عندما يكون المسجد منارة للتربية والتعليم والثقافة في الحضارة الإسلامية

دراسات إسلامية

بقلم: د. يسري عبد الغني عبد الله (*)

تقديم:

       يرتبط تاريخ التربية والتعليم والثقافة في الفكر الإسلامية ارتباطًا وثيقًا بالمسجد، ولهذا فالحديث عنه حديث عن المكان الرئيسي لنشر المعرفة الإسلامية، وقد قامت حلقات الدراسة في المسجد منذ نشأ، واستمرت كذلك على مر السنوات والقرون، وفي مختلف البلاد الإسلامية دون انقطاع، ولعل السبب في جعل المسجد مركزًا ثقافيًا هو أن الدراسات في سنوات الإسلام الأولى كانت دراسات دينية تشرح تعاليم الدين الجديد وتوضح أسسه وأحكامه وأهدافه، وهذه تتصل بالمسجد أوثق اتصال، ثم إن المسلمين في عصورهم الأولى توسعوا في فهم مهمة المسجد، فاتخذوه مكانًا للعبادة، ومعهدًا للتعليم، ودارًا للقضاء، وساحة تتجمع فيها الجيوش، ومنزلاً لاستقبال السفراء(1).

لماذا كان التبكير في إنشاء المساجد؟:

       الذي دعا المسلمين إلى التبكير بإنشاء المسجد هو إحساسهم بأن البيوت الخاصة تضيق باجتماعاتهم، ولا تمنحهم حرية العبادة واللقاء كما يشتهون، ومن هنا – فيما يبدو – أسسوا المسجد وأطلقوا عليه (بيت الله) إشارة إلى أن الداخل فيه لا يحتاج إلى استئناس أو استئذان، وربما جارى المسلمون جيرانهم من اليهود والنصارى.

       وقد كان لأصحاب الديانات السماوية الأخرى بيع وكنائس يذكر فيها اسم الله ويتعبد فيها، بل لماذا لا نقول: إن العرب المسلمين قلدوا العرب قبل الإسلام وقد كان لهؤلاء متعبدهم المقدس (البيت الحرام) الذي رفع قواعده نبي الله إبراهيم (أبو الأنبياء) وابنه إسماعيل -عليهما السلام- قبل الإسلام بزمن طويل، والذي كان عند قيام الإسلام كعبة يحج إليها العرب من كل أصقاع الجزيرة العربية، ويتعبدون فيها(2).

       هذا البيت الكريم الذي جعله الله سواء للطائفين والركع السجود، وعلى هذا فقد كان عبدة الأصنام يضعون فيه أصنامهم، وكان الموحدون يؤدون فيه عباداتهم، فلما جاء الإسلام الحنيف عظمه المسلمون أيضًا، وأجلوه أعظم الإجلال، حتى قبل أن تزول هذه الأصنام، فقد اتخذ رسول الله محمد بن عبد الله –صلى الله عليه وسلم- مصلاه فيه بين الركنين الركن الأسود والركن اليمني(3).

       وعندما أرغم الرسول الكريم –صلى الله عليه وسلم- على الهجرة من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة، وقف ونظر إلى مكة وقال: والله إنك لأحب أرض الله إلي، وإنك لأحب أرض الله إلى الله، ولولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت(4).

       أما وقد أبعد المسلمون عن «مكة المكرمة»، وحرموا الالتقاء والعبادة في بيت الله الحرام، فليفكروا سريعًا في أن يعتاضوا مكانًا آخر، وقد كان فإن الرسول –صلى الله عليه وسلم- وهو في طريقه إلى يثرب (المدينة المنورة) مهاجرًا أقام بقباء بضعة أيام، أسس فيها مسجد قباء، وهو أول مسجد بني في الإسلام، ويقال: إن فيه نزلت الآية الكريمة ﴿… لَـمَسْجِدٌ اُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أحقُّ أَنْ تَقُوْمَ فِيْهِ، فِيْهِ رِجَالٌ يُحِبُّوْنَ أَنْ يَتَطَهَّرُوْا وَاللهُ يُحِبُّ المُطَّهِّرِيْنَ﴾(5).

       ويروي البلاذري: أن هذا المسجد أسسه الذين هاجروا إلى المدينة قبل رسول الله –صلى الله عليه وسلم-(6).

       ثم إن الرسول لما دخل المدينة بنى مسجده بالمربد، وعمل فيه بنفسه، ليشجع المهاجرين والأنصار على النشاط والسرعة في العمل(7).

       ويروي ابن هشام في «السيرة النبوية»، والبلاذري في «فتوح البلدان» روايات أخرى تفيد أن الآية السابقة نزلت في هذا المسجد لا في مسجد قباء.

       وفي مسجد قباء كانت تعقد حلقات العلم، كما كان من عادة الرسول –صلى الله عليه وسلم- أن يجلس في مسجده بالمدينة المنورة ليعلم أصحابه دينهم(8).

       وكثرت بعد ذلك المساجد وزاد انتشارها بانتشار الإسلام في المعمورة الأرضية، وأصبح من المتبع أن يبنى مسجد أو أكثر في كل مكان فتحه المسلمون، أو في كل قرية أو مدينة أسسوها، وقد روي أن الفاروق/ عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- لما فتح البلدان كتب إلى أبي موسى الأشعري وهو على البصرة العراقية يأمره أن يتخذ مسجدًا للجماعة، وتتخذ القبائل مساجد، فإذا كان يوم الجمعة انضموا إلى مسجد الجماعة.

       ويروى أيضًا في كتب التاريخ أن عمر بن الخطاب – رضي الله عنه- كتب أيضًا إلى القائد/ سعد بن أبي وقاص – رضي الله عنه- وهو على الكوفة بمثل   ذلك، كما كتب إلى عمرو بن العاص – رضي الله عنه- وهو على مصر بمثل ذلك(9).

       وبمرور الزمن زاد عدد المساجد زيادة كبيرة مطردة وبخاصة في العواصم أو الحواضر الإسلامية، فما إن جاء القرن الثالث الهجري حتى كانت بغداد عاصمة الخلافة العباسية غاصة بالمساجد، وقد حكى لنا اليعقوبي أنه عد في بغداد 30000 مسجد(10).

       ولا يتهم القارئ المفضال شيخنا/ اليعقوبي صاحب كتاب (البلدان) بالمبالغة، إذ كانت المساجد منتشرة جدًا بخلاف الجوامع، حتى إنه يقال: إن كل بيت كانت تحد به حجرة للصلاة يطلق عليها «المسجد».

       ولم يختلف الحال في مصر اختلافًا بينًا عنه في بغداد، إلا أنه يبدو أن الجوامع في مصر كانت بطيئة الانتشار، وأول جوامع القاهرة المعروفة، جامع عمرو بن العاص الذي يحمل اسمه حتى الآن في منطقة «مصر» القديمة «جنوب القاهرة»، وقد بناه عقب فتح «مصر».

       ويؤكد التاريخ أنه حتى سنة 133هـ لم يكن بالفسطاط (عاصمة مصر على أيام عمرو بن العاص) جامع غير جامع عمرو بن العاص، وفي هذه السنة قدم عبد الله بن علي يقود فيلقًا من جيش العباسيين قضى به على الخليفة الأموي/ مروان بن محمد (آخر خلفاء بني أمية) الذي هرب إلى «مصر» عقب انتصار العباسيين بـ«خراسان» و«الشام»، وقد عسكر عبد الله بن علي بجيشه شمالي مدينة «الفسطاط» حيث أنشئت مساكن عديدة، ومنشئات كثيرة، ومن بينها جامع المعسكر (العسكر).

       وفي سنة 265هـ أسس أحمد بن طولون جامعه بالقطائع، فانتقلت إليه صلاة الجمعة التي كانت تقام في جامع العسكر منذ إنشائه(11).

       وفي سنة 360هـ بنى القائد الفاطمي/ جوهر الصقلي بأمر من الخليفة الفاطمي/ المعز لدين الله (محمد أبو تميم، الخليفة الرابع في قائمة الخلفاء الفاطميين، تولى 341هـ – توفى365هـ)، ولكنه خصص منذ سنة 378هـ للدراسات والأبحاث العلمية، وظل منذ ذلك التاريخ حتى العهد الحاضر جامعة من الجامعات الأولى في العالم الإسلامي(12).

       وقد بدأ الخليفة الفاطمي/ العزيز بالله نزار أبو منصور (365هـ – 386هـ) يبني جامعًا آخر، ولكنه توفي قبل أن يتمه، وقد بنى الخليفة الفاطمي/ الحاكم بأمر الله منصور أبو علي (تولى 386هـ – فُقد سنة 411هـ) أيضًا جامع المقس وجامع راشدة.

       هذا وقد توقف إنشاء الجوامع إلى أن جاء الأيوبيون (567-648هـ) فكان بمصر هذه الجوامع الستة فقط (نذكر أن الجوامع لصلاة الجمعة، أما المساجد للصلاة في غير الجمعة فكانت كثيرة)(13).  

       هذا، من حيث الجوامع التي كانت تقام فيها صلاة الجمعة، أما المساجد وهي التي كانت تستعمل لتأدية الصلوات الخمس فقد كانت – كالحال في بغداد العباسية – كثيرة الانتشار، فمثلاً يتحدث الرحالة/ ابن جبير عن مساجد الإسكندرية المصرية بقوله: وهي أكثر بلاد الله مساجد، حتى إن منهم من يقول: إن مساجدها 13000 بالجملة، فهي كثيرة جدًا، تكون منها الأربعة والخمسة في موضع واحد(14).

نماذج من المساجد التي ازدهر بها العلم:

       نحاول في هذه السطور أن نتكلم عن التعليم في الجوامع، وقد قمنا باختيار ثلاثة فقط منها لنعطي فكرة سريعة عن التعليم فيها، ولنصف بإيجاز حلقات التعليم التي تكونت بها، واضعين في الاعتبار أننا لم نقم بترتيب هذه الجوامع تبعًا لتاريخ إنشائها، وإنما سترتب ترتيبًا يناسب الفكرة التي نحاول إحاطة القارئ بها علمًا، والتي نجد أن الأنسب لها البداية من «بغداد العراقية»، فـ«دمشق السورية»، فـ«القاهرة المصرية».

1- جامع المنصور:

       اتخذ أبو جعفر المنصور الخليفة العباسي الثاني (136-158هـ)، اتخذ أهبته لبناء عاصمة جديدة للعالم الإسلامي، وقد بدأ العمل سنة 145هـ بتشييد عاصمة تزدان بقصر الذهب مقر إقامته، وجامع المنصور(15).

       هذه المدينة هي مدينة «بغداد»، وقد كلفه ذلك كما يقول ياقوت الحموي: ثمانية عشر مليون من الدنانير، وقد جدد ذلك الجامع في عهد الخليفة العباسي/ هارون الرشيد (170-193هـ)، كما يزيد فيه وناله كثير من الإصلاح والتعمير بعد ذلك(16).

       وقد كان ذلك المسجد قبلة أنظار الأساتذة والطلاب في ذلك العهد، ومما يدلنا على أنه كان يحتل مكانة رفيعة في نفوس المثقفين والعلماء والأدباء، أن الخطيب البغدادي لما حج إلى بيت الله الحرام شرب من ماء زمزم وسأل الله تعالى أن يحقق له ثلاث حاجات كان من بينها أن يتاح له أن يملي الحديث بجامع المنصور، وقد تحققت له بعون الله هذه الأمنية الغالية(17).

       ويبدو أن الحنابلة كانت لهم السيطرة على هذا الجامع في منتصف القرن الخامس الهجري حتى أنهم اعتدوا سنة 451هـ على الخطيب البغدادي، وآذوه وهو يلقي دروسه على طلابه(18).

       وكان العالم اللغوي/ الكسائي يجلس في مسجد المنصور العباسي ليقرأ في علوم اللغة العربية، كما كان الفراء والأحمر وابن السعدان (وكلهم من أهل الرواية والعلم واللغة، وفي نفس الوقت كانوا من أنجب تلاميذ الكسائي) يجلسون للقراءة والتدريس في صحن هذا المسجد(19).

       كما كان الشاعر العباسي/ أبو العتاهية يملي في ذلك المسجد من شعره، وقد حدث شيخ من أهل الكوفة العراقية أنه دخل ذلك المسجد، فإذا شيخ تلتف حوله جماعة، يقول منشدًا:

[لهفي على ورق الشباب      وغصونه الخضر الرطاب

ذهب الشباب وبان عنـي      غيــر منتظــر الإيـــاب

فلأ بكـــين عـلى الشــبا   ب وطيب أيام التصــابي

ولأبكــين علـى البــلى    ولأبكـين على الخضاب]

       وكان ينشد هذه الأبيات ودموعه تسيل على خديه، فلما رأى الشيخ الكوفي ذلك انضم إلى الحلقة، وكتب الأبيات وسأل عن الشيخ فعرف أنه شاعرالزهد /أبو العتاهية(20).

       وفي مسجد المنصور العباسي أملى العالم/ أبو عمر الزاهد كتابه «الياقوت»، وقد بدأ يحاضر في موضوع ذلك الكتاب في شهر المحرم سنة 326هـ، ولما أتمه استعاد قراءته أكثر من مرة فهذبه وزاد عليه(21).

2- جامع دمشق:

       كان مسجد مدينة «دمشق» السورية كما يحكي لنا العلامة/ ابن الفقيه، يعد واحدًا من عجائب الدنيا الأربع في ذلك العهد، ولنحاول معًا الوقوف على بعض النصوص التي أوحت إلى الناس أن يضعوا هذا الجامع في ذلك الوضع العظيم:

       أنفق الخليفة الأموي/ الوليد بن عبد الملك بن مروان (86-96هـ) على بناء هذا المسجد خراج المملكة سبع سنين كاملة، وحمل الوليد حساب النفقات على ثمانية عشر بعيرًا(22).     وظل العمل يجري في بناء هذا المسجد مدة ثمانية أعوام كاملة، حتى بلغ ثمن البقل (الخضروات والبقول الجافة والمطهية) الذي أكله الصناع في مدة أيام العمل 6000 دينار.

       وفي الجامع 600 سلسلة من الذهب للقناديل مصممة بيد مجموعة من الفنانين الذين تخصصوا في المشغولات الذهبية.

       وقالوا: إن من عجائب مسجد دمشق أنه لو بقي الرجل فيه مئة سنة لرأى في كل وقت أعجوبة لم يرها من قبل(23).

       ولا يزال هذا البناء الشامخ يبعث الإعجاب في النفوس، وينبئ عما كان له من إجلال وعظمة في تلك الأزمان الخالية، ومن لم يسعد بزيــارة هــذا الجامع الذي هو معجزة معمارية بكل المقاييس، يستطيع أن يدرك ذلك جيدًا من صوره العديدة التي نراها في الصحف والمجــلات، و في الأفـلام الوثائقية والتاريخية التي تبثها شاشات التلفاز عبر القنوات المختلفة، وكذلك في بعض المواقع على الشبكة الدولية للمعلومات (الإنترنيت).

       وقد كان ذلك المسجد مركزًا مهمًا من مراكز الثقافة والعلم في العالم الإسلامي، وها هو الرحالة / ابن جبير يزور هذا المسجد ويحدثنا عنه، فيقول: إن فيه حلقات التدريس للطلبة، وللمدرسين فيها إجراء واسع (يتقاضون مرتبات عالية، وتوفر لهم كل سبل الراحة، بالإضافة إلى المعاملة الراقية التي كانوا يعاملون بها من جانب أهل الحل والعقد من الحكام)، وللمالكية زاوية للتدريس في الجانب الغربي من المسجد يجتمع فيه الطلبة المغاربة، ولهم إجراء معلوم (كان يصرف لهم الطعام والشراب والحلوى، وتوفر لهم الإقامة المريحة، كما كان يصرف لهم بعض النقود كمصروف يومي).

       ومرافق هذا الجامع لكل أفراد الشعب، وللغرباء، ولكل من يطلب العلم، وأغرب ما به أن سارية من سواريه وهي بين المقصورتين القديمة والحديثة، لها وقف معلوم يأخذه المستند إليها للمذاكرة والتدريس، وعن يمين الخارج من باب البريد مدرسة للشافعية في وسطها صهريج يجري الماء فيه..

       وفي الجانب الغربي بإزاء الجدار مقصورة برسم الحنفية يجتمعون فيها للتدريس، وبها يصلون..

       وفي الجامع عدة زوايا يتخذها الطلبة للنسخ والدرس والانفراد عن ازدحام الناس، وهي من جملة مرافق الطلبة(24). 

       وكان للخطيب البغدادي بهذا المسجد حلقة كبيرة سنة 456هـ، وكان الناس يجتمعون إليه في صباح كل يوم فيقرأ لهم ويعلمهم… وكان إذا قرأ الحديث في جامع دمشق سمع صوته في آخر الجامع(25).

3- جامع عمرو بن العاص:

       جامع بناه القائد/ عمرو بن العاص – رضي الله عنه- سنة 21هـ، ثم جدد وزيد عليه بعد ذلك عدة مرات(26).

       وفي عهد مبكر جدًا جلس فيه سليمان بن عتر التجيبي، جلس فيه من أجل أن يعظ الناس ويعلمهم ويرشدهم عن طريق ذكر القصص، وكان قد جمع له القضاء والقصص، ثم تم عزله عن القضاء، وتولى عملية تعليم الناس عن طريق حكاية القصص لهم، ومن الراجح أن يكون هذا الرجل قد بدأ عمله سنة 38هـ، ومنذ ذلك التاريخ ظل هذا المسجد الكبير مركزًا ثقافيًا ومحكمة للقضاء.

       وقد أدرك به محمد بن عبد الرحمن الحنفي قبل سنة 249هـ بضعًا وأربعين حلقة لإقراء العلم لا تكاد تبرح منه(27).

       ونجد العلامة/ المقريزي يسجل لنا بعض التفاصيل عن زوايا ثمان كانت تدرس فيها شتى العلوم والمعارف بهذا المسجد الجامع، وفيما يلي حديث موجز عن ثلاث منها:

أ- زاوية الإمام / الشافعي – رضي الله عنه-:

       يقال: إن الإمام/ محمد بن إدريس الشافعي درس بها، فعرفت  باسمه، وعليها أرض بناحية سندبيس وقفها السلطان الملك/ العزيز عماد الدين أبو الفتح عثمان بن صلاح الدين (589-595هـ)، ولم يزل يتولى التدريس بها أعيان الفقهاء وجلة العلماء (على أيام المقريزي).

ب- الزاوية المجدية:

       وهذه الزاوية تقع في صدر جامع عمرو، رتبها الوزير/ مجد الدين أبو الأشبال الذي كان يعمل وزيرًا للملك الأشرف، وقرر في تدريسها قريبه قاضي القضاة عبد الوهاب البهنسي، ووقف على هذه الزاوية عدة أوقاف بمصر والقاهرة، وكان يعد التدريس بها من المناصب الرفيعة الجليلة.

ج- الزاوية الصاحبية:

       زاوية رتبها الصاحب/ محمد بن فخر الدين، وجعل لها مدرسين: أحدهما مالكي، والآخر شافعي، وجعل عليها وقفًا بظاهر القاهرة(28).

       وعندما وفد إلى مصر العالم المؤرخ المفسر/ محمد بن جرير الطبري بان فضله في القرآن الكريم والفقه والحديث النبوي المطهر واللغة العربية والنحو والشعر، فلقيه العلامة/ أبو الحسن بن سراج فوجده فاضلًا في كل ما يذاكره به من العلم، ويجيب في كل ما يسأله عنه، حتى سأله عن الشعر فرأه بارعًا فيه، فسأله عن شعر الطرماح فإذا به يحفظه، فسأله أن يمليه، فاستجاب وجلس بجامع عمرو لإملائه(29).

العلوم التي كانت تدرس بالمساجد:

       عندما نتعرف على المساجد التي لعبت دورًا كبيرًا في نشر العلم والمعارف، أو بمعنى آخر التي ازدهر بها العلم وكانت بمثابة منارات للثقافة والعلم في الحضارة العربية الإسلامية، مثل جامع المنصور ببغداد العباسية، وجامع دمشق الأموي، وجامع عمرو بن العاص المصري، نجد أن الحلقات العلمية لهذه المساجد لم تكن مقصورة على الدراسات الدينية فقط لا غير كما يكتب البعض، وإنما تعدتها إلى سواها من معارف العصور الأولى، ولا جدال أن الدراسات الدينية كانت أهم ما يجذب الطلاب ويعنى به المدرسون في تلك الآونة.

       ولكن مع هذا فإن النصوص التي معنا تدل أكبر دلالة على أن المسجد في الحضارة العربية الإسلامية اتسع للعلوم الدينية ولسواها من العلوم الأخرى، وسنحاول أن نشير الآن إلى غير العلوم الدينية من المواد التي كانت تدرس في المساجد:

       اعتزل واصل بن عطاء حلقة الإمام/ الحسن البصري، وكان يعنى هو وأتباعه عناية كبيرة بعلم الكلام، وقالوا: إن مرتكب الكبيرة ليس بمؤمن وليس بكافر، وإنما هو في منزلة بين المنزلتين، فكان واصل بن عطاء يجلس لأتباعه في مسجد البصرة العراقية ليدرس لهم مبادئ علم الكلام الذي كان حديث الظهور في تلك الآونة(30).

       وكانت الدراسات اللغوية والأدبية تجد طريقها إلى المسجد، وعندما نقرأ عن مسجد المنصور الذي بناه الخليفة العباسي الثاني/ أبو جعفر المنصور، نعرف أن العلامة/ أبي عمر الزاهد جلس فيه للتدريس وأملى كتابه (الياقوت) شارحًا إياه لطلابه، كما جلس في نفس المسجد الشاعر الزاهد/ أبو العتاهية ليملي أشعاره التي تركت في الناس أثرًا كبيرًا.

       ونحب أن نذكر هنا أن مجلس عالم النحو واللغة/ نفطويه في مسجد الإنباريين، كان يضم الكثير من طلاب العلم والراغبين فيه من مختلف الفئات(31).

       ونذكر مجلسًا آخر في جامع قرطبة كان لغوي شهير (لم يذكر المقري اسمه) يجلس فيه ليدرس إلى جمهور كبير من التلاميذ فيجذب إلى حلقته كل من يأتي إلى المسجد فيجلس ليستمع إليه(32).

       وكان الشاعر الكبير/ الكميت بن زيد الأسدي الهاشمي وحماد الراوية يلتقيان في مسجد الكوفة العراقية فيتذكران أشعار العرب وأيامهم، فاختلفا مرة في شيء، فقال الكميت لحماد: أتظن أنك أعلم مني بأيام العرب وأشعارها؟! فقال حماد: هذا والله هو اليقين، فغضب الكميت ومازال يناقشه حتى أفحمه(33).

       وفي مسجد البصرة العراقية كان الشاعر العباسي / مسلم بن الوليد يجلس ليملي من شعره، وفي إحدى الجلسات كان يملي قصيدته الدالية التي نعرفها: (لا تدع بي الشوق إني غير معمودي…) إذ أقبل الشاعر الكبير/  أبو نواس، فاسترف له القول، فدنا فسلم، فقطع مسلم بن الوليد إملاء شعره، ورفعه في المجلس، وأقبل عليه يسأله أن ينشده من شعره، وأبو نواس يأبى ذلك، ثم سأله أبو نواس أن يبتدئ القصيدة من أولها ففعل…(34)

       وكان علم العروض (علم موسيقى الشعر) يدرس بالمسجد، وروي بهذا الخصوص أن أعرابيًا دخل مسجد البصرة، فانتهى إلى حلقة يتذاكرون فيها الأشعار والأخبار، فجلس وهو مستطيب كلامهم، ثم أخذوا في العروض، فلما سمع الفعول والمفاعيل ظن أنهم يأتمرون به، فخرج مسرعًا وهو ينشد:

[قد كان أخذهم في الشعر يعجبني

حتى تعاطوا كلام الزنج والروم

لما سمعت كلامًا لست أعرفه

كأنه زجل الغربان والبـــوم

وليت منفلتًا والله يعصمني

من التقحم في تلك الجراثيــم](35)

       كما درس في المساجد علم الطب وبعض العلوم الطبيعية، فها هو السيوطي يحكي لنا: أن دروسًا مختلفة رتبت في الجامع الطولوني (جامع أحمد بن طولون) بجنوب القاهرة، وقد شملت التفسير والحديث والفقه على المذاهب الأربعة والقراءات والطب والميقات…(36)

       ويقول الرحالة/ عبد اللطيف البغدادي أن درسًا في الطب كان يلقى في الأزهر الشريف في منتصف النهار من كل يوم(37).

والله ولي التوفيق

*  *  *

الهوامش:

(1)        مجموعـة من البـاحثين، دائـرة المعـارف الإسلامية، الطبعة العربية، مادة: مسجد، وكذلك: أحمد شلبي، التربية والتعليم في الفكر الإسلامي، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة، 1987 م، ص105.

(2)        الشهرستاني، الملل والنحل، ليبسك، 1923 م، ص 442- 443.

(3)        ابن هشام، السيرة النبوية، القاهرة، 1332هـ، ص 218.

(4)        السيوطي، الروض الآنف، طبعة المطبعة الأزهرية، القاهرة 2 /3 .

(5)        سورة التوبة: الآية: 109- ويمكن أن نراجع في ذلك: ابن هشام، السيرة النبوية، القاهرة، 1332هـ، 2/11، وكذلك: الطبري، تاريخ الأمم والملوك، ليدن، هولندا، 1881م، 1259:2:1.

(6)        البلاذري، فتوح البلدان، القاهرة، 1350هـ، ص 17.

(7)        ابن هشام، السيرة النبوية، مرجع سابق، 2 / 12- وكذلك: الطبري، تاريخ الأمم والملوك، مرجع سابق، 1 / 1259- وأيضًا البلاذري، فتوح البلدان، مرجع سابق، ص 17.

(8)        أبو حامد الغزالي، إحياء علوم الدين، القاهرة، 1306هـ، 1/52- كما يمكن لنا مراجعة صحيح الإمام البخاري، طبعة دار الشعب المصرية،  باب الصلاة .

(9)        المقريزي، الخطط، القاهرة، 1170هـ، 2 / 246- وكذلك: السيوطي، حسن المحاضرة، القاهرة، 1321هـ، 2 / 249 .

(10)      اليعقوبي، البلدان، طبعة ليدن، هولندا، بدون تاريخ، ص 250 .

(11)      محمد عكوش، تاريخ الجامع الطولوني، القاهرة، بدون تاريخ، ص 10 وما بعدها.

(12)      لان بول، القاهرة، لندن، 1912 م، ص 121- 131 .

(13)      المقريزي، الخطط، مرجع سابق، 2 / 244- 245، وكذلك: السيوطي، حسن المحاضرة، القاهرة،  1321هـ، 2 / 142.

(14)      ابن جبير، الرحلة، ليدن، هولندا، 1907 م، ص 43.

(15)      ياقوت الحموي، معجم البلدان، القاهرة، 1323هـ، 2 / 232.

(16)      الخطيب البغدادي، تاريخ بغداد، القاهرة، 1349هـ، 1 / 108- وكذلك: ياقوت الحموي، مرجع سابق، 1 / 232.

(17)      الخطيب البغدادي، مرجع سابق، 2 / 235، وما بعدها.

(18)      ياقوت الحموي، معجم الأدباء، نشرة مرجليوث، لندن، بدون تاريخ، 1 / 246- 247.

(19)      ياقوت الحموي، معجم الأدباء، مرجع سابق، 4 / 242 .

(20)      أبو الفرج الأصفهاني، الأغاني، طبعة الساسي، القاهرة، بدون تاريخ، 3 / 143.

(21)      ابن النديم، الفهرست، القاهرة، 1348هـ، ص 213 .

(22)      ابن الفقيه، كتاب البلدان، ليدن، هولندا، 1302هـ، ص 106 .

(23)      ابن الفقيه، كتاب البلدان، مرجع سابق، ص 107- 108، وكذلك: ياقوت الحموي، معجم البلدان، مرجع سابق ، 4 / 76- 77 .

(24)      ابن جبير، الرحلة، مرجع سابق، الصفحات من 266 إلى 272، بتقديم وتأخير.

(25)      ياقوت الحموي، معجم الأدباء، مرجع سابق،  1 / 255 .

(26)      المقريزي، الخطط، مرجع سابق، 2 / 246، 256 .

(27)      المقريزي، الخطط، المرجع السابق، 2 / 259.

(28)      المقريزي، الخطط، مرجع سابق، 2 / 255- 257.

(29)      ياقوت الحموي، معجم الأدباء، مرجع سابق، 6 /432 .

(30)      ابن خلكان، وفيات الأعيان، لقاهرة، 1275هـ، 2 /252 .

(31)      ابن النديم، الفهرست، مرجع سابق، ص 121.

(32)      المقري، نفح الطيب، القاهرة، 1289هـ، 2 / 254.

(33)      أبو الفرج الأصفهاني، الأغاني، طبعة الساسي، القاهرة، بدون تاريخ، 15 / 113- 114.

(34)      المرزباني، الموشح، القاهرة، 1343هـ، ص ص 289- 290 .

(35)      الأصفهاني، محاضرات الأدباء، بيروت، 1990 م، 1 / 20.

(36)      السيوطي، حسن المحاضرة، القاهرة، 1321هـ، 2 / 138 .

(37)      ابن أبي أصيبعة، عيون الأنباء في طبقات الأطباء، نشرة جوست مللر، 1884 م، 2 / 207- وكذلك: أحمد شلبي، التربية والتعليم في الفكر الإسلامي، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة، 1978 م، ص 105، وما بعدها.

*  *  *


(*)             باحث وخبير في التراث الثقافي، 14 شارع محمد شاكر / الحلمية الجديدة / بريد القلعة (11411) / القاهرة / مصر .

                هاتف :  23176705 جوال : 01114656533

                yusri_52 @yahoo.com

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، رمضان – شوال 1437 هـ = يونيو – أغسطس 2016م ، العدد : 9-10 ، السنة : 40

Related Posts