إلى رحمة الله
بقلم: رئيس التحرير
nooralamamini@gmail.com
بعد مرض عاناه طويلاً – على مدى ثلاثة شهور – انتقل إلى رحمة الله تعالى الشيخ عبد الرحيم القاسمي البستوي أحد أساتذة الجامعة الإسلامية دارالعلوم/ ديوبند في نحو الساعة التاسعة (في الساعة الثامنة والدقيقة الرابعة والخمسين) من يوم الأربعاء: 24/ذوالقعدة 1436هـ الموافق 9/سبتمبر 2015م؛ فإنا لله وإنّا إليه راجعون. وذلك في 83 من عمره بالنسبة إلى السنوات الهجرية و 81 من عمره بالنسبة إلى الأعوام الميلادية؛ فقد كان من مواليد 1353هـ/1934م.
وحَضَرَ الصلاة عليه إثر صلاة العشاء في الليلة المتخللة بين الأربعاء والخميس: 24-25/ ذوالقعدة = 9-10/سبتمبر حشد كبير من العلماء والطلاب وأهالي مدينة ديوبند وذويه ومحبيه. وأمّ الصلاةَ عليه أستاذ الحديث بالجامعة العالم الذكي الشيخ رياسة علي البجنوري القاسمي. وتم تورية جثمانه في المقبرة القاسمية التي تضم قبور الصالحين من مشايخ الجامعة وأساتذتها وعلى رأسهم مؤسس الجامعة الإمام محمد قاسم النانوتوي – رحمه الله- (1248-1297هـ = 1832-1880م).
وقد تم عقدُ مجالس تلاوة القرآن والأدعية وإهداء الثواب إلى روحه في كثير من المدارس والجامعات وعلى رأسها الجامعة الإسلامية دارالعلوم/ديوبند التي اجتمع فيها بقاعة الحديث التحتانية مُعْظَمُ الطلاب والأساتذة الذين دَعَوْا له بالمغفرة والرضوان بشكل جماعي وتحدّث بهذه المناسبة رئيس الجامعة فضيلة الشيخ المفتي أبوالقاسم النعماني عن مزاياه وصفاته وشيء من سيرته وأخبار حياته.
كان الفقيد – رحمه الله – من العلماء المتقنين للمواد الدراسيّة التي يتمّ تدريسُها في المدارس والجامعات الإسلامية الأهلية في شبه القارة الهندية التي تُخَرِّج علماء ودعاة في هذه الديار يحتاج إليهم المسلمون في شؤون دينهم والعمل بأحكامه في حياتهم. كما كان له خبرة في إلقاء الخطب والمواعظ في الموضوعات الدينية؛ فكان يُدْعَىٰ لحفلات الدعوة والإصلاح في داخل الهند وخارجها، ولاسيّما المملكة المتحدة «بريطانيا» و«لندن» اللتين تكررت زيارته لهما بصفة خاصّة. وقد صدرت مجموعات من مواعظه التي ألقاها في «لندن» باسم «خطبات لندن» بالأردية.
ومن أجل جولاته ورحلاته الدعوية والإصلاحية كثر معارفه ومحبّوه في كثير من مدن الهند ومدارسها وجامعاتها ومدن بريطانيا، الذين كانوا على تواصل دائم معه للفوائد الدينية التي جَنَوْهَا من خلال مواعظه التي كانت تكون بسيطة يفهمها الجميع على اختلاف الأجناس والأعمار.
كان – رحمه الله – لَيِّن الجانب، باسم الوجه، يُعَامِل الكلّ باللين ونعومة الأخلاق والعطف، فكسب ودّ الناس، واجتنب عداءهم، وكان تلاميذه بالجامعة يحبونه من أجل بساطته الزائدة في المأكل والملبس ومنهج الحياة إلى جانب ما كان يتعامل به معهم من العطف الأبوي الذي كان فيه مضرب المثل في المحيط الجامعي.
وصفته هذه الـمُمَيِّزة هي التي أَوْجَدَتْ تجانسًا بيني أنا – كاتب السطور – وبينه، فكنتُ منذ ورودي إلى الجامعة أستاذًا في شوال 1402هـ الموافق أغسطس 1982م أُحِبُّه ويُحِبُّنِي من أجل تآلف وانسجام في بعض جوانب الحياة كنتُ أشعر به أنا وهو معًا، مع فارق كبير بيني وبينه في طريقة عيش الحياة والتعامل مع شؤونها وقضاياها التي لاتقبل الحصر. وكان يُعْجِبُني عفويتُه وعدمُ تصنّعه في شؤون الحياة واحترازه البالغ من التسخّط على المعارف والأصدقاء حتى الصغار مهما كان الموقف يدعوه أن يتعامله بإبداء شيء من السخط، فكان في ذلك يفترق عني؛ حيث إني لا أقدر على احتمال لامعقول صادر عن لا مسؤوليّة ولا منطقيّة، وكان هو أقدر على ذلك فكان أقدر على إدارة الحياة وخَطْبِ ودّ الناس وتحقيق مآرب منهم يستعصي تحقيقُها إلاّ عن هذا الطريق.
ومن أجل هذا الاتحاد الذي وصل بيننا نحن الاثنين، كان يختلف إليّ كثيرًا عندما كان يسكن في غرفة من غرف الجامعة على الطابق الثاني في الجانب الشرقي الملاصق للبوابة المدنية، كما كنت أزوره كثيرًا في غرفته تلك؛ حيث كنتُ أنا الآخر أسكن غرفة من غرف السكن الطلابي المعروف بـ«الدارالجديدة» في الجانب الشرقي من البوابة المعراجيّة على الطابق الثاني كان يسكنها من قبلي أستاذنا ومربينا الكبير فضيلة الشيخ وحيد الزمان القاسمي الكيرانوي – رحمه الله تعالى- (1349-1415هـ = 1930-1995م) وكان يدعوني بنحو لازم عندما كان يُعِدُّ إدامًا لذيذًا عن طريق طالب خبير بالطبخ. وبمثل هذه المناسبة كنتُ في غرفته أستعد أنا وهو وغيره من الطلاب وبعض أبنائه للجلوس إلى مائدة الغداء يوم الأربعاء: 15/ربيع الأول 1404هـ الموافق 21/ديسمبر 1983م إذ اقتحم الجامعةَ من البوابة المعراجية في الساعة الثانية والدقيقة السابعة إثر صلاة الظهر طلاب مفصولون عن الجامعة بجريمة دعت إلى فصلهم عنها وبأيديهم قذائف يدوية ومسدسات، وقد فجروا القذائف إثر اقتحامهم الجامعةَ، فوقع الهرج والمرج في المحيط الجامعي، واشتباك بين الطلاب الموالين والمناوئين للطلاب المفصولين، وكان يومًا سجّله الناس في ذاكراتهم ومذكراتهم، وترك الحادث انعكاسات سلبية مخوفة على المحيط الجامعي.
ولم يَنْسَ الفقيد – الشيخ عبدالرحيم رحمه الله – الحادث وظل يذكره لديّ ولدى المعارف كلما سنحت الفرصة. وكان يمازحني كثيرًا بقوله: «إن دعوتي للشيخ نور عالم إلى مائدة الغداء لديّ هي التي جَرَّتْ هذه الويلات على الجامعة وعلينا جميعًا؛ فلن ندعوه إلى الطعام بعد»؛ ولكنه ظلّ يخالف قولَه بفعله، وظلنا نتبادل الأكلات على موائدنا، وظلنا نجتمع من وقت لآخر في غرفنا وفي أمكنة أخرى في الجامعة نجتمع فيها عفويًّا ونتبادل الحبّ والآراء.
كان الفقيد مُتْقِنًا بصفة خاصة لعلم المعقولات من المنطق والفلسفة وعلم الجدل والمناظرات الذي كان يتلقّى فيه الطلابُ منه توجيهات قيّمة للتخرج فيه لمكافحة الفرق الباطلة والحركات الهدامة، وكان يثق فيه به الطلابُ كثيرًا. وكان معروفًا في الوسط الجامعي ببراعته فيه وفي علم المعقولات؛ ولكنه إلى ذلك قام في جامعة دارالعلوم/ديوبند بتدريس مواد أخرى في التفسير والحديث والعقائد وترجمة معاني القرآن الكريم. كما قام في مدارس أخرى قبل دارالعلوم/ ديوبند بتدريس مواد أخرى في المعاني والبيان وأصول الفقه والفقه وأصول التفسير إلى جانب المنطق والفلسفة.
ولد – رحمه الله – عام 1353هـ/1934م بقرية «دريا آباد» بمديرية «سانت كبير نغر» – مديرية «بَسْتِي» سابقًا – بولاية «أترابراديش» وتلقى مبادئ القراءة في قريته، ثم انتقل إلى مدرسة عربية دينية في قرية «موندا ديهـ بيغ» المجاورة لقريته؛ حيث تعلّم الفارسية والأردية ومبادئ العربية، ثم التحق بمدرسة «نور العلوم» بمدينة «بهرائتش» بالولاية، وتلقى بها التعليم الابتدائي والمتوسط والثانوي.
ثم تَوَجَّهَ إلى أكبر جامعة إسلامية أهلية في شبه القارة الهندية وهي الجامعة الإسلامية دارالعلوم/ ديوبند؛ حيث التحق بها يوم 6/11/1371هـ الموافق 29/يونيو 1952م، وعمره أيامئذ 17 سنة فقط، ومكث بها أربع سنوات يتلقى الدراسات العليا، وتخرج منها عام 1375هـ/1956م، وكان من أساتذته بها في السنة النهائية التي تخرج فيها عالمًا حاملاً لشهادة الفضيلة في الشريعة الإسلامية: العالم العامل المجاهد السيد حسين أحمد المدني المعروف في شبه القارة الهندية بـ«شيخ الإسلام» (1295-1377هـ = 1879-1957م) الذي قرأ عليه صحيح البخاري، والشيخ السيد فخر الحسن المرادآبادي (1323-1400هـ = 1905-1980م) الذي قرأ عليه صحيح مسلم، والعلامة محمد إبراهيم البلياوي (1304-1387هـ = 1886-1967م) الذي قرأ عليه جامع الترمذي، والشيخ بشير أحمد خان البلند شهري المتوفى يوم السبت 8/جمادى الآخرة 1386هـ الموافق 24/سبتمبر 1966م، الذي قرأ عليه سنن أبي داود، والشيخ ظهور أحمد الديوبندي (1318-1383هـ = 1900-1963م) الذي قرأ عليه سنن النسائي وسنن ابن ماجه، والشيخ عبد الأحد الديوبندي (1329-1399هـ = 1911-1979م) الذي قرأ عليه شمائل الترمذي وموطأ الإمام مالك، والشيخ محمد جليل الكيرانوي المتوفى 1388هـ/1968م الذي قرأ عليه موطأ الإمام محمد، والشيخ سيد حسن المتوفى 21/جمادى الأولى 1381هـ الموافق 1/نوفمبر 1961م الذي قرأ عليه شرح معاني الآثار للطحاوي.
وبما أنه اجتهد في الدراسة فتلقى في الامتحان النهائي علامات ممتازة، ففي صحيح البخاري تلقى من العلامات 88، وفي صحيح مسلم 96، وفي جامع الترمذي 92، وفي سنن أبي داود 90، وفي سنن النسائي 100، وفي شمائل الترمذي 98، وفي سنن ابن ماجه 94، وفي شرح معاني الآثار للطحاوي 88، وفي موطإ الإمام مالك 98، وفي موطإ الإمام محمد 92.
وكان أيام تحصيله في جامعة ديوبند من الطلاب المعروفين بالاجتهاد في الدراسة، وكان يذاكر الطلاب الآخرين، ولاسيّما دروس علم المنطق، وكان الطلاب يزدحمون في مجلس مذاكرته بعدد كبير؛ بل إن بعض الطلاب كانوا لا يهتمون بحضور الفصل الدراسي الاهتمامَ الذي كانوا يهتمّونه بحضور مجلس مذاكرته التي كانوا يعتمدون عليها في إساغة الدروس وأداء الامتحان. وكان مجلس مذاكرته لعلم المنطق خصيصًا مشهودًا.
وإلى جانب اجتهاده في الدراسة، اجتهد في تحسين الخط الأردي والعربي، فكان يكتبهما بخطّ جميل، وكان كبيرالعناية بالصحة، فكان يهتم بالعلاج إثر إصابته بأنى وعكة صحيّة، وكان يتخذ الوقاية الشديدة عند تغير المناخ وتداخل الفصول، فكان يلازم ملابس الشتاء إثر حلول الشتاء، وملابس الصيف إثر حلوله، وكان لا يُخِلّ بعادته في هذا الشأن. وكان يُلاَزِم التأَنِّيَ ويُجَانِب العَجَلَةَ التي ربّما تهب ريثًا، وكان يخزن لسانه فكان لا يُطْلِقه إلاّ لدى الحاجة. كان مربوع القامة، أسمر اللون مائلاً إلى البياض، كثيف الحاجبين أزجّه، متوسط العينين، ربما يحمل عكازة يتكئ عليها لدى المشي، كثيرًا ما يكتفي في الردّ على منتقديه بالابتسامة، وكان يتناول التنبول كالغذاء لا كالدواء، وكثيرًا ما كان يستخدم مصطلحات علم المنطق في مغالبة من يمازحه، لايفارقه الحلم حتى في أصعب المواقف.
بدأ حياته العملية بممارسة التدريس في «المدرسة العربية كليد العلوم» ببلدة «عمري كلان» بمديرية مرادآباد بولاية «يوبي» وذلك في الفترة ما بين 1376هـ /1957م – 1378هـ/1959م. ثم انتقل إلى مدرسة بمدينة «ميسور» بولاية «كرناتكا» إمامًا وخطيبًا ومفسرًا بمسجد «مدكاهي» منذ عام 1378هـ/1959م حيث مكث يقوم بوظيفته نحو أربع سنوات ونصف. ثم انتقل إلى بلدة «هندوبور» بمديرية «أننت بور» بولاية «آندهرا براديش» حيث عمل رئيس هيئة التدريس في المدرسة العربية «شمس العلوم» لعام 1382هـ/ 1963م.
ثم عُيِّن أستاذًا بالجامعة الإسلامية الأم دارالعلوم/ ديوبند عام 1401هـ/1981م، واستمر يقوم بالتدريس فيها لوفاته في صباح يوم الأربعاء: 24/ذوالقعدة 1436هـ الموافق 9/سبتمبر 2015م. أي طوال 34 عامًا بالقياس إلى الأعوام الميلادية و 35 عامًا بالنسبة إلى السنوات الهجرية.
وخلال دراسته في دارالعلوم/ ديوبند عمل نائب رئيس لمدة سنة ورئيسًا للمكتبة المدنية الطلابية لمدة سنـة أخرى، وبايع في التزكيـة والإحسان أستاذه الشيخ الكبير السيد حسين أحمد المدني، وتخرج فيهما على الشيخ ألطاف حسين البنغلاديشي عام 1427هـ/2006م. وكان هو من المتخرجين في التزكية والإحسان على الشيخ حافظ جي حضور – رحمه الله- الذي كان من المتخرجين على الشيخ الكبير والعلامة الجليل أشرف علي التهانوي الفاروقي – رحمه الله- (1280-1362هـ = 1863-1943م).
وكان من زملائه في الدراسة طلاب تخرجوا علماء مبرزين ولمعت أسماؤهم في الأوساط العلمية والدينية، وتركو بصمات واضحة فيما يتعلق بخدمة العلم والدين والدعوة الإسلامية، وعلى رأسهم معلم العربية العبقري وخادمها المعروف في شبه القارة الهندية فضيلة الشيخ وحيد الزمان القاسمي الكيرانوي – رحمه الله- (1349-1415هـ = 1930-1995م) والفقيه الهندي الكبير القاضي مجاهد الإسلام القاسمي – رحمه الله- (1355-1423هـ = 1936-2002م) رئيس هيئة الأحوال الشخصية لمسلمي الهند سابقًا، والداعية المخلص والخطيب الدعوي المُفَوّه الموقد لمجامر القلوب بخطاباته ومواعظه الشيخ محمد عمر البالنبوري -رحمه الله- (1348-1418هـ = 1929-1997م)، والشيخ رشيد الدين الحميدي رحمه الله (1350-1422هـ = 1932-2001م) عميد الجامعة القاسمية مدرسة شاهي بمدينة «مراد آباد» سابقًا، والشيخ أحرار الحق الفيض آبادي – رحمه الله- (1352-1414هـ = 1933-1994م) أحد أساتذة جامعة ديوبند سابقًا، والشيخ خورشيد عالم الديوبندي رحمه الله (1353-1433هـ = 1934-2012م) شيخ الحديث بدارالعلوم وقف بديوبند سابقًا.
وخَلَّفَ رحمه الله بعد وفاته إلى جانب زوجته تسعة أبناء وبنتًا كلهم ذووأولاد، وكلهم مُثَقَّفون. وقد هَيَّأ – رحمه الله – للجميع وسائل المعاش، وجلُّهم علماء متخرجون من جامعة ديوبند يشتغلون بأنشطة تعليمية ثقافيّة.
ولم يُتَحْ له – رحمه الله – أن يتفرّغ للكتابة والتأليف؛ لأنه رَكَّز عنايته على هوايته المُحَبَّبَة: التدريس والخطابة اللذين أمضى فيهما عمره. وقد صدرت مجموعات لخطاباته باسم «خطبات لندن» و«خطبات برمنغام» كما ألّف رسائل حول مواضيع «ليلة البراءة» و«ليلة المعراج» و«النوافل الخمس عشرة» وكان قد سَجَّل مقتطفات من سيرته الذاتية، باسم «ترجمة البستوي» ولكنه لم يتمكن من إنهائها في حياته.
رحمه الله وجعل جنة الفردوس مثواه، وألهم أهله وذويه ومحبيه الصبر والسلوان، وجعل تلاميذه صدقة جارية له.
(تحريرًا في الساعة 11 من صباح يوم الأربعاء: 8/ذوالحجة 1436هـ = 23/سبتمبر 2015م).
* * *
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، ربيع الأول 1437 هـ = ديسمبر 2015م – يناير 2016م ، العدد : 3 ، السنة : 40