الفكرالإسلامي
بقلم : الشيخ الكبير المربي الجليل العلامة أشرف علي التهانوي
المعروف بـ “حكيم الأمة” المتوفى 1362هـ / 1943م
تعريب : أبو عاصم القاسمي المباركفوري
﴿لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْئٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ * كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَآءِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَآءِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرٰﯨﺔُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرٰﯨﺔِ فَاتْلُوهَآ إِنْ كُنْتُمْ صٰدِقِينَ (93) فَمَنِ افْتَرٰى عَلَى الله الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَاُولـٰئِكَ هُمُ الظّٰلِمُونَ * قُلْ صَدَقَ اللهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ اِبْرٰهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْـمُشْرِكِينَ* إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبٰرَكًا وَهُدًى لِلْعٰلَمِينَ* فِيهِ آيٰتٌ بَيِّنٰتٌ مَقَامُ اِبْرٰهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلله عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعٰلَمِينَ﴾
التفسير: الربط:
سبق بيان عدم نفع الافتداء للكفار وفيما يأتي بيان أن الإنفاق في سبيل الله ينفع المؤمنين في الأخرى. كما يشير إلى أن على الكفار– إذا أرادوا الانتفاع بأموالهم في الآخرة- أن يؤمنوا بالله تعالى وينفقوها في سبيله في هذه الدنيا.
الحث على الإنفاق وآدابه:
﴿لَنْ تَنَالُوا﴾ أيها المؤمنون ﴿الْبِرَّ﴾ الأجر الأكبر ﴿حَتَّى تُنْفِقُوا﴾ كثيرا ﴿مِمَّا تُحِبُّونَ﴾ في سبيل الله(1). ﴿وَ﴾ اعلموا أن ﴿مَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْئٍ﴾ وإن لم تحبوه(2) ﴿فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ﴾ فيجزي به مطلق الأجر، وأما الثواب الأكبر فالسبيل إلى الحصول عليه ما ذكر.
فائدة:
علم من الآية أن المرء يجازى بكل ما ينفق في سبيل الله؛ ولكن الجزاء المضاعف والمزيد يترتب على إنفاق المحبوب من الأشياء.
الربط:
استمرت في الآيات السابقة المحاجة مع أهل الكتاب. فحيناً مع اليهود وحينا آخر مع النصارى وحينا ثالثاً مع كلا الفريقين. وستأتي محاجة أخرى لاحقاً، حكاها في روح المعاني من طريق الواحدي عن الكلبي أنه حين «قال النبي-صلى الله عليه وسلم-: أنا على ملة إبراهيم» قالت اليهود: كيف وأنت تأكل لحوم الإبل وألبانها؟ فقال النبي-صلى الله عليه وسلم-: كان ذلك حلالا لإبراهيم -عليه السلام- فنحن نحله. فقالت اليهود: كل شيء أصبحنا نحرمه اليوم كان محرما على نوح و إبراهيم حتى انتهى إلينا فأنزل الله تعالى هذه الآية تكذيبا لهم».
تكذيب اليهود (رد دعوى تحريم لحوم الإبل على إبراهيم وذريته):
﴿كُلُّ الطَّعَامِ﴾ أي من الأطعمة التي يجري الحديث عنها(3) لم يكن حراما منذ عهد إبراهيم -عليه السلام-، بل ﴿كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرٰءِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرٰءِيلُ﴾ يعقوب لسبب خاص ﴿عَلَى نَفْسِهِ﴾ أي لحوم الإبل﴿مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرٰﯨﺔُ﴾ ثم استمرت حرمته في بنيه(4)، وماعداه فكان حلاً حتى لبني إسرائيل؛ فكيف يزعمون حرمته منذ إبراهيم -عليه السلام-. وأما التقييد بقوله: قبل أن ينزل التوراة(5)؛ لأن كثيرًا من هذه الأشياء الحلال حرم بعد نزول التوراة. سيأتي بعض تفاصيلها في سورة الأنعام في قوله تعالى: ﴿وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ) الآية. ثم إن اليهود إذا كانوا يدعون تحريم ذلك من الزمن القديم فـ﴿قُلْ﴾ يامحمد لهم إذاً ﴿فَأْتُوا بِالتَّوْرٰﯨﺔِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صٰدِقِينَ﴾ في إدعائكم المذكور. فأتوا بآية ونحوها في هذا المعنى(6)؛ فإن الأمور المنقولة لابد لها من نص، ولاشك أن النصوص الأخرى متلاشية قطعاً فلم يبق إلا التوراة فأتوا بشيء منها، فثبت كذبهم في هذه الدعوى، ثم رتب عليه فقال: ﴿فَمَنِ افْتَرٰى عَلَى الله الْكَذِبَ﴾ أي بأن الله تعالى حرم لحم الإبل وغيره منذ عهد إبراهيم ﴿مِنْ بَعْدِ ذٰلِكَ﴾ أي ظهور الكذب بالدليل ﴿فَأُولٰئِكَ هُمُ الظّٰلِمُونَ﴾.
فائدة:
والسبب الخاص المشار إليه سابقاً أن يعقوب- عليه الصلاة والسلام- كان به عرق النسا فنذر إن شفي لم يأكل أحب الطعام إليه، وكان أحبه لحوم الإبل فتركها. أخرجه الحاكم وغيره بسند صحيح عن ابن عباس، كذا في روح المعاني. وأخرجه الترمذي في سورة الرعد مرفوعاً. ثم إن هذا التحريم الناشئ عن النذر استمر في بني إسرائيل بوحي من الله تعالى. والظاهر أن التحريم كان يثبت في شرعه بالنذر. كما أن المباح يعود بالنذر واجباً في شرعنا إلا أن نذر التحريم- وهو في الواقع يمين- لايجوز في شرعنا؛ بل يجب الحنث فيه والكفارة كذلك، كما قال تعالى: ﴿لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكَ﴾ الآية. كذا في «التفسيرالكبير».
الربط:
ثبت كذب اليهود في دعواهم سابقاً، والقرآن الكريم يناقضه، فثبت صدقه عقلاً، والآيات اللاحقة تصرح بهذا الصدق وتفرع عليه.
ترتب دعوة الإسلام على ظهور صدق القرآن:
﴿قُلْ صَدَقَ اللهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ اِبْرٰهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ﴾ إبراهيم ﴿مِنَ الْـمُشْرِكِينَ﴾.
الربط:
فيما سبق ذكرت أنواع من المحاجة، منها: أن اليهود قالت: بيت المقدس أعظم من الكعبة، فقال المسلمون : بل الكعبة أعظم. فبين الله تعالى أن المسلمين هم على الحق في هذه المحاجة. أورده في روح المعاني برواية ابن المنذر عن ابن جريج في بلاغاته. وقال في [التفسير الكبير]: قصدوا بهذا القول الطعن في تحويل القبلة بأنه عدل عن الأفضل إلى غيره.
فضل بيت الله على سائر المعابد:
﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ﴾ من بيوت العبادة ﴿وُضِعَ﴾ من الله تعالى ﴿لِلنَّاسِ﴾ لعبادتهم ﴿لَلَّذِي بِبَكَّةَ﴾ أي مدينة «مكة» وهو بيت الله من شأنه أنه كان ﴿مُبٰرَكًا﴾ فيه نفع ديني وهو الثواب ﴿وَهُدًى لِلْعٰلَمِينَ﴾ أي في الإرشاد إلى الجهة في العبادة الخاصة وهي الصلاة، والمعنى أنهم يحجونه، وكذلك يضاعف فيه أجر الصلاة كما يدل عليه الحديث. فهذه بركة دينية، وأما من ليسوا بها؛ فإنهم يهتدون بها إلى جهة الصلاة وقبلتها، فهذا هو الهدى، والحاصل(7) أنه ﴿فِيهِ اٰيٰتٌ بَيِّنٰتٌ﴾ منها تشريعية، ومنها تكوينية على فضله، فأما الآيات التشريعية فقد تبيّنت بـ﴿مبٰركاً﴾ و ﴿هدى﴾ بالتفسير المذكور، وبعضها مذكور بعد مقام إبراهيم، أي أن الداخل إليه يستحق الأمن(8)، و وجوب حجه بشرائطه، و هو أمر زائد على مطلق مشروعية الحج السابقة، فهذه أربع آيات تشريعية مذكورة في هذا المقام ثم شرع في الآيات التكوينية، ومنها آية ﴿مَقَامُ اِبْرٰهِيمَ وَ﴾ من الآيات التشريعية أن ﴿مَنْ دَخَلَهُ﴾ أي حدوده الخاصة به ﴿كَانَ آمِنًا﴾ شرعاً ﴿وَ﴾ من الآيات التشريعية: ﴿لله﴾ أي إرضائه يفترض ﴿عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ﴾ وليس عليهم جميعًا، وإنما هو خاصة على ﴿مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا﴾ للوصول إليه ﴿وَمَنْ كَفَرَ﴾ بأحكام الله تعالى ﴿فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعٰلَمِينَ﴾ ولايضر الله شيئاً. فليس أمراً من الأمور متوفقاً على إيمان أحد، وإنما يضر المرء نفسه بذلك.
فائدة:
وعلِمَ بوضعه قبل المعابد كلها أنه بني قبل بيت المقدس كذلك، وصرح به حديث الصحيحين. وأما شمول (للناس) و(للعٰلمين) وعمومهما فهو نظراً إلى أن هذا البيت كان مباركاً، ويقصد زيارته في الشرائع السابقة كذلك. ومقام إبراهيم حجر قام عليه إبراهيم حين بنائه، وبه آثار قدمه. أورده في روح المعاني عن سعيد بن جبير. فلايخفى أنه آية عجيبة، وأما نسبته إلى الكعبة فباعتبار أن هذا الشأن منشؤه من بناء البيت، وأُقصيَ هذا الحجر – اليوم – قليلاً عن بيت الله تعالى، في مكان آمن. وكون مقام إبراهيم من بين هذه الآيات، آيةً معلومٌ و مدرك، وأما سائر الأحكام التشريعية فكونها آية على الفضل– وإن لم يدرك – فيرجع إلى أن هذه الأحكام ثابتة بأدلة صحيحة. وحاصل الاستدلال أن نقول: انظروا إلى هذه الأحكام الشرعية؛ فإنه على صلة بالكعبة، وثبتت صلتها بها بالأدلة. ولم يشرع مثل هذه الأحكام في حق بيت المقدس، فثبت فضل الكعبة عليه. وفسر الحديث السبيلَ بالزاد والراحلة. رواه الحاكم وغيره. وأما شروط صحة البدن وسلامة البصر والعقل والإسلام والحرية ونحوها فثابتة بأدلة أخرى.
واعلم أن هذه الآيات – عدا مقام إبراهيم-وإن كانت تشريعية هنا إلا أن لها آثارا ظهرت -بالتكوين الإلهي- في القلوب حتى في الجاهلية كالحج مثلاً من الفج العميق، والطواف واستتباب الأمن في حدود الحرم، كما يحكي التاريخ. وساق القرآن الكريم بعضاً منها في بعض الآيات، كقوله تعالى: ﴿وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ﴾ الآية [القصص/57]، وقوله تعالى: ﴿لِايلٰفِ قُرَيْشٍ﴾ [قريش/1]، وقوله تعالى: ﴿وَضَرَبَ اللهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً﴾[النحل /112].
اللغات:
في القاموس: البر: الخير.
بكة: في الجلالين: لغة في مكة، سميت بذلك لأنها تبك أعناق الجبابرة، أي تدقها.
النحو:
(مما تحبون) قال البيضاوي: يحتمل التبيين، فيكون المفعول المحذوف (شيئا). اخترته لروايات السلف في ذلك أنهم أنفقوا لما سمعوا هذه الآية أحب ما عندهم، لابعضا منه.
قوله: (من قبل أن تنزل) متعلق بقوله: (كان حلاً).
الروايات:
في لباب النقول: أخرج سعيد بن منصور عن عكرمة قال: لما نزلت: ﴿وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا﴾ قالت اليهود: فنحن مسلمون، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: إن الله فرض على المسلمين حج البيت فقالوا: لم يكتب علينا وأبوا أن يحجوا، فأنزل الله ﴿وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعٰلَمِينَ﴾.
نكتة:
المذكور في الآية خمس آيات: أربع تشريعية، وواحدة تكوينية، فما أحسن إيراد التكوينية في عين وسط التشريعيات كأنه إشارة إلى كون التشريعية أهم وأعظم حيث ابتدأ [بها] الكلام وختم بها.
* * *
الهوامش:
(1) قيد به لقرينة المقام.
(2) أخذت ذلك من البيضاوي أي:من أي شيء محبوب أو غيره.
(3) صرح به؛ لأن جميع ما عدا المستثنى لم يكن حلالا كالميتة ونحوها، أخذت ذلك من «الكبير».
(4) كما في «الكبير»، ظاهر هذه الآية يدل على أن الذي حرم إسرائيل على نفسه فقد حرمه الله على بني إسرائيل وذلك لأنه تعالى قال: (كل الطعام كان حلاً لبني إسرائيل) فحكم بحل كل أنواع المطعومات لبني إسرائيل ثم استثنى منه ما حرمه إسرائيل على نفسه فوجب – بحكم الاستثناء- أن يكون ذلك حراما على بني إسرائيل. والله أعلم .
(5) كما في «الكبير»، وأما قوله (من قبل أن تنزل التورٰﯨﺔ) فالمعنى أنه قبل نزول التوراة كان حلا لبني إسرائيل كل أنواع المطعومات سوى ما حرم إسرائيل على نفسه. أما بعد التوراة فلم يبق كذلك بل حرم الله عليهم أنواعا كثيرة.
(6) في «الكبير»: فطلب رسول الله –صلى الله عليه وسلم- إحضار التوراة ليستخرج منها المسلمون من علماء أهل الكتاب آية موافقة لقول الرسول –صلى الله عليه وسلم-. وفي «الحقاني» ما تعريبه: وإذ تنسبون ذلك إلى التوراة فأتوها وأروه فيها. قلت: حاصلهما واحد.
(7) قوله: «الحاصل»: أشار به إلى أن قوله: (فيه اٰيٰت) كأنه تفريع على ما قبله وبما فسرت الآيات لم يبق مساغ للإشكال فيه كالإشكال في بعض ما ذكروا في تفسيره من نحو ألا يعلوه الطير مثلاً، وتأيد تفسيري بما في روح المعاني تحت قوله: (آمنا) أي ومنها: أمن من دخله. فافهم.
(8) لأنها آية تشريعية لا تكوينية، ويمكن كونها تكوينية بحمل الأمن على أمن الآخرة، ولما كان الإخبار به صحيحاً ثابتاً بالدليل صح كونه آية كالآيات التشريعية.
* * *
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، محرم – صفر 1437 هـ = أكتوبر – ديسمبر 2015م ، العدد : 1- 2 ، السنة : 40