العالم الإسلامي

بقلم : المفتي محمد سلمان المنصور فوري

(معرب من الأردية)

       عهد المسلمون المملكة العربية السعوديةَ من أحرص الدول على لم شمل المسلمين، وجمع كلمتهم على الحق ودعوتهم إلى احترام المذاهب الفقهية والمدارس الفكرية الإسلامية، وحملِ لواء كلمة التوحيد وتوحيد الكلمة، بما لايخل الهدف الأسمى من أهداف الشريعة الإسلامية الغراء. وكل حاج ومعتمر يرى بأم عينيه في هذه البقاع المقدسة من التطور والرقي والتسهيلات اللازمة ما يُطلق لسانه بالثناء عليها، وكَيْل المدح لها إلا أن الشيء الملفت للنظر والغريب في الواقع ما حدث – في الشهور الأخيرة – من تقديم أذان الجمعة على وقتها، على خلاف ما استمر عليه العمل في الحرمين الشريفين في مختلف عهود حكومة آل سعود، وقبلها من الحكومات الإسلامية في هذه البقعة المباركة التي تشكل مرجعًا للمسلمين كافةً على اختلاف مذاهبهم الفقهية.

       وأما بالنسبة إلى التأصيل الفقهي للمسألة فقد اتفق جماهير الأمة الإسلامية: الأئمة الثلاثة ومن قبلهم ومن بعدهم من الصحابة والتابعين على عدم التجميع إلا بعد الزوال، وعليه استحب الإمام أحمد التجميع بعد الزوال وإن ذهب إلى جواز التجميع قبله. واستدل الجمهور على ما ذهبوا إليه بأدلة مفصلة في موضعه من المصارد الفقهية. نورد بعض النصوص الفقهية في هذه العجالة.

       يقول العلامة ابن قدامة الحنبلي – رحمه الله – في كتابه الشهير «المغني» (2/219): «المستحب إقامة الجمعة بعد الزوال؛ لأن النبي –صلى الله عليه وسلم- كان يفعل ذلك. قال مسلمة بن الأكوع: «كنا نجمع مع النبي –صلى الله عليه وسلم- إذا زالت الشمس، ثم نرجع نتتبع الفيء» [متفق عليه]، وعن أنس، أن النبي –صلى الله عليه وسلم- «كان يصلي الجمعة حين تميل الشمس» [أخرجه البخاري]؛ لأن في ذلك خروجًا من الخلاف، فإن علماء الأمة اتفقوا على أن ما بعد الزوال وقت للجمعة، وإنما الخلاف فيما قبله». انتهى كلامه… علمًا بأن المذهب الحنبلي هو المذهب المعتمد في الجهات الرسمية في المملكة العربية السعودية.

       ويقول العلامة النووي الشافعي في شرحه على صحيح مسلم (6/149): «وقد قال مالك وأبو حنيفة والشافعي وجماهير العلماء من الصحابة والتابعين فمن بعدهم: لا تجوز الجمعة إلا بعد زوال الشمس، ولم يخالف في هذا إلا أحمد بن حنبل وإسحاق فجوزاها قبل الزوال. قال القاضي: وروي في هذا أشياء عن الصحابة لا يصح منها شيء إلا ما عليه الجمهور. وحمل الجمهور هذه الأحاديث على المبالغة في تعجيلها، وأنهم كانوا يؤخرون الغداء والقيلولة في هذا اليوم إلى ما بعد صلاة الجمعة؛ لأنهم ندبوا إلى التكبير إليها فلو اشتغلوا بشيء من ذلك قبلها خافوا فوتها أو فوت التبكير إليها». انتهى كلامه.

       فهذه النصوص صريحة في أن الجمعة لايبدأ وقتها إلا بعد الزوال، فما معنى الأذان قبل دخول الوقت؟ وما دامت الحنابلة يستحبون الجمعة بعد الزوال فليت شعري ما الذي حمل قيادات المملكة العربية السعودية على تقديم الأذان على وقت الجمعة؟

       ولا يخفى أن «العلماء متفقون على الحث على الخروج من الخلاف إذا لم يلزم منه إخلال بسنة أو وقوع في خلاف آخر». والأمثلة على ذلك كثيرة، من الممكن الرجوع إليها في الموسوعة الفقهية الكويتية.

       فالمرجو من السلطات الإدارية في شؤون الحرمين الشريفين أن يراجعوا هذا القرار، ويعيدوا النظر فيه بجدية وتأنّ، ويحذروا اتخاذ خطوات قد تثير سوء الظن بالمملكة العربية السعودية، على حين أن لها أياديَ بيضاء في خدمة الإسلام والمسلمين في كل العالم، وفي خدمة الحرمين الشريفين بصورة خاصة؛ فإن هذه الظاهرة الجديدة تعارض ما يشدد عليه الشرع الإسلامي وما يخدم المقصد الشرعي الأعظم من جمع كلمة المسلمين. أضف إلى ذلك أن المملكة العربية السعودية تتعرض – في العصر الراهن – لضربات عنيفة من الفتن الهوجاء من شتى الجهات المغرضة؛ لكونها تحتل المكانة الكبرى بين العالمين العربي والإسلامي.

       فما أجدر بالمملكة العربية السعودية أن تتجنب كل شيء من شأنه أن يؤدي إلى نشوء الاختلاف والتفرق بين الأمة وتوسيع الفجوة بين مختلف مذاهبها الفقهية؛ لأنها تسعى أن تعمل بدستور نابع من الكتاب والسنة، وقد قال الله تعالى: ﴿وَاعْتَصِمُوْا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوْا﴾ (آل عمران/103) وقال: ﴿إِنَّ الَّذِيْنَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ﴾ (الأنعام/159). وقال النبي –صلى الله عليه وسلم- «فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافًا كثيرًا فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء المهديين الراشدين، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة». [سنن أبي داود].

       اللهم أرنا الحق حقًّا وارزقنا اتباعه وأرنا الباطل باطلًا وارزقنا اجتنابه.

*  *  *

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، رمضان – شوال 1437 هـ = يونيو – أغسطس 2016م ، العدد : 9-10 ، السنة : 40

Related Posts