الفكرالإسلامي

بقلم : المفتي سعيد أحمد البالنبوري حفظه الله(*)

تعريب وتعليق: أبوفائز القاسمي المباركفوري

          قال الله تعالى: ﴿لَا يَسْتَوِي أَصْحٰبُ النَّارِ وَأَصْحٰبُ الْجَنَّةِ أَصْحٰبُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَآئِزُونَ * لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ الله وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾ [الحشر/20-21].

       هاتان آيتان تتضمنان موضوعاً هاماً للغاية، نتفهمها بإيجاز اليوم.

الدنيا خليطة من المسيء والمحسن:

       قال تعالى: ﴿لَا يَسْتَوِي أَصْحٰبُ النَّارِ وَأَصْحٰبُ الْجَنَّةِ﴾ أي أن الناس عند نهاية هذه الحياة الدنيا طائفتان: طائفة مصيرها إلى الجنة، وأخرى إلى النار. ولاتستوي الفئتان، وإن تساوتتا في هذه الدنيا. فأصحاب الجنة منهم: ثري، ومن لايجد ما يقيم أوده، وصحيح معافى، ومعرض للأمراض والأحوال، عزيز وذليل. و من أصحاب النار أمثالهم. ثم تعقبها حياة تفرق بين الحب والعصف.

       ويزرع الزارع حقله، فيخرج نباته، ثم تطلع سنابله، ثم يدرك الزرع، وبه الكلأ، والعصف، والحب بعضها مع بعض قبل أن يدرك؛ بل يبدو منها كل شيء إلا الحب الذي يطلبه الزارع من حقله. ثم يأتي عليه زمان يدرك فيه الزرع، ثم يحصد، ثم يجمع في البيدر، ويداس، ويذرى في الرياح، فيمتاز الحب عن العصف الذي يهوي  بعيداً، ثم ينقلهما الفلاح إلى بيته، فيدخر الحب في بيته، ويرمي العصف في الحوش. وقِس عليه أصحاب النار وأصحاب الجنة في هذه الدنيا، يستويان ويتشابهان فيما يبدو، و ربما يرى الرائي أن الدنيا خلقت لهؤلاء الكفار فحسب. وضرب الله تعالى في القرآن مثلاً على ظهور أهل الكفربماء نزل من السماء، فسالت أودية بقدرها، فاحتمل السيل زبداً رابياً. فالسيل ظاهره زبد، وباطنه ماء صافٍ ينفع الناس، فإذا انصبّ في البركة كان كما قال تعالى: ﴿فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً﴾ أي الزبد وإن علا على وجه الماء وربا وانتفخ، إلا أنه سرعان ما يرميه الرياح وتجفوه إلى نواحي البركة، ويبقى الجوهر الصافي من الماء.

       وكذلك الحياة الدنيا قد يبدو فيها الباطل ظاهرًا غالباً على أمره، إلا أنه سيأتي عليه زمان، ويحصد الزرع، ويميز الحب عن العصف. فيصير جوهرها ولبها إلى الجنة، وأما الزبد فيكون حصب جهنم.

مثل الحياة الآخرة:

       و طالما أكدت نصوص الكتاب والسنة على أن الدنيا لاتدوم، وأن زرعها سيحصد يوماً، وخير مثال عليه الموت الذي لامحيد عنه لأحد. ونرى الناس يموتون كل يوم، ولانشك في موتنا نحن، ومثل موت إنسان مثل موت بني البشر كلهم. فموت الفرد نموذج لموت العالم كله وفنائه. والنوم نموذج لموت الفرد، والنوم أخو الموت. قال النبي –صلى الله عليه وسلم-: «النوم أخو الموت»(1). فالإنسان يموت في اليوم والليلة مرة واحدةً على أقل تقدير. ونرى الناس يموتون ليل نهار، ثم لانرتقي للمطلوب من اليقين به.

       فضرب الله تعالى في هذه الدنيا مثلاً يقرِّب كل شيء إلى الأذهان والعقول. فلا تجد شيئا مما سيقع في الحياة الآخرة إلاوقد ضرب الله تعالى مثلاً عليه، وذلك ليتيسر على الإنسان فهم ما سيقع في الحياة الأخرة.

       وعليه جعل الله الخير والشر في هذه الدنيا جنباً إلى جنبٍ، وسيأتي عليها زمان يمتاز بعضهما عن بعض. كالزرع به الحشيش، والحب، والعصف بعضها مع بعضٍ، ثم يأتي عليه زمان يمتاز الحب عن العصف، فيصير الحب إلى المخزن: مكان العز والشرف، والعصف إلى الحوش. والحب يأكله الناس، والعصف علف الدواب. و الحب يباع بأثمان باهضة، والعصف بثمن بخس دراهم معدودة. وكذلك الحياة الآخرة تميز الخير عن الشر. و مصير أحدهما إلى العز والشرف، ومصير الأخر إلى الذل والهوان. يقام لأحدهم وزن أي وزن، والآخر لايؤبه به. قال الله تعالى: ﴿وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا﴾ [الزمر/71] أي الذين لم يقبلوا ما أنزل الله تعالى من الدين، يُدَعُّون – أفواجاً- إلى نار جهم دَعّاً، وقال تعالى: ﴿وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا﴾ [الزمر/73]. وقال تعالى: ﴿وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ﴾ [يس/59] أي انقطِعوا عن المؤمنين وتميَّزوا منهم. فلايبقى أصحاب النار وأصحاب الجنة بعضهم مع بعض مختلطين. وقال تعالى: ﴿لَا يَسْتَوِي أَصْحٰبُ النَّارِ وَأَصْحٰبُ الْجَنَّةِ﴾ فما الفرق بين الفريقين ياترى؟ قال: ﴿أَصْحٰبُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ﴾ أي هم الفائزون في الآخرة بكل مطلوب الناجون من كل مكروه. ولم يتعرض القرآن الكريم لعاقبة أصحاب النار ومصيرهم؛ إذ لايخفى ذلك على السامع.

السعي للنجاح في الآخرة

       وثمة عدد معدود من الناس في هذه الدنيا مَن لايجعلها أكبر همه؛ فإن معظمهم يجعلها هدفاً وغرضاً له. فالنصارى يؤمنون بالجنة والنار، ويبذلون قصارى جهدهم لنيل الجنة والنجاة من النار. وقس عليه اليهود و الهندوس، والبوذيين؛ فإنهم جميعاً تتجه مساعيهم إلى نيل الجنة والتوقي من النار. وأشار القرآن الكريم إلى أن النجاح الذي يتوخاه الناس في هذه الدنيا، مختص بأصحاب الجنة. قال تعالى: ﴿أَصْحٰبُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ﴾ وأصحاب النار هم الخاسرون.

ملتقى الخير والشر:

       والله تعالى خلق الإنسان خلقًا يلتقي فيه الخير و الشر، ويجتمعان على هذه النقطة. ثم خيَّر البشر بين أن يسمو بنفسه عن هذا المستوى حتى يتجاوز الكروبين، وبين أن يهوي بنفسه حتى ينزل إلى أسفل السافلين. قال تعالى: ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوّٰﯨﻬﺎ﴾ [الشمس/7] . يقسم الله تعالى بأرواحنا أنه عدّل نفس الإنسان أحسن تعديل. وقال تعالى: ﴿فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوٰﯨﻬﺎ﴾ [الشمس/8]. فإلهام الفجور والتقوى، وإفهامهم وإعقالهم عبارة عن هذا المستوى الذي خلق عليه البشر، هو مجمع الخير والشر. قال تعالى: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكّٰهَا، وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسّٰهَا﴾ أي خسر خسراناً مبيناً من انغمس في المعاصي، وتلبس بقاذوراتها. وهذا معنى السمو بالنفس والهوي بها. ثم ضرب الله تعالى مثلاً على ذلك فقال: ﴿كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوٰﯨﻬﺎ﴾. أي كذبت ثمود صالحاً بطغيانها. وذلك أنهم سألوه أن يخرج لهم ناقة عظيمة من صخرة معينة. فإن فعل آمنوا به وقبلوا دعوته. ولم يكونوا يؤمنون به؛ و لكن أرادوا أن يعذروه، فدعا صالح الله تعالى فتمخضت تلك الصخرة كما تتمخض العشراء، ثم انفرجت وخرجت الناقة من وسطها، ثم نتجت سقباً مثلها في العظم وهم ينظرون. كانوا طلبوا واحدة، وأخرج الله تعالى لهم اثنتين. فلم يؤمنوا به.  فقال لهم صالح: إنكم في خير ما لم تؤذوا ناقة الله ﴿فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ الله وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ﴾[هود/64]، و ﴿قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ﴾ [الشعراء/155] واستمر الأمر على ذلك حتى قال القوم فيما بينهم: إنهم قد ضاقوا ذرعاً من أمرها، فيجب إزالتها عن طريقهم. فتهيأ واحد منهم لقتلها. فلما بلغ صالحاً ذلك، حذرهم منه، ونبههم على سوء عاقبته. و قال لهم: حذار أن تمسوها بسوء، فيأتي عليكم الهلاك والدمار، قال الله تعالى: ﴿كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوٰﯨﻬﺎ، إِذِ انْبَعَثَ أَشْقٰهَا فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا﴾، فتعرض لها حين كانت في طريقها إلى سقياها. وعقر قوائمه لتسقط.والعقر يمنع الحيوان من المشي والحركة، فيموت في مكانه. فلما عقروا الناقة، قال لهم صالح ما حكاه الله تعالى: ﴿فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلٰثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ﴾ [هود/65] ثم أتاهم العذاب، قال الله تعالى: ﴿فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوّٰ ﯨﻬﺎ﴾ فلم يدع منهم أحداً. ﴿وَلَا يَخَافُ عُقْبٰهَا﴾ أي: لا يخاف الله من أحد تَبِعَةً في إهلاكهم، فإن يهلكوا جميعاً فليهلكوا، وإنه لاينقص من ملك الله تعالى شيئاً.

القرآن ينفي عن الكتب السابقة ما دخلها من التحريف:

       والقرآن الكريم ينفي عن الكتب السابقة ما دخلها من التحريف والتبديل كثيراً، فمثلاً جاء في التوراة: أرسل الله الطوفان إلى قوم نوح، فغرقوا إلا أصحاب السفينة، ثم نزل لينظر المدينة، وما أصابها؟ (أي كأن الله تعالى كان غافلاًعما وقع). فطاف العالم كله فلما رآى أن الطوفان لم يأتِ علي شيء إلا دمره وخربه، أوى إلى تلٍّ، وبكى بكاء شديدًا وعزم ألا يعود لمثله – و ما أعظم فريةً على الله تعالى، والعياذ بالله- وردَّ القرآن الكريم على ذلك: ﴿وَلَا يَخَافُ عُقْبٰهَا﴾. فهذا مثال على سقوط الإنسان في الحضيض، فقد هوت ثمود بنفسها حتى أصبحت لاتبالي شيئاً، لاتبالي بهلاكها ودمارها. والحق أن الإنسان يغفل عما ينفعه أو يضره إذا تدنى وسقط من مستواه ومكانته.

       وأما إذا سما بنفسه؛ فإنه يرتفع درجات لايعلمها إلا الله تعالى، ويقول الشاعرالفارسي ما معناه:

       «الظاهر يسعه العين، والباطن يسعه الصدر، وأما الرجل المتوسع الآفاق فلايشمله الكونان»

       والمعنى أن المحسوس يسعه إنسان العين، فمثلاً وقفت بين يدي جبل، فإنه ينعكس في إنسانك، وأما المعنوي (المعقول) فيسعه قلب الإنسان وعقله، وأما من سما بنفسه، فإنه يتسع اتساعاً لايشمله الدنيا والآخرة على رحبهما، ويعجز عن مسايرته الكروبيون من الملائكة.

خواص البشر خير من خواص الملائكة، و عوام البشر خير من عوام الملائكة:

       ومن الملائكة خاصة وعامة، ومن الخاصة: جبرئيل، وميكائيل، وإسرافيل، وعزرائيل وغيرهم، وما عداهم عامة. وقس عليه البشر، فمنهم خاصة، ومنهم عامة. فمن الخواص: الأنبياء والصحابة والصلحاء، وما عداهم عامة. وقالوا: خاصة البشر أفضل من خاصة الملائكة، أي الأنبياء أفضل من جبرئيل وميكائيل وأمثالهم. وخاصة الملائكة أفضل من عامة المؤمنين. فجبرئيل وميكائيل – عليهما السلام-، وأمثالهما أفضل من عامة المؤمنين. وعامة المؤمنين خير من عامة الملائكة. فدل على أن الإنسان لايسعه سماء ولا أرض إذا سما بنفسه.

منزلة المؤمنات في الجنة:

       في الجنة طائفتان من النساء: طائفة من الجنة نفسها وهن الحور، وطائفة ممن آمنت في الدنيا، وعملت الصالحات، ولم تستسلم للشيطان وإغوائه، وماتت على الإيمان. فهي من أهل الجنة، ومنزلتها تفوق منزلة الحور العين؛ لأنها سمت بنفسها حتى فاقت الحورَ العينَ اللاتي أصبحن لايقام لهن وزنٌ بجنب المؤمنة في الجنة. فإذا سما الإنسان بنفسه ارتقى إلى جنات الخلد، وإذا هوى بها نزل إلى أسفل السافلين. وهذا معنى قوله تعالى: ﴿لَا يَسْتَوِي أَصْحٰبُ النَّارِ وَأَصْحٰبُ الْجَنَّةِ﴾. فإن أحدهما يرتقي حتى يصل إلى جنة الخلد، وثانيهما: يسقط حتى يصل إلى أسفل السافلين. وبهذا اكتمل الحديث عن أحد الأمرين.

       ثم تحدث الله تعالى عن أمر آخر، وهو ما أريد شرحه وبيانه. وذكره الله تعالى في الآية التالية من القرآن الكريم، فما وجه ذكره عقب الأمر الأول؟ ذلك للتنبيه على أن من أراد أن يسموبنفسه عن المستوى الذي خلق عليه، أو أراد أن يفلح في الحياة؛ فإنه لن يستغني عن الاهتداء بنورالقرآن الكريم في ذلك. ولاتجد أحداً من يهودي أو نصراني، أو بوذي أو غيره إلا يرغب في السمو بنفسه، ثم يخيب مسعاه، ولا يزداد إلا سقوطاً و نزولاً، لماذا؟ لأنهم فقدوا نور القرآن. والمراد من القرآن: كل كتاب إلهي لم تمتد إليه يد التحريف والتبديل، فقد كان حقاً وصواباً في عهده، يهدي الناس إلى صراط مستقيم. ثم ولى عهدُه، و لم يبق هو على ما كان عليه، إلا القرآن الكريم الذي بقي على ما كان عليه، فلا بد من الاستنارة والاهتداء به، ولا يغني عنه كتاب غيره. وهذا ما يشير إليه الآية اللاحقة. ومن أسلوب القرآن الكريم أنه يدمج في ثنايا قصة واحدة معاني كثيرةً ، قال الله تعالى: ﴿لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ﴾ [الحشر/21]. وإن أشد الخلق وأثبته مما نراه بين السماء والأرض: هو الجبل. فشبَّه قساوةَ قلب البشر به، كما يقولون: تحجَّر القلب. فيقول الله تعالى: لو نزل هذا القرآن على هذا الخلق  الأشد والأقوى لرأيت أمرين: ﴿لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا﴾ أي طأطأ وخضع. فالإنسان ترتعد فرائصه حين يواجه ما يروعه ويخوفه. وهو المراد بالخشوع، ﴿مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ الله﴾ أي تزلزل وتشقق من خشية الله –سبحانه-. ﴿وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ﴾ أي نذكر هذه المعاني العجيبة لصالح الناس، فهذا المعنى عجيب مثل سابقه. ﴿لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾ أي ينظروا فيما ذكره الله تعالى وبيّنه. وفيه تنبيه على أن القرآن – الذي يتصدع من أجله الجبل، ويتشقق- لايكاد يؤثر في قلب الإنسان إذا أعرض عنه. فقلب الإنسان – إذا قسا- فالجبل أقلّ منه شدةً. ولن ينفع التذكير القرآني بشراً إلا إذا أناب بقلبه إلى الله تعالى، وذكره، واتعظ به. و يشير القرآن الكريم في آية أخرى إلى نحو هذا المعنى قائلاً: ﴿وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ﴾ أي: زعزعت عن مقارها أو زالت تماماً بقراءته، ﴿أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ﴾ أي قرئت آية منه، فطويت مسافة الأرض، فقطع مابين الهند وأمريكا في دقيقتين، ﴿أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْـمَوْتَى﴾[الرعد/31]  أي: كلم أحدٌ به الموتى بأن أحياهم بقراءته فتكلم معهم. والمعنى: لوأنزلنا قرآنا هذا شأنه، لم يؤمن به الكفار، ولم يؤمنوا بتأثيره، وإنما يقولون: هذا سحرٌ مستمرٌ.

       وكان ركانة يرعى غنماً له في وادٍ، وذلك قبل الهجرة، فمر عليه النبي –صلى الله عليه وسلم- فدعاه إلى الإسلام. فقال: يا محمد! لا أفقه ما تقول، وإن صرعتني آمنت بك. فصارعه النبي –صلى الله عليه وسلم-، فلما بطش به أضجعه، لايملك من نفسه شيئاً، ثم قال عد يا محمد، فعاد فصرعه. فقال يا محمد! أشهد أنك ساحر. ثم شرح الله صدره للإسلام و  أسلم بعد الهجرة، وقدم المدينة.

       فالمتعنت لايعجز عن خلق مئات من المعاذير عن قبول الحق. ولاينفعه كتاب مثل القرآن الكريم. وأما من أقبل على الله تعالى، واتعظ وتذكر؛ فإن القرآن لايدعه حتى يؤثر فيه، وإلا مر عليه مر السحاب. ففي إيراد هذا المعنى – بعد المعنى الأول – إشارة إلى أن من أراد أن يكون من أهل الجنة، والفلاح في الآخرة، فعليه أن يعيش حياته مستضيئاً بنور القرآن الكريم في هذه الدنيا. وأفلح إن فعل ذلك، وإلا ضل وغوى وكان من أصحاب النار لا من أصحاب الجنة.

       وإنه من الميسور اليوم فهم القرآن وتدبره، حيث تم نقل معانيه إلى لغات العالم كلها، فلا تعجزوا عن تخصيص جزء من أوقاتكم لدراسة القرآن الكريم وتدبره. واقرأوه قراءةً صحيحةً، واعتنوا بنطق ألفاظه من مخارجه الصحيحة، وجوِّدُوه، واقرأوا ترجمة معانيه، وتدبروا فيها، وإياكم أن تعتمدوا فيه على عقولكم. وإذا كان الصحابة في حاجة إلى إرشاد الرسول –صلى الله عليه وسلم- وشرحه في تدبر القرآن الكريم، فهل نستغني عن نحن اليوم؟ وخذوا بالمأثور عن الصحابة في تفسيره، وأكثروا من قراءته ومراجعته، ولاتنسوا أن الدنيا ظل يزول كلمح بالبصر أو أقرب. فلاتدري أحي أنت في الغد أم أنت في عداد الموتى. و يمشي المرء في طريقه فيأتيه الأجل. فالكيس من انتفع بحياته، واستغلها. ولن ينفع الندم والحسرة إذا ما انقضت الحياة. أسأل الله تعالى أن يوفقني وإياكم لنقدرهذه الحياة حق قدرها، ونعيشها ممتثلين أوامر القرآن، ولانغفل عن الآخرة في دنيانا.

*  *  *

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، محرم – صفر 1437 هـ = أكتوبر – ديسمبر 2015م ، العدد : 1- 2 ، السنة : 40


(*)         رئيس هيئة التدريس وشيخ الحديث بالجامعة.

(1)        الزهد والرقائق لابن المبارك 2/79 ت: حبيب الرحمن الأعظمي، الناشر: دارالكتب العلمية، بيروت.

Related Posts