دراسات إسلامية
بقلم: الدكتور/ أحمد سحنون (المتوفى: 1424هـ)
أرى أن خير تفسير- أو تعريف- للأمانة هو أن الأمانة هي المسؤولية، وأكبر مسؤولية وأوسعها وأشملها هي التكاليف الشرعية وهو ما جرى عليه جمهور المفسرين في قوله تعالى: ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمٰوٰتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا﴾ [الأحزاب/72]. فلا عجب إذن أن تكون الأمانة هي أولى الصفات التي يجب أن يتصف بها الأنبياء، ولا عجب أن تبرز هذه الصفة وتبلغ كمالها في محمد –صلى الله عليه وسلم- قبل النبوة وبعدها حتى سمي قبل النبوة بالأمين؛ لأن الأمانة صفة جامعة يصح بأن تسمى بها التكاليف الدينية والإنسانية كلها، فالأمانة لا تنافي الخيانة فقط؛ بل تنافي الكذب وتنافي الغش وتنافي النميمة والغيبة وإفشاء السر وشهادة الزور وكتمان الحق الخ … وإذا كانت الأمانة بهذه المنزلة السامية حتى تشمل سائر التكاليف الدينية والكمالات الإنسانية فلا جرم كانت الخيانة أقبح ما يتصف به المسلم بحيث يعد إسلام المتصف بها نفاقًا كما في حديث البخاري: «آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان» ولا عجب فبقدر ما يحسن الشيء يقبح ضده «وبضدها تتميز الأشياء» هذه القيمة التي تمتاز بها الأمانة هي التي جعلت عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- يقول عند موته ونظر فيمن يصلح للخلافة من بعده: «لو كان أبو عبيدة حيًا لاستخلفته؛ لأني سمعت رسول الله –صلى الله عليه وسلم- يقول: «أبو عبيدة أمين هذه الأمة».
إن الأمانة هي يقظة الضمير وطهارة الوجدان ونزاهة النفس، فهيهات أن يأتي الأمين ما يؤنبه عليه ضميره وينافي طهارة وجدانه ونزاهه نفسه.
إن التاجر الأمين لا يغش زبناءه، وإن الشريك الأمين لا يخدع شريكه، وإن الزوجة الأمينة لا تخون زوجها وكذلك الزوج الأمين لا يخون زوجته؛ بل ربما كان من دواعي خيانة الزوجات خيانة الأزواج وما أعلم رسول الله –صلى الله عليه وسلم- بطبائع النفوس إذ يقول: «لا تزنوا فتزن نساؤكم» وما أقل غيرة أولئك الأزواج الذين يخونون زوجاتهم ولا يخشون عاقبة هذه الخيانة، وما أقل إنصاف الرجل الذي يحرم الخيانة على زوجته ويبيحها لنفسه، هذه أنانية يجب أن يتنزه عنها الرجل النبيل، ويجب أن يكون أسوة لزوجته وقدوة لأولاده، فلا أنفع ولا أجدى في إصلاح البيت والمجتمع من القدوة الصالحة، ولا أضر ولا أجرأ للناس على الشر من القدوة السيئة، وهذا موضوع هام يجب أن يفرد له فصل بذاته، ولعله غير بعيد بحول الله.
ولكن- إذا كانت الأمانة بهذه المكانة من الشمول والسعة- فهل هي مستغنية عن غيرها من الصفات؟ إن عبقري هذه الأمة عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- يقول: «أشكو إلى الله ضعف الأمين وخيانة القوي». ما أقوى رصيد هذه الكلمة، وما أدلها على عبقرية هذا الرجل العظيم! كم في الناس من أمثلة سامية في الأمانة ولكن ينقصهم بعد الغور والبصر ببواطن الأمور والنفاذ إلى لباب الأشياء، فيسيئون وهم لا يريدون الإساءة، ويضيعون الفرص التي قلما تتاح بعد ذلك، وتلعب بهم أهواء الدهاة من الناس والمتمرسين بأحوال المجتمع من الرجال.
وكم في الناس- كذلك- من أمثلة عالية في هذه الأشياء، ولكن تنقصهم الأمانة والنزاهة وطهارة الضمير، فتغلب عليهم الأنانية فيخدمون أنفسهم بالتظاهر بخدمة الناس ليكسبوا لأنفسهم حسن السمعة وبعد الصيت والوصول إلى أغراضهم. وهؤلاء هم الذين تحسن بداياتهم ويفتضحون- غالبًا- في نهاياتهم، أما أن تجتمع الحسنيان في واحد فذلك جد قليل؛ بل أقل من القليل، ما جعل ابن الخطاب الحريص على فلاح هذه الأمة يزفر تلك الزفرة، ويشكو تلك الشكاة المرة ويقول: «أشكو إلى الله ضعف الأمين وخيانة القوي».
ولقد شهد رسول الله –صلى الله عليه وسلم- وهو الذي لا ينطق عن الهوى- لرجل واحد باجتماع هاتين المزيتين فيه- الأمانة والقوة- هو أبو عبيدة عامر بن الجراح -رضي الله عنه-.
روي أنه قدم وفد نجران على النبي –صلى الله عليه وسلم- فقالوا: يا محمد، ابعث إلينا من يأخذ لك الحق ويعطيناه، فقال –صلى الله عليه وسلم-: والذى بعثني بالحق لأرسلن معكم القوي الأمين- ورددها ثلاثًا ثم قال: «قم أبا عبيدة».
هذا الوسام العظيم يضعه قائد الإسلام العظيم لهذا البطل العظيم جعل الأعناق تتطلع إليه وتود لو يتاح لها الحصول عليه حتى قال أبو بكر -رضي الله عنه-: ما تاقت نفسي إلى الإمارة إلا في ذلك اليوم، ولكن ليس هذا بالكثير على أبي عبيدة بطل القيادة الحازمة والفتوح العظيمة، والذي يتفحص عمر وجوه أصحابه في اللحظة الحاسمة ليلقي بهذه الأمانة العظمى- أمانة قيادة الأمة- إلى أقواهم اضطلاعًا بها فلم يجد أحق بها وأهلها من أبي عبيدة لو لم يستأثر به ربه.
إن أبا عبيدة كان- وهو في صدر الإسلام عهد البطولة الفذة- منية المتمني؛ فقد روي أن عمر بن الخطاب قال يومًا لأصحابه: تمنوا، فقال رجل: أتمنى لو أن هذه الدار مملوءة ذهبًا أنفقه في سبيل الله -عز وجل- فقال: تمنوا، فقال رجل: أتمنى لو أنها مملوءة لؤلؤا وزبرجدًا وجوهرًا أنفقه في سبيل الله – عز وجل- وأتصدق به، ثم قال: تمنوا: قالوا: ما ندري ما نقول يا أمير المؤمنين، قال عمر: ولكنني أتمنى لو أن هذه الدار مملوءة رجالًا مثل أبي عبيدة، فقالوا: ما ألوت الإسلام، أي ما نقصته حقه، فقال: ذاك الذي أردت.
وإذا كان الوصف بالأمانة والقوة لم يرد في كلام الرسول –صلى الله عليه وسلم- إلا لرجل واحد هو أبو عبيدة – رضي الله عنه-؛ فإنه لم يرد في كلام الله- القرآن- كذلك إلا لواحد هو موسى بن عمران -عليه السلام-، إذ يقول الله على لسان ابنة شعيب لأبيها: ﴿يٰاَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ﴾ [القصص/26].
وبعد فإن جوًا لا تشيع فيه روح الأمانة لا يمكن أن يكون صالحًا للحياة الصالحة ولنعتبر ذلك بما نراه في حياتنا الحاضرة التي خلت من هذا الروح الطيب كيف أن الناس أصبحوا في جحيم لا يطاق من الغش والخيانة والأنانية الجامحة فلا الزوجة ترعى حق زوجها ولا الزوج يفي لزوجته ولا التاجر يصدق في معاملته ولا الشريك يأمن جانب شريكه، وسرى ذلك حتى إلى حرم الصداقة فأصبح الصديق شديد الحذر من صديقه سيء الظن به حتى أصبحنا نعجب كثيرًا بمثل قول البحتري:
أما العداة فقد أروك نفوسهم
فاقصد بسوء ظنونك الإخوانا
وبمثل قول أبي فراس:
وصرنا نرى أن المتارك محسن
وأن خليلًا لا يضــر وصول
السر في ذلك كله هو فقدان روح الأمانة، فإلى الله المشتكى.
* * *
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، رمضان – شوال 1437 هـ = يونيو – أغسطس 2016م ، العدد : 9-10 ، السنة : 40