيْفَ يَسُــوْدُ أَخَا بِطْنَــةٍ
يَمُنُّ كَثِيْرًا وُ يُعْطِيْ قَلِيْلَا(28)
* * *
الهوامش:
(1) لسان العرب، ابن منظور، دار المعارف، 6/ 4277، مادة منن.
(2) تفسير ابن كثير4/524.
(3) معجم مقاييس اللغة، ابن فارس، 5/ 267. مادة: من، لسان العرب، ابن منظور، 6 / 4279، مادة: منن.
(4) معجم مقاييس اللغة، ابن فارس، 5/ 267 .
(5) الأمثال للهاشمي1/78.
(6) عبد الصمد بن المعذل بن غيلان بن الحكم العبدي القيسي أبو القاسم (ت: 240 هـ = 854 م) من بني عبد القيس، من شعراء الدولة العباسية.
ولد ونشأ في البصرة. كان هجاءً، شديد العارضة سكيرًا خميرًا(معجم الشعراء العرب1/ 1599).
(7) الكامل في اللغة2/7.
(8) حاتم بن عبد الله بن سعد بن الحشرج الطائي القحطاني، أبو عدي(ت: 46 ق. هـ= 577 م) شاعر جاهلي، فارس جواد يضرب المثل بجوده. كان من أهل نجد، وزار الشام فتزوج من ماوية بنت حجر الغسانية، ومات في عوارض (جبل في بلاد طيء) (معجم الشعراء العرب1/ 1106).
(9) الناقة المسنة، والرذية: مؤنث الرذي، وهو الضعيف من كل شيء ومن أثقله المرض.
(10) جمهرة خطب العرب1/34.
(11) إبراهيم بن العباس بن محمد بن صول أبو إسحاق(176 – 243 هـ / 792 – 857 م) كاتب العراق في عصره، أصله من خراسان، و كان جده محمد من رجال الدولة العباسية ودعاتها، ونشأ إبراهيم في بغداد فتأدب فيها، وقربه الخلفاء، فكان كاتبا للمعتصم والواثق والمتوكل. وتنقل في الأعمال والدواوين إلى أن مات، متقلدًا ديوان الضياع والنفقان بسامراء. له (ديوان رسائل) و (ديوان شعر) و (كتاب الدولة)وغيرها. (معجم الشعراء العرب1/ 20).
(12) غرر الخصائص الواضحة1/324.
(13) عبد الله بن محمد المعتز بالله بن المتوكل بن المعتصم بن الرشيد العباسي، أبو العباس(247 – 296 هـ / 861 – 908 م) الشاعر المبدع، خليفة يوم وليلة. ولد في بغداد، وأولع بالأدب، فكان يقصد فصحاء الأعراب ويأخذ عنهم. آلت الخلافة في أيامه إلى المقتدر العباسي، واستصغره القواد فخلعوه، وأقبلوا على ابن المعتز، فلقبوه (المرتضى بالله)، وبايعوه للخلافة، فأقام يومًا وليلة، ووثب عليه غلمان المقتدر فخلعوه، وعاد المقتدر، فقبض عليه وسلمه إلى خادم له اسمه مؤنس، فخنقه. وللشعراء مراث كثيرة فيه. (معجم الشعراء العرب1/ 98).
(14) أشعار أولاد الخلفاء 1/121.
(15) عبد الواحد بن نصر بن محمد المخزومي، أبو الفرج المعروف بالببغاء (ت: 398 هـ= 1008 م) شاعر مشهور وكاتب مترسل، من أهل نصيبين اتصل بسيف الدولة ودخل الموصل وبغداد، ونادم الملوك والرؤساء. (معجم الشعراء العرب1/ 563).
(16) علي بن الجهم بن بدر، أبو الحسن (188 – 249 هـ /803 – 863 م) شاعر، رقيق الشعر، أديب، من أهل بغداد كان معاصرًا لأبي تمام، وخص بالمتوكل العباسي، ثم غضب عليه فنفاه إلى خراسان، فأقام مدة، وانتقل إلى حلب، ثم خرج منها بجماعة يريد الغزو، فاعترضه فرسان بني كلب، فقاتلهم وجرح ومات. (معجم الشعراء العرب1/ 1753).
(17) محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع الهاشمي القرشي المطلبي أبو عبد الله (150 – 204 هـ / 767 – 819 م): أحد الأئمة الأربعة عند أهل السنة وإليه نسبة الشافعية كافة. ولد في غزة بفلسطين وحمل منها إلى مكة وهو ابن سنتين، وزار بغداد مرتين وقصد مصر سنة 199 فتوفي بها وقبره معروف في القاهرة. (معجم الشعراء العرب1/ 698).
(18) هوأبو الحرم مكي بن ريان بن شيبة بن صالح الماكسيني-من أعمال سنجار- ثم الموصلي النحوي قدم بغداد وأخذ عن ابن الخشاب، وابن القصار، والكمال الأنباري، وقدم الشام فانتفع به خلق عظيم: منهم الشيخ علم الدين السخاوي وغيره، وكان ضريرا يتعصب لأبي العلاء المعري؛ لما بينهما من القدر المشترك في الأدب والعمى.راجع:البداية والنهاية لابن كثير16/752.
(19) مجمع الحكم9/476 وما بعدها.
(20) إسحاق بن حسان بن قوهي الصفدي أبو يعقوب الخريمي(166 – 212 هـ / 782 – 827 م) أبو يعقوب الصفدي أصلاً التركي جنسًا الخريمي ولاءً والصفد كورة قصبتها سمرقند وقيل: هما صفدان صفد سمرقند وصفد بخارى. شاعر مطبوع وصفه أبو حاتم السجستاني بأشعر المولدين. ولد في الجزيرة الفراتية وسكن بغداد واتصل بخريم الناعم فنسب إليه أو كان اتصاله بابنه عثمان بن خريم. ثم اتصل بمحمد بن منصور بن زياد كاتب البرامكة ومدحه ورثاه بعد موته وأدركه الجاحظ وسمع منه. وعمي قبل وفاته (معجم الشعراء العرب1/ 646).
(21) أبو العباس المبرد، الفاضل1/96.
(22) أبو العباس المبرد، الفاضل1/96.
(23) أبو القاسم الحسن بن بشر الآمدي (ت370 هـ)، الموازنة بين أبي تمام والبحتري (ت/ السيد أحمد صقر، نشر/ دار المعارف، ط: 4)1 /360.
(24) غرر الخصائص الواضحة1/324.
(25) أحمد قبش نجيب، مجمع الحكم والأمثال 9/483.
(26) عبد القادر البغدادي،خزانة الأدب ولب لباب لسان العرب، ت: عبد السلام محمد هارون 2/324 ط:مكتبة الخانجي، القاهرة.
(27) غرر الخصائص الواضحة1/324.
(28) أبوحيان التوحيدي،الإمتاع والمؤانسة1/294.
* * *
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، المحرم – صفر 1438 هـ = أكتوبر – نو فمبر 2016م ، العدد : 1-2 ، السنة : 41