دراسات إسلامية
إعداد وتقديم: الأستاذ محمد جسيم الدين القاسمي (*)
أنا البحر في أحشائه الدر كامن
فهل سألو الغواص عن صدفاتي
اللغة العربية دافعت عن نفسها على لسان شاعر النيل «حافظ إبراهيم» في قصيدة رائعة، واللغة العربية هي لغة يفتخر بها العرب والمسلمون ويعتزون بها، فهي تحتضن كتابهم وتشريعهم، وتعبر عن علومهم وآدابهم، حين تعالى الهمس واللمز حولها في أوساط رسمية وأدبية، فنظم حافظ إبراهيم هذه القصيدة يخاطب بلسانها قومه ويستثير ولاءهم لها وإخلاصهم لعرائسها وأمجادها فيقول:
رجعت لنفسي فاتهمت حصاتي
وناديت قومي فاحتسبت حياتي
رموني بعقم في الشباب وليتني
عقمت فلـم أجزع لقول عداتي
ولدت فلما لم أجـد لعـرائسي
رجــالا وأكفـاء وأدت بنــاتي
في هذه القصيدة شخص الشاعر اللغة العربية أي جعلها شخصا يتكلم عن نفسه؛ بل جعلها أما تنعى عقوق أبنائها لها، وتعلن دهشتها من أبنائها الذين يخوضون في هذا الحديث الظالم ضدها فتقول: بعدما سمعت الضجة الكبرى والحملة الجائرة ضدي رجعت لنفسي واتهمت عقلي، ولكن تبين كذب ما يقولون، فعلمت أنهم يريدون وأدي، فناديت قومي واحتسبت حياتي عند الله فيما يدخر، فهم قد اتهموني بالعقم في شبابي وليتني عقيما فلم أجزع لقول أعدائي، ولكنني أنا الودود الولود تتجدد في كل عصر وزمان، فقد ولدت الكلمات والعبارات ولكن لم أجد لها الرجال الأكفاء الجديرين بها الحريصين على إظهار مكنوناتها فوأدتها وهي حية.
إن اللغة العربية تواجه اليوم تحديات جمة بعضها داخلية وبعضها خارجية، وإن كانت تحديات اليوم المتمثلة في العولمة، وذلك لأهداف ومآرب ليست بريئة على الإطلاق وإذا كان الكثير من المهتمين باللغة العربية والباحثين فيها التمسوا أسباب هذه التحديات، ووضعوا جملة من الوسائل من الرهانات، إلا أن هذه التحديات تزداد يومًا فيومًا في زمن العولمة، وانتشار وسائل الاتصال واتساعها على نطاق كبير.
واللغة العربية تعاني اليوم محنة كبيرة خاصة مع انتشار لغة الإنترنت والتطور التكنولوجي وسيطرة اللغات الأخرى وانتشار العامية. ويليق بنا أن نسلط الضوء على التحديات المعاصرة وأسبابها وقضايا معالجتها.
مراحل التحديات:
يخبرنا تاريخ اللغة العربية بأنها واجهت تحديات جمة عبر تاريخها الطويل منذ الجاهلية وحتى يومنا هذا، وبذل العرب جهودًا جبارة لمواجهة هذه التحديات، ففي القرن الثاني الهجري اتسعت الدولة الإسلامية ودخل اللحن إلى اللغة، فكان أن انبرى علماء اللغة إلى التدوين ووضع المعاجم اللغوية لضبط اللغة العربية.
وفي العصر العباسي تعرضت اللغة لمحنة كبيرة عندما سقطت الخلافة العباسية ودخل «هولاكو» بغداد وألقى الكتب في نهر «دجلة»، فأصبح أزرق اللون، وهذه المحنة تماثلها المحنة التي حدثت في «أسبانيا» عندما سقطت غرناطة وأحرقت الكتب والمخطوطات العربية.
لعل أخطر التحديات التي واجهتها اللغة هي مع الاستعمار الحديث؛ لأن هذا الاستعمار هاجم اللغة في جوهرها وعمل على تقويض دعائمها من حيث الدعوة إلى كتابة اللغة العربية بالأحرف اللاتينية أولًا، وثانيًا من خلال استخدام العاميات بدل الفصحى، وهذه الدعوات قادها عدد من المستشرقين المرتبطين بالغزو الاستعماري، كالمستشرق الألماني «سبيته» الذي ألف كتابا في الأقوال والأمثال المصرية باللغة اللاتينية.
وللأسف، هذه الدعوات وجدت صدى عند بعض المفكرين العرب، خاصة في مصر و لبنان، مثلما قال سلامة موسى «ولست أحمل على اللغة العربية الفصحى إلا لسببين أولًا صعوبة تعلمها وثانيًا عجزها عن تأدية أغراضٍ أدبية وعلمية لذلك من مصلحة أبناء أمتنا المصرية أن يكتبوا بالعامية للمحافظة على وطنيتهم المصرية»(1).
ويجدر بالذكر بعض التحديات التي تواجهها اللغة العربية في العصر الحديث وفي مقدمتها: التحديات الداخلية، والتي تتخذ من شعار تطوير اللغة العربية ستارا لها، وقد عرض الدكتور محمد حسين أبرز هذه التحديات، وهي عنده ثلاثة:
الأول: ما يتعلق بإصلاح النحو والقواعد.
الثاني: ما يتعلق بالخط العربي.
والثالث: ما يتعلق بالأدب العربي.
يقول طيب الله ثراه: «فلنعد إلى عرض هذه الدعوات الهدامة التي تستهدف قتل العربية الفصيحة في شيء من التفصيل. نستطيع أن نحصر هذه الدعوات في شعب ثلاث: تتناول أولاها اللغة، فيطالب بعضها بإصلاحها، ويطالب بعضها الآخر بالتحول عنها إلى العامية. وتتناول ثانيتها الكتابة، فيدعو بعضها إلى إصلاح قواعدها، ويدعو بعضها الآخر للتحول عنها إلى الحروف اللاتينية. وتتناول الشعبة الثالثة: الأدب، فيدعو بعضها إلى العناية بالآداب الحديثة، وما يتصل منها بالقومية خاصة، ويدعو بعضها الآخر إلى العناية بما يسمونه «الأدب الشعبي» ويقصدون به كل ما هو متداول بغير العربية الفصيحة، مما يختلف في البلد الواحد باختلاف القرى وبتعدد البيئات»(2).
ظلت اللغة العربية على مر القرون تحافظ على هويتها ولأن القرآن الكريم أنزل بهذه اللغة فقد تكفل بحفظها لكن عرى السنين وتغير المقومات الحضارية وفقدان العرب سيطرتهم على العالم، بدأت اللغة العربية في التراجع عن الصدارة بعد أن كانت جميع الأمم تستفيد منها وتغذي علومها اعتمادا عليها.
هناك من النقاد من يعتد بأن هناك مخاطر تترصد اللغة العربية فهناك ضغوط داخلية تدعي الحرص على اللغة فتسعى للتضييق عليها وإبقائها على ماهي عليه سواء في مراحلها المتطورة أو إبقائها متخلفة حتى أوصلتها لدرجة الموات، ومن جانب آخر ضغوط خارجية لعلها تتوازى معها فتصفها بالمتأخرة وعدم مقدرتها على مواكبة تحديات العصر، وعدم تمكنها من التلاؤم مع التكنولوجيا الحديثة.
فالإنترنت على سبيل المثال تقنية حديثة واللغة التي تسيطر عليها هي الإنجليزية ويسعى الفرنسيون لاتخاذ مكان في هذا المجال، أما اللغة العربية فلا تملك أي حصة سوى مجرد التواجد كمواقع فقط.
ولعل هناك الكثير من الكتب والمؤلفات التي تحاول تأكيد استحقاق ريادة اللغة العربية وقدرتها على التماشي وفق متطلبات العصر، ففي اللغة العربية عبارات وقواعد وآداب لم تزل حية تنمو مع نمو الحياة، إذ أنها كائن حي ينمو ويموت حسب الرعاية له.
ونحن هنا نحاول أن نرصد بعض الآراء التي تقترب أو تبتعد عن هذه الرؤية التي مازالت في شد وجذب فاللغة العربية بحاجة إلى من يمد يديه إليها سواء كان ذلك من خلال ندوات أو مؤتمرات أو أطروحات فكرية.
بداية يقول الدكتور محمد ربيع الغامدي – رئيس قسم اللغة العربية بجامعة الملك سعود-: إن التحديات التي تواجه اللغة العربية اليوم نسبية وليست كما يطلق بشكل عام، إذ إن التحدي الحقيقي الذي يواجهها هو كيفية تقديمها وتطويرها والانصياع للتطور الذي تمر به الظاهرة اللغوية، أما تجميدها بدعوى الحفاظ عليها فهو يسيء إليها، معتقدا أن تطويع اللغة يساير الركب العالمي في البحث اللغوي باعتبار اللغة في أحد جوانبها ظاهرة لغوية كأي لغة في العالم، دون أن ننكر خصوصيتها.
من هنا نستطيع الدخول إلى عمق المواجهة مع التحدي أما المكابرة وإحاطتها بشيء مما نظنه حماية فهو الأمر الذي قد يكون هادما لها دون معرفة منا.
ويضيف الغامدي: إننا نتحمل مسؤولية خدمة هذه اللغة لأسباب مهمة وهي أنها لغة القرآن فاللغة العربية لها خصائص لا يمكن أن تشاركها فيها لغة أخرى فهي تنفرد بكونها لغة القرآن وهذا السبب الجوهري هو الذي يحمل أتباع الدين الإسلامي الناطقين باللسان العربي مسؤولية ضخمة، ولو كنا قد قمنا بمسؤوليتنا تجاه اللغة العربية لكانت من اللغة الأولى التي تنافس الإنجليزية والألمانية والفرنسية.
أما بالنسبة للتخوف على اللغة فثمة خوف إيجابي وآخر سلبي ويحق لنا أن نخاف على اللغة مثلما فعل الفرنسيون في خوفهم من غزو اللغة الإنجليزية، لكننا في الحقيقة نقف أمام مسألة تطور اللغة، وعلينا في مثل هذه الحالة أن نتبع الخطوات العملية الكفيلة بذلك بدلا من الخوف، فحينما تبالغ الأم في حفظ وليدها عن الشمس والهواء تخوفا على صحته ستكون النتيجة إصاباته بالأمراض المختلفة؛ لأنه لم يأخذ القسط الوافر من الشمس والهواء الضروريين فالمبالغة في الحفاظ على الشيء يضره أحيانا؛ لكن المواءمة بين مسؤولياتنا ومتطلبات لغة القرآن ومتطلبات الحفاظ عليها وإخضاعها للبحث العلمي باعتبارها لغة مثل أي لغة أخرى يعتبر هو الطريق الصحيح والسليم في الحفاظ عليها.
ويرى الغامدي أن تطوير اللغة من خلال المواءمة يعد عملًا متعبًا، وعلينا أن نسعى لتضافر الجهود والقيام بدراسة دؤوبة وحث الباحثين على زيادة النشاط من خلال المؤتمرات والندوات وبالأمر الذي يجعل اللغة تسير بخطة التقدم وتستطيع مسايرة البحث العلمي والذي بالتالي سيجعلها في مصاف اللغات الأولى.
إلا أن البحث العلمي في العالم العربي يعاني انقطاع الجهود وعدم التواصل والقطيعة العرفية في هذا المجال وعدم التنسيق بين مختلف المؤسسات البحثية والتي لها اهتمامات في مجال دراسات اللغة العربية وهو الأمر الذي يبدو وكأنه مستحيل.
ويرجع هذا الأمر بالدرجة الأولى إلى عدم قيام العمل المؤسسي المنظم فأغلب العمل العربي يعتبر فرديًا، والفرد مهما أنجز لا يستطيع أن يأتي بعمل خارق مع ملاحظة أن جهود جماعة أو أمة بشتاتها لا يؤدي عملًا متميزًا، ولذلك فالعمل المؤسسي المنظم هو الذي يتيح الالتقاء بين المؤسسات المنفردة في كل دولة على حدة من أجل تلاقح الأفكار وإنتاج رؤى حكيمة تؤدي في النهاية إلى عمليات تطويرية في اللغة إلا أن ذلك يبقى في إطار الأحلام إذ حتى بعض المؤسسات الموجودة لا تفي بالغرض.
ولعلنا هنا نتساءل: هل للأدب العربي دور هام في الحفاظ على اللغة ومع متابعة ولو سريعة لعيون وآثار الأدب العربي وهل كان له دور في إعطاء اللغة وزنًا، أم أنه مجرد نثر على قارعة الأدب هذه المتابعة قد ترسم لنا صورة واضحة عن هذا التساؤل.
فقبل مجيء الاسلام ونزول القرآن كأرقى كلام في اللغة العربية كان هناك ولا يزال تراث ضخم من الشعر والنقد والنثر والخطابة حيث كان أقل حاكم عربي في ذلك الوقت يستطيع إلقاء خطبة عصماء.
فالحجاج على سبيل المثال رغم أنه كان سفاحا إلا أن لسانه كان خادما للغة وإن كان الحجاج ليس المثال الذي يمكن أن يقاس هنا إلا أن ذلك يدل على أن اللغة في العصور الأولى كانت في أوجها من خلال الحكمة والأدب والبيان.
ويعتقد الدكتور عبدالمنعم تليمة – أستاذ الأدب العربي بكلية الآداب جامعة القاهرة- أن الإبداعات النثرية وأهمها كتاب «النوهم» لها أهمية كبيرة فهي أول نص نثري كامل ثم تأتي العملية الإبداعية لتبلغ ذروتها عند الحاحظ المتوفى سنة 255هـ ثم أبي العلاء المعري في رسالته «الغفران» مما جعل اللغة العربية لغة العالم كما أن حديث الإسراء الذي رواه ابن عباس في زمن النبوة وصل بالنثر وبتطوير اللغة العربية إلى أقصى درجة؛ لأنه انتقال إلى الوجدان الشعبي.
ثم أتى شعر أبي نواس الذي تخلى عن التقاليد المتواترة في الشعر من بكاء على الأطلال والمديح وغيرها وفتح أبواب جديدة لأغراض الشعر مما أدى إلى نحت مفردات جديدة أدت إلى إثراء اللغة ومرورًا بالتاريخ نجد أن كل عصر حفل بالعظماء من الناثرين والشعراء.
وانتهاءً بالعصر الحديث فكان أحمد شوقي وإسهاماته التي لا يمكن تجاهلها وكذا محمود سامي البارودي.
كما أن النثر في العصر الحديث من أدوات تجدد اللغة وتطويرها مثلما حدث عند طه حسين وجبران خليل جبران ومصطفى المنفلوطي والعقاد. وقد اختلفت الأغراض الكتابية لديهم بين إصلاحية وتربوية ولغوية وأدبية. ولا نغفل الكتابة المسرحية التي لها دور بارز في النهوض باللغة العربية، وكذلك الرواية عند نجيب محفوظ الذي اعتمد على لغة الحكاية والقص والسرد فكان بذلك الأدب حاملا للعربية قبل أن يكون حافظا لها.
إن التنوع في كل هذه الأجناس جعل اللغة العربية متنوعة الأغراض وقادرة على محاكاة جميع ألوان الإبداعات البشرية. وبهذا يمكن القول: إن اللغة تعتمد على معطيات عصرها من الآداب والعلوم الإنسانية، فإن كانت قوية في تلك الجوانب نستطيع أن نراهن على أنها قادرة على الصمود.
* * *
الهوامش:
(1) التعددية اللغوية فخ جديد لتمزيق الهوية الوطنية: عبد الملك مرتاض، مجلة العربي، العدد: 500، ص:27، أكتوبر:2000م
(2) الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر: الدكتور محمد مجمد حسين، ص: 368 .
* * *
(*) باحث الدكتوراه في قـسم الـلغــة العــربـيـة جـامعــة دلهـي، دلهـي 110007.
رقم الجوال: 9711484126
Email: jasimqasmi@gmail.com
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، ذوالقعدة 1437 هـ = أغسطس – سبتمبر 2016م ، العدد : 11 ، السنة : 40