دراسات إسلامية
بقلم: الأستاذ محبوب فروغ أحمد القاسمي (*)
بعث الله – سبحانه وتعالى – محمدًا – صلى الله عليه وسلم-، بكتاب هُدىً للمتقين، وقال فيه: ﴿لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ﴾ (فصلت/42).
وظلّ النبي –صلى الله عليه وسلم- يُبَيِّن مشكلاته، ويُفصِّل مجملاته، ويُخصِّص عموماته؛ ويُقَيِّد إطلاقاته بإذن ربّه، وإيحائه وتعليمه، قال الله تعالى: ﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ﴾ (النحل/44). وقال: ﴿وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوٰى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحٰى﴾ (النجم/3) فصارت إطاعته واجبة، ومخالفته محذورة بقوله تعالى: ﴿وَمَا آتٰكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ، وَمَا نَهٰكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا﴾ (الحشر/7)، وبقوله: ﴿فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ (النور/٦٣)، فما صدر عنه –صلى الله عليه وسلم- أو ما أُضيفَ إليه، أُطْلِقَ عليه الحديث.
نُبْذة حول الإسناد
فالحديث يُعتَبر مَصدرًا ثانيًا بَعد القرآن، والوحي غير المتلوّ مَنبعًا للأحكام، وأساسًا قويًّا لفهم القرآن – لا، كما زعم الزاعمون، وضلّ المبطلون فخاضوا في غمرة التشكيك، والردّ، فقد قال الرسول –صلى الله عليه وسلم-: «ألا إني أُوتيتُ الكتاب ومثلَه مَعَه»(1) فلا يُمكن اكتمال فهم الإسلام بدون الحديث، كما لا يتصوّر أن يختلف، ويتناقض، ويتضادّ في نفس الأمر مع القرآن وإن كان بعض ذلك في بادئ النظر فَذَا مِن قصور فهمنا لاغير!.
هذا هو السبب الرئيسي الذي دفع الصّحابة، ومَن بعدَهم مِن التابعين؛ ومَن تلاهم مِن أتباعهم إلى التّشمير عن ساق الجدّ، والعناية البالغة المنقطعة النظير بحفظ الأحاديث بكاملها، جيلًا بعد جِيل، حتى ظهرت الفتنة في خلافة عثمان – رضي الله عنه – التي سَبَّبت التمزّق، والانشقاق في كيان المُجتمَع الإسلامي؛ وظهورَ الأهواء السّياسِيّة ممّا أدّى إلى ظهور الكذب في الحديث المحذّر في حديث يرى العلماء تواتره:
«مَن كذب عليّ متعمّدًا فليتبوّأ مقعده من النّار»(2).
نظرًا إلى خطورة ذلك بذل العلماء جُهودًا جَبّارة في تمحيص الحديث ونقده، وتمييز الطيّب من الخبيث، والصحيح من السقيم، وقد نجحوا في مهمتهم هذه إلى حدّ كبير.
وفي مقدّمة هذه الجهود إقامة السلاسل الإسنادية، والسّؤال عن الرجال الذين وَصَل الحديث بواسطتهم: دينًا، وعدالة، ضبطًا وإتقانًا؛ اتصالًا وانقطاعًا، إلى غير ذلك من الأمور المهمّة التي يتطلبها نفس الهدف ممّا جَعل النّاس غيرَ مُبالين إلى كل قول يُنْسَب إلى قائله بدون تلك الوسائط كما جَعَلَهم مُعتَبِرين كلّ نصّ منقول بغير إسناد، غيرَ ذي قيمة في نسبة القول إلى قائله، ثمّ تتابع هذا العمل الجليل حتّى دُوِّنت الأحاديث في الكتب، وجُمِعت في الدواوين على نطاق واسع، وصارت مصونة – بكل معانيها – من إبطال المنتحلين، وتحريف الغالين، فقال ابن الصلاح: وصار معظم المقصود بما يتداول من الأسانيد – فيما بعد – خارجًا عن ذلك إبقاء سلسلة الإسناد، التي خُصّت بها هذه الأمة(3).
الحديث مجموع من الإسناد والمتن
قد سبق آنفًا أن الجهود أكثرها تمثلت في العناية بالأسانيد، لذا لا يُتَصوّر في اصطلاح المحدّثين حديث إلّا هو جامع للإسناد، والمتن كليهما، وأمّا ما نرى بعض المصنفات التي بأيدينا محذوفة الإسناد، فقد أراد مصنفوها الاختصار، والتسهيل على الطلّاب، مَع أنّهم عَزَوا كل حديث إلى مَن خرّجَه مِن مُلْتزمي الأسانيد، فمن أرادها فعليه الرجوع إليها.
الاهتمام بالسند إنّما هو للاهتمام بالمتن
بما أن الاهتمام بالسند لم يكن إلا للحفاظ على المتن، فالاهتمام بالسند مثل الاهتمام بالمتن، وإلّا فلا قيمة للإسناد مجرّدًا عن متنه، ولا ينفعنا «فلان عن فلان عن فلان» إذا لم يقرن به نصّ الكلام المنسوب إلى رسول الله –صلى الله عليه وسلم-.
المتن يحتاج إلى أمور أخرى غير الإسناد
بالإضافة إلى أن تصحيح الحديث وتضعيفه، وإن كان جلّ اعتمادهما على الأسانيد، ولكن لم ينحصر فيها، صرّح بذلك معظم العلماء، نذكر فيما يلي بعض النصوص التي تعكس هذا بوضوح:
قال ابن الصّلاح في «علوم الحديث»: «ومتى قالوا: هذا حديث صحيح، فمعناه أنّه اتصل سنده مَع سائر الأوصاف المذكورة (في تعريف الصحيح)، وكذلك إذا قالوا في حديث: إنّه غير صحيح، فليس ذلك قطعًا بأنّه كذب في نفس الأمر، إذ قد يكون صدقًا في نفس الأمر، وإنّما المراد به، إنّه لم يصحّ إسناده على الشرط المذكور»(4).
وقال العراقي (725-806هـ) في الألفية وشرحه: «حيث قال أهل الحديث: هذا حديث صحيح، فمرادهم فيما ظهر لنا عملًا بظاهر الإسناد، لا أنّه مقطوع بصحته في نفس الأمور لجواز الخطأ والنسيان على الثقة، هذا هو الصحيح الذي عليه أكثر أهل العلم… وكذا قولهم: هذا حديث ضعيف، فمرادهم، لم تظهر لنا فيه شروط الصحة، لا أنّه كذب في نفس الأمر لجواز صدق الكاذب وإصابة مَن هو كثير الخطإ(5).
وقال القاري (المتوفى 1014هـ) في مقدّمة كتابه «المصنوع في معرفة الحديث الموضوع» – بعد أن قال: إنّ الحديث قد يكون موضوعًا من طريق، صحيحًا من آخر-: لأنّ هذا كلّه بحسب ما ظهر للمحدثين من حيث النظر إلى الإسناد، وإلّا فلا مطمع للقطع في الاستناد لتجويز العقل أن يكون الصحيح في نفس الأمر موضوعًا، والموضوع صحيحًا(6).
أفادت نصوص العلماء هذه بأن الإسناد المحض لم يصلُح أن تُدار عليه المسألة من دون التفات إلى جانب آخر؛ بل الصحّة كما تدور حول السند كذلك تدور حول أمور أخرى، فقال ابن القيّم (المتوفى سنة 751هـ): «وقد عُلم أن صحّة الإسناد شرط من شروط صحّة الحديث، وليست موجبة لصحّة الحديث؛ فإنّ الحديث الصحيح إنّما يصحّ بمجموع أمور منها: صحّة سنده، وانتفاء علّته، وعدم شذوذه، ونكارته؛ وأن لايكون راويه قد خالف الثقات، أو شذّ عنهم(7).
وبما أنّنا بصدد نقد المتن فلنقدّم ما يشهد ثبوته، وإعمال العلماء إيّاه في أقوالهم؛ وترجيحاتهم.
الاهتمام بنقد المتن في عهد الصحابة
نرى الصّحابة في هذا الباب ناشطين في هذا المجال، فقد انتقدت السيّدة عائشة – رضي الله عنها – (توفيت سنة 58هـ) أحاديث رواها أصحاب النبي –صلى الله عليه وسلم- منها: الحديث الذي رواه أبوهريرة الدّوسي (ت 57 أو 59هـ) أنّ رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قال: مَن غسل الميت فليغتسل؛ ومَن حمله فليتوضأ(8).
فبلغ ذلك، السيّدةَ فقالت: أوَ نجس موتى المسلمين؟ وما على رجل لو حمَل عودًا؟!(9) وقال عبد الله بن عبّاس (تُوُفِّي بالطائف سنة 68هـ) -رضي الله عنهما-: ولا يلزمنا الوضوء في حمل عيدان يابسة.
كذا انتقد ابن عباس – رضي الله عنهما – (ت68هـ) لمّا سمع مِن أبي هريرة – رضي الله عنه- (ت:57 أو 59هـ) حديث الوضوء مِمّا مست النار: «الوضوء ممّا مسّت النّار، ولَو مِن ثور أقط» فقال ابن عبّاس – رضي الله عنهما-: أنتوضّأ من الدهن، أنتوضأ من الحميم(10).
بالإضافة إلى أمثلة كثيرة، سنذكر منها في باب خاصّ إن شاء الله.
الاهتمام بنقد المتن في جيل التابعين ومَن بعدهم من المحدثين
قد أصبح هذا الاتجاه قويًّا في جيل التابعين حتى احترزوا كلّ الاحتراز من قبول المتن إلّا بعد التوثيق مع اعتقادهم أنّ السند نظيف صحيح، فأخرج الدارمي (ت255هـ) بسنده قال أيوب السَّخْتِيَاني (ت131هـ): «إذا أردت أن تعرف خطأ معلمك فجالس غيره»(11).
وروى الترمذي (ت279هـ) في سننه بسنده من طريق عبد الرحمان بن جُبَير بن نُفَير عن أبيه عن أبي الدرداء قال: «كنّا مَعَ النبي –صلى الله عليه وسلم- فَشَخَص ببصره إلى السماء، ثمّ قال: هذا أوان يُختلس العلم… الحديث، وفيه قال جبير: فلقيت عبادة بن الصامت، فقلت: ألا تسمع ما يقول أخوك أبوالدرداء؟ قال: صدق أبو الدرداء، إن شئت لَأُحَدِّثَنّك بأوّل علم يُرفع مِن الناس الخشوع. وقال الترمذي: «هذا حديث حسن غريب»(12).
وروى مسلم (204-261هـ) في صحيحه بإسناده من طريق سعيد بن المسيب عن عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه قال: قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم- لعلي: «أنت منّي بمنزلة هارون من موسى، إلّا أنّه لا نبي بعدي». قال سعيد: فأحببتُ أن أشافه بها سعدًا، فلقيتُ سعدًا، فحدثته بما حدثني به عامر، فقال: أنا سمعته. قلتُ: أنت سمعتَه؟! قال: فوضع إصبعه على أذنيه، قال: نعم وإلّا فاستكمّا»(13).
فهؤلاء التابعون: أيوب السختياني، وجبير، وسعيد؛ وأمثالهم قد توقفوا عن قبول الحديث قبل أن يتأكدوا من صحته بسؤال غيره عنه، حينما احتاجوا إلى ذلك، فهذا يشفّ عن العناية بالنقد الذي يتوجه إلى نفس الحديث، ومتنه دون الإسناد؛ لأن الإسناد لم يكن إلا مكوّنًا عن واحد أو اثنين بالإضافة إلى أنهم إمّا أن يكونوا من الصحابة، أو العُدول الأثبات من التابعين.
لذلك نرى علماء المصطلح الذين وضعوا اصطلاحات هذا الفنّ، والأصوليين من المحدثين والذين اعتمدت الأمّة عليهم فيما بعدُ في جميع ما يرجع إلى الفن جرحًا وتعديلًا، تصحيحًا وتضعيفًا؛ قد جعلوا نصب أعينهم نقد المتون – وإن لم يصرّحوا به؛ لأن وظيفتهم ليست الاهتمام بالمتون وإلا فقد كتب محمد بن لطفي الصبّاغ في مقدّمة «الموضوعات الكبرى» للقاري: «والذي يلاحظ أن نصيب المتن في مناقشته للأحاديث أوفر من نصيب السند، فهو يستدل على بطلان حديث ما بمعارضته لآية في القرآن كما فعل في الحديث ذي الرقم 309 «الغرباء ورثة الأنبياء ولم يبعث الله نبيًّا إلا وهو غريب في قومه» فقد حكم عليه بأنّه باطل؛ لأنّه معارض لما ورد في القرآن من أمثال قوله سبحانه «إنا أرسلنا نوحًا إلى قومه» وهذه مزية حسنة، وإنها لأبلغ ردّ على أولئك الذين يدّعون أن علماء الحديث لم يعرفوا نقد المتن أبدًا».
فما من مصنف منهم إلّا وهو يرى أن الحديث الصحيح هو الذي يشتمل على خمسة شروط: الثلاثة منها إيجابية، والإثنان منها سلبيان، والسلبيان كلاهما – وهما انتفاء الشذوذ والعلة – يمسّان المتن مثلما يمسّان الإسناد، كذلك جميع أنواع الضعيف التي يتعرض لبيانها المحدثون في كتب مصطلح الحديث مِن القلب، والإدراج، والاضطراب والتصحيف إلى غيرها؛ تؤيد الاهتمام بنقد المتن؛ لأنها توجد في المتن مثلما توجد في الإسناد وإن كان البحث عن جميعها في كتب المحدثين يدور حول إطار الإسناد، ولكن يتضمن ذلك نقد المتن أيضًا، وإن كان لا ينحصر في ذلك.
غضّ البصر عن نقد المتن وسببه
وعلى الرغم من خطورة الأمر قد غضّ المحدثون أبصارهم عن مقاييس نقدية خاصّة بالمتن، وركزوا جُلّ عناياتهم على الإسناد، والذي دفعهم إلى ذلك إمّا كونهم محدثين وظيفتهم العناية الإسناد لشعورهم بالخطورة التي أثارها المفسدون للأصل الثاني للدّين القويم، ولمّا كانت جميعها تتعلق بالأسانيد جعلوا أكبرهمّهم الإسناد؛ أو يكون هذا البحث العلمي الدقيق يتطلب فوق ما يتطلب البحث العلمي في الإسناد؛ لأنّ نقد المتن يقتضي – مَع كل ذلك الذي يُشترط في السند – ذكاءً بالغًا، وذهنًا ثاقبًا، وملكة قوية للاستنباط والاستخراج، وفهمًا صحيحًا قائمًا على أصول الدين، ولا يحظى به إلا مَن اصطفاه الله وخصّه بفضله، ومنّ عليه بقوة الاجتهاد، وهم الذين يسمّون «المجتهدين الفقهاء» الذين هم مدار الدراية الحديثية والقرآنية.
الأئمة هم القدوة في هذا المجال
والذين يتصفون بهذه الصفة العَليّة والحظوظ الربّانيّة كثيرون، ولكن الذين لهم القدح المعلّى في هذا المجال هم أربعة: الإمام أبو حنيفة، والإمام الشافعي، والإمام مالك، والإمام أحمد -رحمهم الله رحمة واسعة-.
فقد انعقد الإجماع على حصر الاتباع في الفروع لهم، مع الاتفاق على أنّ اتباعهم ليس اتباعًا محضًا لهم؛ بل في الحقيقة اتباع الرسول –صلى الله عليه وسلم- وما جاء به.
ففي «أوجز المسالك»: «ثم قال القَرافي (ت684هـ): ورأيت للشيخ تقي الدين بن الصلاح ما معناه: إن التقليد يتعين لهؤلاء الأئمّة الأربعة دون غيرهم؛ لأنّ مذاهبهم انتشرت، وانبسطت حتى ظهر منها تقييد مطلقها، وتخصيص عامّها، وشروطها، وفروعها، فإذا أطلقوا الحكم في موضع وجد مكملًا في موضع آخر، وأمّا غيرهم فنقل عنه الفتاوى مجوّدًا، فلعلّ هذا مكملًا ومقيّدًا، أو مخصصًا إلى آخر ما بسطه وكذا صرّح غير واحد من المشايخ بانحصار التقليد في الأئمة»(14).
وقال مسند الهند ولي الله الدهلوي (ت1176هـ) في «حجّة الله البالغة»: «وممّا يناسب هذا المقام، التنبيه على مسائل ضلّت في بواديها الأفهام، وزلّت الأقدام، وطغت الأقلام، منها أنّ هذه المذاهب الأربعة المدونة المحررة قد اجتمعت الأمّة – أو مَن يعتدّ به منها – على جواز تقليدها إلى يومنا هذا، وفي ذلك من المصالح ما لا يخفى لاسيّما في هذه الأيّام التي قصرت فيها الهمم جدًّا، وأشربت النفوس الهوى… فإن اقتدينا بواحد منهم، فذلك لعلمنا بأنّه عالم بكتاب الله وسنّة رسوله، فلا يخلو قوله إمّا أن يكون من صريح الكتاب والسنّة أو مستنبطًا منهما بنحو من الاستنباط، أو عرف بالقرائن أن الحكم في صورة ما منوطة بعلة كذا، واطمأن قلبه – كلّما وجدت هذه العلة فالحكم ثمّة هكذا – والمقيس مندرج في هذا العموم، فهذا أيضًا معزي إلى النبي –صلى الله عليه وسلم- ولكن في طريقه ظنون، ولولا ذلك لما قلد مؤمن بمجتهد»(15).
مع كل ذلك اختلفت مناهجهم في إعمال الأصول بعد ما اتفقوا على الأصول من القرآن، والسنّة، والإجماع، والقياس المستنبط من القرآن والسنّة، وهذا لم يصدر منهم إلّا تيسرًا من الله تعالى على الأمّة.
الترجيح لاينحصر سببه في الإسناد
وقبل أن نذكر مناهج هؤلاء الأئمة التي انتهجوها، وسُبلًا شقّوها، وموازين أقاموها لنقد الحديث؛ نريد أن نلخّص بهذه المناسبة القرائن الترجيحية والتطبيقية التي تعين على حَلّ أكثر المشكلات، وتساعد على التوفيق بين المختلفات، فقد قرّر علماء الأصول أن تلك القرائن لم تنحصر في الإسناد، ولا في واحد دون واحد؛ بل قد بلغ عددها مئة بل أكثر منها، ولا يَتوَصّل إليها إلّا مَن آتاه الله حظا عظيمًا من علم الحديث والفقه، وملكة هوية صائبة، وقال النَّوَوي (ت776هـ) في «التقريب»: «وإنّما يكمل له الأئمّة الجامعون بين الحديث، والفقه؛ والأصوليّون الغوّاصون على المعاني»، وقال السيوطي (ت911هـ) تعليقًا على قول النَّوَوي (ت776هـ) «كالترجيح بصفات الرواة وكثرتهم في خمسين وجهًا»: ذكرها الحازِمي (ت584هـ) في كتابه «الاعتبار في الناسخ والمنسوخ»، و وصلها غيره إلى أكثر من مئة كما استوفى ذلك العراقي في «نكته»، وقد رأيتها منقسمة إلى سبعة أقسام، ثمّ ذكرها مفصّلة في أكثر من صفحتين، ملخصه: الأوّل: الترجيح بحال الراوي، والثاني: الترجيح بكيفية التحمّل، والثالث: الترجيح بكيفية الرواية، الرابع: الترجيح بوقت الورود، والخامس: الترجيح بلفظ الخبر، والسادس: الترجيح بالحكم، والسابع: الترجيح بأمر خارجي كتقديم ما وافقه ظاهر القرآن أو سنّة أخرى، أو ما قبل الشرع، أو القياس، أو عمل الأمّة، أو الخلفاء الراشدين، أو معه مرسل آخر، أو منقطع، أو لم يشعر بنوع قدح في الصحابة، أوله نظير متفق على حكمه، أو اتفق على إخراجه الشيخان، فهذه أكثر من مئة مرجع، وثَمّ ترجيحات أخرى لا تنحصر ومثارها غلبة الظنّ(16).
* * *
الهوامش:
- أبوداود، كتاب السنّة، باب لزوم السنّة:2/632.
- الترمذي، العلم، ماجاء في تعظيم الكذب على الرسول –صلى الله عليه وسلم-: 2/94.
- كتاب علوم الحديث للحافظ أبي عمر وعثمان بن الصّلاح: 7 النوع الأوّل.
- علوم الحديث لابن الصلاح:6، ونقله النووي وعبد الرحمان السيوطي في التدريب 1/34.
- فتح المغيث للعراقي:9.
- المصنوع: 44.
- الفروسيّة:44، انظر مقاييس فقد متون السنّة:52.
- أبوداود، كتاب الجنائز، باب في غسل من غسل الميت: 2/450، والترمذي، كتاب الجنائز، باب ما جاء في غسل من غسل الميت: 1/193، وقال: حديث حسن.
- الإجابة: 121-122.
- الترمذي، كتاب الطهارة، باب الوضوء ممّا غيّرت النار: 1/34.
- سنن الدارمي، باب الرجل يفتي بشيء ثمّ يبلغه عن النبي –صلى الله عليه وسلم- فيرجع إلى قول النبي –صلى الله عليه وسلم-: 1/102، ط: دارالكتب العلمية، بيروت سنة 1417هـ=1996م.
- الترمذي، العلم، باب ما جاء في ذهاب العلم: 2/94.
- مسلم، فضائل الصحابة، باب فضائل علي بن أبي طالب:2/278.
- أوجز المسالك: 1/167 مقدمة.
- حجّة الله البالغة: 1/154-156.
انظر تدريب الراوي: 2/116-118،النوع السادس والثلاثون، معرفة مختلف الحديث.
* * *
(*) خادم الحديث النبوي الشريف المدرسة الحسينية/ كايم كلم، كيرلا/ الهند.
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، رمضان – شوال 1437 هـ = يونيو – أغسطس 2016م ، العدد : 9-10 ، السنة : 40