إشراقة
الإدارةُ لا يَتَأَهَّلُ لها إلّا القيلُ من الرجال؛ لأنها لايُحْسِنُها المرءُ بمُجَرَّدِ المُؤَهِّل العلمي، أو بكبر السنّ، أو بالفَطَانَة البالغة، أو الذكاء المُدْهِش، أو بالوجاهة العائليّة، أو الرَّزَانَة الاجتماعيّة، أو السمعة الطيّبة الـمُطْبِقة، أو الصلاح الذاتي – الـمُتَحِّلي به على أرض الواقع لا أرض الخيال وحسن الظنّ – وإنما يحتاج لإحسانها – إلى هذه الأمور كلها – إلى الحلم والأناة، والصبر الذي لا يَنْفَد، والبصر بطبيعة الشأن الإداريّ ذي النوعيّة الخاصّة التي كُلِّفَ مسؤوليتهَا، وأهليّة النزول الـمُتْقَنَة في أغوار النفس البشريّة؛ لأن المدير يُضْطَرُّ في الأغلب إلى الاحتكاك بأنواع من الناس وأخلاط من الجماهير التي تختلف طبائعهم وثقافاتهم، مما يقتضي أن يكون مُتَمَتِّعًا بالاستقلاليّة والشخصيّة الواثقة التي تكون على نجوة من الانفعال السريع، والعاطفيّة الزائدة، وتكون نزيهةً من الأثرة وإيثار المصالح الشخصيّة على المصالح الجَمَاعِيَّة، ولا تتسارع إلى اتخاذ إجراءات عِقَابِيَّة حتى تَتَثَبَّت من البلاغ الذي يصلها من جميع أبعاده ونواحيه.
علمًا بأن المُؤَهِّل العلمي شيء والمُؤَهِّل الإداري شيء آخر، فيجوز أن يُحْسِن الإدارةَ من قد يكون قليلَ الحظِّ أو عديمَه من العلم والثقافة؛ لأنه يكون قد تَشَبَّعَ بالأهليّة الإداريّة بما طُبِعَ عليه أو كَسَبَه من الصفات التي أَهَّلَتْه للإدارة وتصريف الأمور، من حلاوة المنطق، وطلاقة الوجه، وسِعَة الصدر، وإنزال الناس منازلهم، وإكرام كريم كلّ قوم ومجموعة ووسط، والاحتراز مُطْلَقًا من اتخاذ قرار في خصوص شخص أو بشأن قضية حتى يَسْتَقْصِيَ الدراسةَ، والتيقظ والحزم، والأمانة في الحكم لأحد أو عليه، والتفطّن لبواطن الأمور بالنظر إلى ظواهرها، وعدم التسرّع في البتّ في قضيّة، وإعمالِ كاملِ التَّثَبُّت والتَّأَكُّد لدى القضية المطروحة إليه، وما إلى ذلك من الأمور والصفات التي تَرَكَ لنا سيّدنا عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – مثلاً أعلى فيها، وانْتَهَجَها الخلفاءُ من بعده والأمراءُ والقضاةُ الذين اتَّبَعُوهُمْ بإحسان.
فالمديرُ والمسؤول يجب أن يكون قويَّ الشخصيّة، متماسكَ النفس، بحيث يصدر في قراراته عن تفهّم للأمور، ودارسة واعية ذكيّة لخلفيّاتها، ولا يتأثّر من الضغوط الخارجيّة، التي قد يُمَارِسها لديه المُتَمَلِّق المُدَاهِن، أو المُتَزَلِّف المخادع، أو الـمُغْرِض الـمُزَخْرِف، أو الأنانيّ الداهيةُ، أوالنفعيّ الـمُوْهِم بأنه أَنْفَعُ من يُوْجَد على الأرض وأكثر غَنَاءً من كل من رَأَتْه عينا السيّد المدير.
والمديرُ أو المسؤولُ الذي لا يَتَأَتّىٰ على هذا المستوى الذي وصفناه في السطور الماضية، لا يُتَاح له أن يقدر على القيام بالمسؤولية المنوطة به وإدارة الأمور المُكَلَّف أداءَها مقدرةً مثمرة؛ بل يُسِيءُ في أغلب الأوقات إلى وظيفته إساءةً بالغةً، فلا تجني منه المُؤَسَّسَة أو المُنَظَّمة التي يعمل بها إلّا الخسارةَ أكثر من الربح؛ لأنه يكون ضعيف الشخصية يتأثّر عاجلاً من المكر الذي يُمَارسه لديه السَّلْبِيُّون المنافقون الذين لايَسْتَحْيُون أن يكيلوا له المدحَ جُزَافًا، ويُثْنُوا عليه بالغًا، بحضرته وقُبَالَتَه، ويُؤَكِّدوا له بأساليب شيطانيّة يُتْقِنُونها أنهم أكثر إخلاصًا له من كل مَنْ هم في هذا المجتمع الذي يعمل به، وأشدّ عطفًا وحنانًا عليه من أبيه وأمه، وأوْفَر فداءً له من زوجته الوفيّة وأَخِلّائه الخُلَّص إن كانوا يُوجَدُون.
كثيرٌ من المسؤولين والمديرين يتمالكون أنفسهم، ويضبطون شخصيتهم، ويَتَسَامَوْن عن مدح المادحين وقدح القادحين، و يصدرون في جميع قراراتهم عن الحق الذي يُؤَكِّد لهم ضميرُهم الحيُّ الأمينُ أنه هو الحقّ في ضوء الدلائل البيّنة والبراهين القاطعة والخِبَرَات التي كسبوها عَبْرَ مِشوَارِهم العملي الطويل. و لدى التشاور مع الخبراء الأذكياء يستمعون لكل منهم كأنهم أغرار لاخبرة لديهم، ثم يعملون – المسؤولون أو المديرون – بما يرونه صوابًا في ضوء تجاربهم الشخصيّة والآراء والمُقْتَرَحَات الجَمَاعِيَّة التي يُدْليها لهم الخبراء في حلقات التشاور، و لا يُعِيرون وزنًا لما يُحَاوِل الـمَرْضَى الخُلُقِيُّون من أعضاء المجتمع أن يكسبوا به وُدَّهم ويجدوا به شِعْبًا فارغًا من قلوبهم بأساليب التمويه والسِّعَايَة والاغتياب والتأثير السلبيّ وإعمال الحيل لاتخاذ القرار لصالحهم عن طريق تفعيل المحسوبيّة (Patronage) .
إنّ أمثال هؤلاء المديرين والمسؤولين، رأيناهم لم ينجح لديهم المُتَمَلِّقُون – البارعون في إيهام المجتمع أنهم أَوْفَىٰ كَفَاءَةً من غيرهم على الإطلاق – في التأكيد لهم بأنهم أغنى غَنَاءً مِنْ كلِّ مَنْ هم في الوسط الذي هم يعملون فيه؛ لأنهم أَقْوِيَاءُ الشخصيّة يَتَعَمَّقُون في دراسة الأمور وتقليبها على شتى الوجوه، فلكل مُوَظَّف يعمل تحت رعايتهم قيمةٌ مُخَصَّصَةٌ يتعاملون معه من خلالها، ولا يعطونه قيمةً أرفع أو أخفض منها؛ لأنهم يعلمون عن دراسة أمينة أنه لا يستحق قيمةً أكبرَ أو أصغرَ منها.
أمثالُ هؤلاء المسؤولين يَتَحَلَّوْنَ برصيد من الصبر، والحلم والأناة، وكبر النفس، وسموّ الصفات، وعلوّ القدر، لاينفد على الإنفاق، فيَبْدُون عُظَمَاءَ في التعامل مع جميع الأمور ومع جميع أبناء الوسط. وهم من سموّ النفس بحيث لا يستطيع المُتَضَخِّمُون المُتَفَخِّمُون أن يخترقوا قراراتهم التي كانوا يتخذونها عن دراسة شاملة عميقة لقضية من القضايا.
ولكن الْخُرْقَ الأغرارَ ضِعَاف الشخصية من المسؤولين يصطادهم المُتَزَلِّفُون الدُّهَاة الماكرون الحُوَّل الذين حين يَضْعُفُون عن الأداء والعطاء لإفلاسهم في الكفاءة والأَهْلِيَّة يُوَظِّفُون سِلاحَ التزلُّف والمَدَح الجُزَاف، فينالون لديهم حُظْوَةً وترقية في المناصب عن غير جَدَارَة؛ لأنهم يَتَمَتَّعُون بجدارة لاتوجد في غيرهم، وهي القدرة الكافية على اصطياد المسؤول بسهولة وجَعْلِهِم إِيَّاه يصنع مايشاؤون.
إنّ المديرين والمسؤولين الأكفاء يجعلون العاملين تحتهم في المكتب أو الـمُنَظَّمَة إخوانًا متحابين؛ حيث يشاركونهم في الأحزان والمسرّات، ولا يعاملونهم أبدًا بالشعور بالتسامي؛ بل يعاملونهم كأنهم واحد منهم لا يَفْضُلُون عليهم إلّا بأنهم قد قُلِّدُوا منصبَ المدير وقُلِّدُوا هم منصبَ المُوَظَّف والعامل. إن إشعار المسؤولين لمن تحتهم من المُوَظَّفِين بأنهم مُتَساوُوْن معهم لا يفوقونهم بشيء إلّا بالمنصب يجعلهم يتكاتفون معهم – المسؤولين – في تحقيق مُقْتَضَى المسؤولية، وينصرفون بكل ما عندهم من طاقات وخِبَرَات ومُؤَهِّلَات إلى إنجاز العمل، متحررين من أي شعور بالضغط.
المسؤولون الـمُؤَهَّلُون يُعْرَفُون بأنهم يُتْقِنُون الأعمالَ المنوطة بهم، كما يُتْقِنُون استخدام المُوَظَّفِين واستعمالهم للأعمال المُسْنَدَة إليهم، فالمسؤولـون لا تُقَاسُ أهْلِيَّتُهم بإكثارهم وإتقانهم هــم للأعمال المطلـوب إنجازُها، وإنما تُقَاسُ أَهْلِيَّتُهُم بمدى إتقانهم لاستخدامهم لمن يعملون تحتهم من الـمُوَظَّفِين في الأعمـال المَعْنِيَّـة، فأَنْجَـحُ المـديرين أَلْبَقُهم في استعمال العاملين والمُوَظَّفِين في المِهَن والوظائف المَعْنِيّة.
والمسؤولون الـمُوَهَّلُون من يجمعون بين اللين والنعومة وبين الشدة والصلابة، فلا يكونون من اللين والنعومة بحيث يتجرأ عليهم المُوَظَّفُون ويتخذون منهم أُلْعُوبَةً أو أُضْحُوكَةً، ولا يكنّون لهم الاحترام والتقدير والتعظيم؛ ولا يكونون من الشدة والصلابة بحيث يرهبونهم كل وقت ويفقدون الاستقلاليّة والثقة بذاوتهم، ولايقومون بالوظائف المَعْنِيَّة عن عاطفة وطواعية ورضًا، وإنما يقومون بها لإنهاء ما يعود عليهم من قبل وظيفتهم دونما داعية عاطفيّة ورضا قلبي واستجابة نفسيّة عَفْوِيَّة.
المسؤولون المُوَهَّلُون لايستجيبون لكل ما يَنْمِي إلى أسماعهم من الشكايات والانتقادات والمُلاَحَظَات نحو مُوَظِّفِيهم، وإنما يُسْلِمُونها إلى الدراسة والتَرَوِّي والغَرْبَلَة الدقيقة الواعية، والوعي الحضاري والآداب الإنسانيّة. كما يحملون الشعورَ البالغَ بالمسؤولية. وهو أَهَمُّ الصفات التي ينبغي أن يَتَّصِف بها المسؤولون والمديرون؛ لأنهم بغير ذلك يعملون عملاً مَيِّتًا باردًا فاترًا لا حماسَ فيه ولا نشاط، ولا يُسْمِن ولا يُغْنِي من جوع.
ويُقَاسُ مدى القدرة الإداريّة لدى المديرين بمدى قدرتهم على قراءة خَلْفِيَّات الأمور وأَمَامِيَّاتها؛ لأن ذلك يجعلهم يَزِنُون الأمورَ زِنَةً دقيقة، ويُعِينُهم على اتخاذ قرارات صائبة غير ضَالَّة ولا مُضِلَّة؛ كما تُقَاسُ هذه القدرةُ بعدم استجابتهم السريعة لدواعي الرضا والغَضَب؛ لأن هذه الصفة السلبيّة تجعلهم يَعْمَىٰ عليهم وجهُ الصواب، فتأتي قراراتُهم خاطئةً تضرّ كثيرًا ولا تنفع إلّا قليلاً؛ كما تُقَاسُ بمدى احترازهم من تشجيع المتزلفين والمتملقين، والمتضخمين والمتفخمين؛ لأنهم في الواقع حِبَالَة الشيطان التي يَسْهُلُ بها اصطيادُهم، وهبوطُهم في قعر المذلّة والهوان، ويفقدون بها التقديرَ والتعظيمَ الذي كانوا يَحْظَوْن به قبل تورطهم فيها – الحبالة – حيث إنها تُهْبِطُهم سريعًا من القمة إلى الحضيض.
ويُقَاسُ مدى إخلاص المديرين وتفانيهم في العمل بمدى تقديرهم وتشجيعهم للأكفاء المُؤَهَّلِين المجتهدين المُؤَدِّين للمسؤوليات عن صدق وشعور بالمسؤولية من المُوَظَّفِين الذين يُحْسِنُون الأداءَ ويُكُثِرُون العطاءَ.
فكثيرٌ منهم – من المديرين – لا يُفَرِّقُون بين الأكفاء وغير الأكفاء وبين المجتهدين والمُهْمِلِين، وإنما يُسَاوُون بين النوعين من المُوَظَّفِين أو لا يُقَدِّرون إلّا المُتَزَلِّفِين البارعين في اصطياد المديرين، ويَتَجَاهَلُون الأكفاءَ المجتهدين. الأمرُ الذي يُؤَدِّي إلى فساد ودمار المُؤَسَّسَة التي يديرون مكاتبها؛ لأن الأكفاء المجتهدين من العاملين يَنْفَضُّون شيئًا فشيئًا من حولها – المؤسسة – ولا يبقى فيها إلّا المُهْمِلُون غير المُؤَهَّلِين الذين يَفْسُدُون ويُفْسِدُون، فلا تجني إلّا الخسائر تِلْوَ الخسائر، فتفقد كليًّا قدرةَ الإنتاج، وتتوقف نهائيًا عن الاستمرار.
(تحريرًا في الساعة 11 من ضحى يوم السبت: 29/رجب 1437هـ الموافق 7/مايو 2016م)
أبو أسامة نور
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، ذوالقعدة 1437 هـ = أغسطس – سبتمبر 2016م ، العدد : 11 ، السنة : 40