الفكرالإسلامي

بقلم:  الشيخ إبراهيم بن صالح الدحيم

          نهوض الأمة ورقيها معقود بصحة التعليم وجودة التربية، والمناهج الأرضية وطرائق البشر مهما أوتيت من قوة واجتمع لديها من خبرة؛ فإنها تقف عاجزة عن تحقيق الكمالات، وعن التناغم مع الفطرة السوية، والسبب هو أن هذه المناهج لا تخلو من هوىً بشريٍ جهول، أو نظرةٍ ضيقةٍ محدودةٍ مع ضعفٍ في الشعور الداخلي الصادق – المراقبة – الذي هو بلا شك مؤثرٌ كبيرٌ على سير العمل التعليمي والتربوي، ولذا فإن من المهم – والمهم جداً – إدامة النظر والتأمل في الأساليب النبوية في التربية والتعليم وذلك لأمور:

       أولاًً: أن الله بعث نبيه محمداً –صلى الله عليه وسلم- معلماً ومزكياً، ومبشراً ونذيراً ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيٰتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتٰبَ وَالْحِكْمَةَ﴾ [الجمعة: 2]؛ وعن جابر بن عبد الله – رضي الله عنه – أن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال: «إن الله لم يبعثني معنِّتاً ولا متعنتاً، ولكن بعثني معلماً ميسراً»(1)؛ فالحكمة مِنْ بَعْث النبي –صلى الله عليه وسلم- أن يعلِّم الناس، ولذا كانت حياته –صلى الله عليه وسلم- كلها تربية وتعليمًا، مما يجعلها غنية جداً بالأساليب التربوية والتعليمية.

       ثانياً: أن النبي –صلى الله عليه وسلم- أوتي الكمال البشري، وعُصم من الخطأ الذي يقدح في تبليغه للدعوة «فأي عاقل حريص على مرضاة ربه يخيَّر بين الاقتداء بالمعصوم، الذي يكفل له السير على صراط الله المستقيم، وبين الاقتداء بمن لا يُؤمَن عثاره، ولا تضمن استقامته على الحق ونجاته..»(2)، لقد أعطي النبي –صلى الله عليه وسلم- مع أميته – علماً لا يدانيه فيه أحد من البشر ﴿وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُن تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا﴾ [النساء: 113].

       ثالثاً: لأن النبي –صلى الله عليه وسلم- مرّ بمختلف الظروف والأحوال التي يمكن أن يمر بها معلم أو مربٍّ في أي زمانٍ ومكان؛ فما من حالة يمر بها المربي أو المعلم إلا ويجدها نفسها أو مثلها أو شبهها أو قريباً منها في حياة النبي –صلى الله عليه وسلم-. لقد عاش النبي –صلى الله عليه وسلم- الفقر والغنى، والأمن والخوف، والقوة والضعف، والنصر والهزيمة، عاش اليتم والعزوبة والزوجية والأبوة.. فكان يتعامل مع كل مرحلة وكل حالة بما يناسبها.

       لقد ساس النبي –صلى الله عليه وسلم- العرب، ودعاهم وعلَّمهم وأحسن تربيتهم؛ مع قسوة قلوبهم وخشونة أخلاقهم، وجفاء طباعهم وتنافر أمزجتهم، لقد كان حال العرب كما وصفهم جعفر بن أبي طالب – رضي الله عنه – بقوله: «كنا قوماً أهل جاهلية، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل القويُّ منا الضعيف..»(3).

       فاحتمل النبي –صلى الله عليه وسلم- ما هم فيه من جفاء، وصبر منهم على الأذى، حتى كانوا خير أمة بعد أن لم يكن لهم قيمة ولا وزن ﴿وَإن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلٰلٍ مُّبِينٍ﴾ [الجمعة:2].

       إن الذي ينظر إلى الجاهلية قبل الإسلام، وكيف أنها كانت تعيش انتكاسة في الفطرة والعقيدة والأخلاق، لَيرى كم هو الدور الكبير الذي قام به النبي –صلى الله عليه وسلم-؛ حيث أحدث نقلة ضخمة في زمن قياسي. يقول «كارليل» – وهو يقارن بين حال العرب قبل البعثة وبعدها-: «هم قوم يضربون في الصحراء، لا يؤبه لهم عدَّة قرون؛ فلما جاءهم النبي العربي، أصبحوا قبلة الأنظار في العلوم والعرفان، وكثروا بعد القلة، وعزوا بعد الذلة، ولم يمض قرن حتى استضاءت أطراف الأرض بعقولهم وعلومهم»(4).

       رابعاً: وجود دعوات ضالة كانت ولا زالت تنادي بضرورة نقل أسلوب التعليم والتربية من الغرب العلماني أو الياباني الوثني دون نظرٍ إلى المبادئ والقيم والثوابت الشرعية. إننا قد نستفيد منهم في بعض الوسائل والطرائق – في توصيل المعلومة مثلاً والتي اعتمدوا فيها على تجارب ودراسات وجهود مضنية وافقوا فيها الصواب في أحيانٍ كثيرة – أما أن نأخذ ما نزاحم به ثوابتنا وقيمنا فلا يصح أن نختلف في رده والوقوف أمامه. إن من المحزن المبكي أنك تجد دول الغرب الكافر تحامي عن مبادئها، وتخشى على قيمها، بينا ترى أهل الإسلام أهل الملة الخالدة يبقون وكأن العبث بالثوابت لا يعنيهم، أوَ ليس هو شيئاً ذا بالٍ في نظرهم؟

       تنبيه: حين نريد أن نقف على المنهج النبوي الصحيح في التربية والتعليم فلا بد أن نفرق بين السمات الثابتة في حياته –صلى الله عليه وسلم-، وبين السمات التي تستدعيها حالات معينة توجب نوعية معينة من التعامل، وإليك بعض الأمثلة توضح ذلك:

       – (الرفق واللين والرحمة) سمات ثابتة في الهدي النبوي لا تكاد تفتقدها وأنت تطالع السيرة؛ كيف لا وقد أنزل الله قوله – تعالى-: ﴿وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ﴾[آل عمران: 159].

       بينما تجد – الشدة، الزجر – تكون أموراً عارضة لأحوال عارضة ناسب أن يتعامل معها النبي –صلى الله عليه وسلم- بمثل هذا الأسلوب.

       – مثال آخر (الجدية، والعمل) سمة ثابتة في المنهج النبوي بينا ترى – المزاح، والترويح – وإن وُجدا في أمثلة متعددة في السنة والسيرة النبوية فإنها مع ذلك لا تزال محدودةً لا تستدعي تحويل المنهج التربوي إلى منهجٍ هزلي هزيل يعتمد على الفكاهة واللعب.

       إن المتأمل في هدي النبي –صلى الله عليه وسلم- وسيرته يرى كثرة الوسائل والأساليب التي انتهجها –صلى الله عليه وسلم- في تعليمه للأمة وتربيته لها، وإن الإحاطة بكل ذلك قد لا يكون ممكناً ولا مناسباً في مثل هذه العجالة، ولكني أقف مع بعض هذه الأساليب النبوية التي أرى الحاجة ماسة إلى التنبيه عليها:

       – أولاً: الحفاوة والترحيب وحسن الاستقبال:

       أحياناً نتعامل مع المتعلم والمدعو والمتربي على أننا أصحاب منَّةٍ عليه وتفضل، ولذا نرى أنه لا حاجة إلى القيام بشيء من الترحيب والحفاوة وحسن الاستقبال، بل قد نعتبر مجرد قبولنا له كافياً في الإكرام، وربما يشعر الأب والمربي أياً كان أن الحق له؛ فهو يطالب المتربي به. والحقيقة أن للأب والمربي حقاً كبيراً، لكن هذا الحق لن يتحقق إلا حين يُعرف الولد والمتربي بذلك ويغرس في قلبه إكرام أهل الفضل من خلال أساليب تربوية مشوقة وخطوات يقوم بها الأب والمربي.

       ولقد كان من يقابل النبي –صلى الله عليه وسلم- ولو لأول وهلة يجد عنده من الحفاوة والترحيب وحسن الاستقبال ما يجعل النفوس تنجذب إليه وتأنس بحديثه.

       جاء صفوان بن عسال – رضي الله عنه – إلى النبي –صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله، إني جئت أطلب العلم. فقال له النبي –صلى الله عليه وسلم-: «مرحباً بطالب العلم؛ إن طالب العلم تحفه الملائكة بأجنحتها، ثم يركب بعضهم على بعض حتى يبلغوا السماء الدنيا من محبتهم لما يطلب…»(5)، كيف سيكون أثر هذا الترحيب وتلك الحفاوة في نفس صفوان، هل تراه يزهد في طلب العلم بعد ذلك؟ في بعض الأحيان يأتي الطالب ليشارك في حلقة قرآن أو منشط خيري فيقابل بشيء من البرود (لا بأس، اجلس مع زملائك..) دون أن يسمع كلمة ترحيب، بل ربما استُقبل بعارضة من الشروط المشددة (شروط القبول) والتي ربما جعلته يعود أدراجه. إن مما يُذكر فيُشكر أن بعض دور التعليم والمناشط الخيرية ربما جعلت حفل استقبال وترحيب بالأعضاء الجدد ذا أثر كبير في بعث الرغبة في النفوس.

       – وعن أبي رفاعة – رضي الله عنه – قال: «انتهيت إلى النبي –صلى الله عليه وسلم- وهو يخطب، قال: فقلت: يا رسول الله، رجل غريب جاء يسأل عن دينه، لا يدري ما دينه، قال: فأقبل عليَّ رسول الله (وترك خطبته حتى انتهى إليَّ، فأُتي بكرسيٍّ حسبت قوائمه حديداً. قال: فقعد عليه رسول الله –صلى الله عليه وسلم-، وجعل يعلمني مما علمه الله، ثم أتى خطبته فأتم آخرها»(6).

       عجيب والله! يوقف الخطبة، ويجلس للمتعلم! أي تكريم فوق هذا وأي حفاوة، وكم سيصنع هذا الأسلوب من رغبة في نفس المتعلم والطالب!! هل نستطيع – نحن المعلمين أو المربين – أن نقوم عن وجبة الإفطار – في المدرسة مثلاً – لنجيب الطالب عن مسألته؟ وحين يقطع علينا المتربي لذة النوم باتصال هاتفي لحل مشكلة، أو إجابة عن سؤال هل سيجد الترحيب منا وطيب النفس؟

       – ولقد كان النبي –صلى الله عليه وسلم- يستقبل الوفود ويحسن وفادتهم، ويتخذ لذلك لباساً خاصاً وخطيباً يخطب بين يديه إشعاراً منه بمزيد الاهتمام بهم؛ فلما أتى وفد عبد القيس رحب بهم –صلى الله عليه وسلم-، فقال: «مرحباً بالقوم غير خزايا ولا ندامى..»(7)، ولما قدم الأشعريون أهل اليمن قال النبي –صلى الله عليه وسلم-: «أتاكم أهل اليمن هم أرقُّ أفئدة، وألين قلوباً، الإيمان يمان، والحكمة يمانية»(8)، وروي في وفادة وائل بن حجر – رضي الله عنه – على النبي –صلى الله عليه وسلم-: أن النبي –صلى الله عليه وسلم- بشر به أصحابه قبل قدومه، فقال: يأتيكم بقية أبناء الملوك. فلما دخل رحب به، وأدناه من نفسه وقرب مجلسه وبسط له رداءه، وقال: اللهم بارك في وائل وولده وولد ولده»(9). وقدم وفد عبس على النبي –صلى الله عليه وسلم- وكانوا تسعة، فقال النبي –صلى الله عليه وسلم-: أنا عاشركم. وعقد لهم لواءً وجعل شعارهم «يا عشرة»(10). إن القلم ليعجز عن التعبير عن جمال هذا الخُلُق وأثره في النفوس، ولو أردنا أن نقف مع كل موقف من هذه المواقف لنتأمل فيه ونقف على الأثر الذي يحدثه في النفوس لطال بنا ذلك، وفيما ذكرنا كفاية.

       – ثانياً: الرفق والرحمة وحسن التأني:

       ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ الله لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ﴾ [آل عمران: 159].

       لقد جعل النبي –صلى الله عليه وسلم- الرفق سبباً من أسباب الكمال والنجاح؛ فعن عائشة – رضي الله عنها – قالت: قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: «يا عائشة، إن الله رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف، وما لا يعطي على ما سواه»(11). وفي حديث جرير بن عبد الله عن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قال: «من حُرِمَ الرفق حُرِمَ الخير»(12).

       على هذه القاعدة العظيمة في التعامل (الرفق والرحمة) كان تعامل النبي –صلى الله عليه وسلم- مع أصحابه؛ فعن أبي هريرة – رضي الله عنه – أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قال: «إنما أنا لكم بمنزلة الوالد أُعَلِّمُكُم؛ فإذا أتى أحدكم الغائط فلا يستقبل القبلة ولا يستدبرها…»(13)، فتأمل كيف ابتدأ النبي –صلى الله عليه وسلم- بهذا الأسلوب اللطيف في التعليم، وكم سيكون له من أثر في نفس السامع..!!

       وعن مالك بن الحويرث – رضي الله عنه – قال: أتينا رسول الله –صلى الله عليه وسلم-، ونحن شببة متقاربون، فأقمنا عنده عشرين ليلة، وكان رسول الله –صلى الله عليه وسلم- رحيماً رفيقاً؛ فلما ظن أنَّا قد اشتقنا أهلنا، سألنا عمن تركنا بعدنا فأخبرناه قال: ارجعوا إلى أهليكم فأقيموا فيهم، وعلِّموهم»(14) الحديث. إن هذه الرحمة من النبي –صلى الله عليه وسلم- بهؤلاء الشباب فيها التوجيه إلى ضرورة مراعاة طبائع النفوس، الشيء الذي قد يغفل عنه بعض المربين بحجة (الجدية والحزم) فربما كلفوا النفوس ما لا تطيق، وحَمَلوها على ما يسبب لها الانقطاع.

       وتتأكد الحاجة إلى الرفق والرحمة عند وقوع الخطأ غير المتعمد؛ لأن النفوس أحياناً قد يستثيرها الخطأ فتنسى التعامل معه بالرحمة والرفق، وتميل بقوةٍ إلى الردع والتأديب؛ فعن معاوية بن الحكم السلمي – رضي الله عنه – قال: «بينا أنا أصلي مع رسول الله –صلى الله عليه وسلم-؛ إذ عطس رجُلٌ من القوم، فقلت: رحمك الله. فرماني القوم بأبصارهم، فقلت: واثُكل أمِّيَاه! ما شأنكم تنظرون إليَّ؟ فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم؛ فلما صلى رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: فبأبي هو وأمي ما رأيت معلماً قبله ولا بعده أحسن تعليماً منه؛ فوالله ما نهرني ولا ضربني، ولا شتمني، قال: إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هو التسبيح والتكبير وتلاوة القرآن»(15).

       وعن أنس – رضي الله عنه – قال: جاء أعرابي، فبال في طائفة المسجد، فزجره الناس، فنهاهم النبي –صلى الله عليه وسلم-، فلما قضى بوله أمر النبي –صلى الله عليه وسلم- بذَنوب من ماء فأُهريق عليه»(16)، وفي رواية: فقال له رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: «إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول ولا القذر؛ إنما هي لذكر الله – عزَّ وجل – والصلاة وقراءة القرآن»(17).

       تأمل هذا الموقف لو وقع في مسجد حيِّك، لو أن – رضيعاً – بال في مصلى النساء فكم ستتابع على أمه كلمات التعنيف وربما السب، وسيكون ذلك حديث جماعة المسجد، وأهل الحي أياماً.

       إن التعامل بالرفق والرحمة يورث النفس نوعاً من الطمأنينة والهدوء، ويجعل تَفَهُّم المشكلة والتعامل معها أكثر نجاحاً وتحقيقاً للأهداف بخلاف ما لو صَحِب ذلك نوعٌ من التوتر.

       – ثالثاً: الثناء والتشجيع:

       الثناء والتشجيع وتسليط الضوء على مكامن الكمال في النفس البشرية والإشادة بها منهج نبوي كريم، يراد منه بعث النفس على الزيادة، وإثارة النفوس الأخرى نحو الإبداع والمنافسة، وهو مشروط بأن يكون حقاً، وأن يُؤمَن جانب الممدوح، وأن يكون بالقدر الذي يحقق الهدف.

       – عن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: يا رسول الله، مَنْ أسعد الناس يوم القيامة؟ قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: «لقد ظننت يا أبا هريرة أن لا يسألني عن هذا الحديث أحدٌ أول منك، لِمَا رأيت من حرصك على الحديث….»(18).

       – وعن حذيفة – رضي الله عنه – قال: جاء أهل نجران إلى رسول الله –صلى الله عليه وسلم-، فقالوا: يا رسول الله، ابعث إلينا رجلاً أميناً، فقال: لأبعثن إليكم رجلاً أميناً حقَّ أمينٍ، حق أمين. قال: فاستشرف لها الناس، قال فبعث أبا عبيدة بن الجراح «وفي رواية» فأخذ بيد أبي عبيدة فقال: «هذا أمين هذه الأمة»(19).

       – وعن أُبي بن كعب – رضي الله عنه – قال –صلى الله عليه وسلم-: «أبا المنذر، أي آية معك من كتاب الله أعظم؟ قال: قلت: الله ورسوله أعلم. قال: أبا المنذر، أي آية معك من كتاب الله أعظم؟ قال: قلت ﴿اللهُ لا إلَهَ إلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ﴾ [آل عمران: 2] قال: فضرب صدري، وقال: لِيَهْنَ لك يا أبا المنذر العلم»(20).

       – وعن أبي أيوب – رضي الله عنه – أن أعرابياً عرض لرسول الله –صلى الله عليه وسلم- وهو في سفر فأخذ بخطام ناقته أو بزمامها، ثم قال: يا رسول الله، أو يا محمد، أخبرني بما يقربني من الجنة وما يباعدني من النار. قال: فكفَّ النبي –صلى الله عليه وسلم-، ثم نظر في أصحابه، ثم قال: «لقد وُفِّق أو لقد هُدي» ثم يُقبل عليه النبي –صلى الله عليه وسلم- ويقول: كيف قلتَ؟…الحديث»(21)، انظر كم في هذه الأحاديث من تشجيع واهتمام ومزيد رعاية وعناية.

       كم يبعث التشجيع في نفس المتعلم من حب للعلم، وكم يساعد في تسارع خطوات التربية نحو الأمام، وذلك على عكس ما يأتي به كثرة التأنيب والعتاب واللوم، أو السكوت عن الثناء عند كل نجاح وتفوق.

       والثناء والتشجيع قد يستفاد منه في تدعيم سلوك معين أو التوجيه إلى عمل مهم يحسن اكتسابه.

       – عند الإمام مسلم(22) من حديث ابن عمر – رضي الله عنهما – في الرؤيا التي رآها فقصها على أخته حفصة – رضي الله عنها – فقصتها على النبي –صلى الله عليه وسلم-، فقال: «نِعْمَ الرجل عبد الله لو كان يقوم من الليل». فيا ترى ما أثر ثناء النبي –صلى الله عليه وسلم- على ابن عمر – رضي الله عنه- (قال سالم: فكان عبد الله، بعد ذلك، لا ينام من الليل إلا قليلاً).

       – وفي قصة سلمة بن الأكوع – رضي الله عنه – في (ذي القرد) لما رجعوا قافلين إلى المدينة بعد أن أبلى سلمة – رضي الله عنه – بلاءً حسناً، ثم ناموا في الطريق. قال سلمة – رضي الله عنه -: فلما أصبحنا قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: خير فرساننا اليوم أبو قتادة، وخير رجالتنا: سلمة. قال: ثم أعطاني رسول الله –صلى الله عليه وسلم- سهمين: سهم الفارس وسهم الراجل، فجمعهما لي جميعاً، ثم أردفني رسول الله –صلى الله عليه وسلم- على العضباء راجعين إلى المدينة»(23)، تأمل هذه الحادثة، وكم فيها من الثناء والتشجيع وتقدير الكفاءات؛ ففي قوله: «وخير رجالتنا سلمة» إعلان للتكريم أمام مجمع من الصحابة. ثم إن في إعطائه سهمين مكافأة أيضاً وتقديراً لجهوده، ثم في إرداف النبي –صلى الله عليه وسلم- له على الدابة زيادة في التكريم والتقدير له، ولك أن تتصور مقدار التكريم حين يُركبك القائد معه في مركبته الخاصة تسير بصحبته أمام الناس – كم سيضاعف هذا الثناء والتقدير من نشاطٍ في نفس سلمة أو أبي قتادة – رضي الله عنهما-، بل كم سيحرك في نفوس الآخرين حين يكون المدح في محله!

       إن كثيراً من القدرات، وكثيراً من أصحاب الكفاءات يصابون بالضمور؛ بل ربما يموتون وتموت مواهبهم وقدراتهم؛ لأنهم لا يجدون من يدفعهم بكلمة ثناء، أو يرفعهم بعبارة تشجيع.

       إننا حين نثني على أصحاب القدرات لسنا نحفظ ونضمن جهد المجتهد منهم فحسب، بل إننا نحرك نفوساً ربما لا يحركها أسلوب آخر…….!!

       – رابعاً: التدرج ومراعاة الحال:

       حين نرجع إلى المعنى اللغوي للتربية نجد أن من معانيها النمو والزيادة، ومنه أيضاً التدرج (فالتربية جهود تراكمية، يرفد بعضها، بعضاً والزمن واضح في قولهم: تربى، وتنشأ، وتثقف؛ فالتنشئة والتغذية والتثقيف لا تكون أبداً طفرة ومرة واحدة، وإنما تتم على مراحل متتالية…)(24)؛ وذلك لأن (للجوانب التي تتطلب التربية والإصلاح في النفس البشرية من الاتساع والتعدد والتنوع ما يجعلها في وقتٍ وجهدٍ أمراً عسيراً ومتعذراً)(25).

       ثم إن المتربين والمتعلمين ليسوا على درجة واحدة من الفهم والإدراك، ولا على درجة واحدة في الحرص والرغبة.

       وقد كان التشريع الذي نزل من عند الحكيم الخبير، يرعى التدرج وتمرين الناس على قبول الشرائع وترويضهم عليها؛ حيث خوطب الناس ابتداءً بالأهم فالأهم، فكان التأكيد أولاً على تحقيق التوحيد، حتى إذا استقرت نفوسهم أمروا بالفرائض ثم سائر الشرائع والأحكام. تقول عائشة – رضي الله عنها -: «إنما نزل أول ما نزل منه سورة من المفصَّل فيها ذكر الجنة والنار، حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام، ولو نزل أول شيء: لا تشربوا الخمر؛ لقالوا: لا ندع الخمر أبداً، ولو نزل: لا تزنوا؛ لقالوا: لا ندع الزنا أبداً..» الحديث(26).

       وكذا كان المنهج النبوي في التربية والتعليم يقوم على التدرج ومراعاة الحال.

       – روى ابن ماجه عن جندب بن عبد الله – رضي الله عنه – قال: «كنا مع النبي –صلى الله عليه وسلم- ونحن فتيان حزاورة، فتعلمنا الإيمان قبل أن نتعلم القرآن، ثم تعلمنا القرآن، فازددنا به إيماناً»(27). كم نستعجل أحياناً في تعليم القرآن (حفظه) للأبناء والتلاميذ قبل تثبيت الإيمان في نفوسهم، كم رأينا ممن قارب إتمام القرآن حفظاً فانقطع وتغير سلوكه؛ لأن بناء الإيمان لم يتزامن مع الحفظ، إني بهذا الكلام أؤكد دور التربية والبناء الإيماني، ولا أقلل من أهمية الحفظ.

       – وفي حديث ابن عباس – رضي الله عنهما – في بعث النبي –صلى الله عليه وسلم- معاذاً إلى اليمن قال: إنك ستأتي قوماً من أهل الكتاب فادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله؛ فإن هم أطاعوا ذلك فأعلمهم أن الله افترض….. الحديث»(28).

       – وإن من التدرج ومراعاة الحال في التربية والتعليم عدم تقديم ما حقه التأخير، وأن يُخَصَّ بالعلم أناسٌ دون غيرهم مراعاةً للفهوم وتقديراً للمصالح. روى البخاري في صحيحه قال: (باب من خص بالعلم قوماً دون قوم كراهية أن لا يفهموا) وذكر تحته حديث أنس – رضي الله عنه – قال: ذُكِر لي أن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال لمعاذ: «من لقي الله لا يشرك به شيئاً دخل الجنة» قال: ألا أبشر الناس؟ قال: لا؛ إني أخاف أن يتكلوا»(29).

       قال العيني – رحمه الله -: (وفي الحديث بيان وجوب أن يُخَصَّ بالعلم الدقيق قومٌ فيهم الضبط وصحة الفهم، وأن لا يُبذل لمن لا يستأهله من الطلبة ومن يخاف عليه الترخص والاتكال لتقصير فهمه)(30).

       وروى البخاري(31) في صحيحه عن علي بن أبي طالب معلقاً قال: حدِّثوا الناس بما يعرفون، أتحبون أن يكذب الله ورسوله –صلى الله عليه وسلم-. وروى مسلم(32)، عن عبد الله بن مسعود – رضي الله عنه – قال: «ما أنت محدث قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة».

       إن عملية التعليم والتربية ليست عملية استعراض يستعرض فيها المربي أو المعلم معلوماته، إنما هي صياغة متكاملة تحتاج في أولها إلى الأسس والمبادئ التي تصح بها النهايات وتكتمل، وكما قال شيخ الإسلام: (صحة البدايات تمام النهايات).

       وهكذا كانت طريقة الربانيين الذين امتدحهم الله فقال: ﴿وَلَكِن كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتٰبَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ﴾ [آل عمران: 79]. قال البخاري: قال ابن عباس – رضي الله عنه -: (الرباني هو الذي يربي الناس بصغار العلم قبل كباره).

       – ومما يدخل في مراعاة حال المتعلم أو المتربي إعطاء كل مرحلة ما يناسبها من العلم والتربية فـ (إن لكل مرحلة عمرية درجة من النضج، يصعب تجاوزها، كما أن لها مشكلات لا يمكن حلها إلا على نحو جزئي، ولذا فإن العجلة هي العدو الأول للتربية..هناك جوانب عديدة في شخصياتنا، لا ينضجها إلا الزمن..)(33) وكان ابن سيرين يقول:

إنك إن كلفتني ما لـم أطــق

ساءك ما سرك مني من خلق

       إن بعض المربين قد يعمد في بعض المراحل العمرية إلى زيادة الجرعة وهذا أحياناً قد يحدث شيئاً من التشوه التربوي ﴿قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا﴾ [الطلاق: 3].

       – خامساً: الاستفادة من الأحداث:

       كل يوم تطلع فيه الشمس تتجدد أحداث وتمر حوادث، وعلى المعلم اللبيب والمربي الحكيم أن يفيد من هذه الحوادث والأحداث في توجيه التعليم وتأكيد التربية كما هو حال النبي الكريم –صلى الله عليه وسلم-:  روى مسلم عن جابر – رضي الله عنه -: «أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- مر بالسوق، داخلاً من بعض العالية(34)، والناس كَنَفتيه (أي جانبيه) فمرَّ بجَدْيٍ ميت أسك(35)، فتناوله فأخذ بأذنه، ثم قال: أيكم يحب أن هذا له بدرهم؟ قالوا: ما نحب أنه لنا بشيء، وما نصنع به؟ قال: أتحبون أنه لكم؟ قالوا: والله! لو كان حيّاً كان هذا أسك، فكيف وهو ميت؟! فقال: فوالله! للدنيا أهون على الله من هذا عليكم»(36). كم يتكرر علينا مثل هذا الحادث أو قريباً منه ثم لا نوليه أدنى اهتمام.

       – وعن عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – قال: قدم على النبي –صلى الله عليه وسلم- سَبْيٌ؛ فإذا بامرأة من السبي تبتغي، إذا وجدت صبياً في السبي، أخذته فألصقته ببطنها وأرضعته، فقال لنا رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: «أترون هذه المرأة طارحةً ولدها في النار؟ قلنا: لا، والله! وهي تقدر على أن لا تطرحه، فقال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: لَلَّهُ أرحم بعباده من هذه بولدها»(37).

       كان يمكن أن يذهب هذا الحديث دون تعليق، لكن النبي الحكيم –صلى الله عليه وسلم- أفاد منه أي إفادة؛ وهكذا ينبغي لنا، وحين نطيل التأمل في مثل هذا الحادث فإننا سنجد فيه فرصة للإفادة في جوانب أخرى؛ فكما أشار النبي –صلى الله عليه وسلم- فيه إلى سعة رحمة الله؛ فإننا نجد فيه فرصة للتذكير بحق الوالدين، وتقلُّب الدنيا بأهلها؛ إلى غير ذلك.

       وعن جرير بن عبد الله البجلي – رضي الله عنه – قال: «كنا جلوساً ليلة مع النبي –صلى الله عليه وسلم-، فنظر إلى القمر ليلة البدر، فقال: إنكم سترون ربكم يوم القيامة كما ترون هذا القمر، لا تضامون في رؤيته؛ فإن استطعتم أن لا تُغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل الغروب، فافعلوا»(38).

       كم نرى القمر ليلة البدر؟ كم نراه ونحن مع أولادنا أو مع طلابنا، ثم لا نجد فرصةً أن نُذَكِّر برؤية المؤمنين لربهم في الجنة؟ وكم يمكن أن نفيد من رؤية القمر مثلاً بالتذكير بالصلاة وعظمتها، وأنها نور (والصلاة نور) والتذكير بقيمة الجمال ومحبة الناس له؟ ولن نعدم توجيهاً لو أعملنا أذهاننا.

       وعن البراء بن عازب – رضي الله عنه – قال: «أُهديتْ لرسول الله –صلى الله عليه وسلم- حُلَّةُ حرير، فجعل أصحابه يلمسونها ويعجبون من لينها، فقال –صلى الله عليه وسلم-: أتعجبون من لين هذه؟ لَمَناديل سعد بن معاذ في الجنة خير منها وألين»(39).

       قد يقول قائل: إن هذا خبرُ غيبٍ جاء النبي –صلى الله عليه وسلم- بطريق الوحي وليس لنا إلى ذلك سبيل، فنقول: نعم! ولكن لنا سبل أخرى، فنستطيع أن نُذَكِّر عند جمال الدنيا وحسنها بنعيم الجنة، وبنار الدنيا وعذابها عذاب الآخرة: «ناركم هذه التي يوقِد ابن آدم، جزء من سبعين جزءاً من حر جهنم»(40).

       وقد كان هذا من طريقة بعض السلف – رحمهم الله-: كان حممة – رضي الله عنه – صاحب رسول الله –صلى الله عليه وسلم-، وهرم بن حيان – رحمه الله – يصطحبان أحياناً بالنهار، فيأتيان سوق الريحان، فيسألان الله الجنة ويدعوان، ثم يأتيان الحدادين فيتعوذان من النار، ثم يتفرقان إلى منازلهما»(41).

       كثيراً ما نجلس ونحن نحيط بالنار نستدفئ أو نصنع طعاماً؛ فكم يمكن أن نستفيد من هذا الحادث؟ يمكن أن نقول للمتربين: أرأيتم النار كيف تلتهم الحطب؟ كذلك الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب. ويمكن أن نقول ونحن نحس بالدفء إن هناك من المسلمين من يتقلب في العراء لا يجد له بيتاً يُكِنُّه، ولا ناراً يستدفئ بها.

       إن الحادث الواحد قد يكون فيه فرص للتوجيه في جوانب عدة. نعم! قد لا يكون من المناسب أحياناً استعراض جميع جوانب العبرة في الحادث، لكن علينا أن نأخذ منه أنفع وألصق شيء بالحال.

       إن أي حادث يجري فإنه يمكن أن يفاد منه في التربية (والمربي البارع لا يترك الأحداث تذهب سُدى بغير عبرة وبغير توجيه. وإنما يستغلها لتربية النفوس وصقلها وتهذيبها. ومزية الأحداث على غيرها من وسائل التربية أنها تُحدِث في النفس حالة خاصة هي أقرب للانصهار. إن الحادثة تثير النفس بكاملها، وترسل منها قدراً من حرارة التفاعل والانفعال يكفي لصهرها أحياناً، أو الوصول بها إلى قرب الانصهار… والمثل يقول: اضرب والحديد ساخن؛ لأن الضرب حينئذ يسهِّل الطرق والتشكيل)(42).

       وإن ما تمر به الأمة اليوم من حوادث وفتنٍ متتابعة ليعتبر من جهة أخرى فرصة لصياغة الشخصية المسلمة صياغة جادة ثابتة مثمرة، وأكبر شاهد على ذلك الجيل الفريد الذي رباه النبي –صلى الله عليه وسلم- في خضم الحوادث والمحن قبل الهجرة في مكة وكذا بعد الهجرة في الحوادث التي زاغت بها الأبصار؛ ففي مثل تلك الأوضاع الشديدة (كانت الشخصية المسلمة تصاغ. ويوماً بعد يوم، وحدثاً بعد حدث، كانت هذه الشخصية تنضج وتنمو وتتضح سماتها…)(43).

       وحين نطالب بالاستفادة من الأحداث فلسنا بذلك نريد التعنت والتكلف في توجيهها، بل نلفت النظر إلى أسلوب ناجع من أساليب التربية النبوية.

       – سادساً: التبسط وإزالة الحواجز:

       النفوس البشرية ضعيفة تحوي في داخلها مشاعر وعواطف، يجذبها المعروف، وتحب الأنس والتواضع، وتكره التعالي والتكلف، وتأنف الجفاء والعبوس وتقطيب الجبين. والتبسط وإزالة الحواجز بين المربي والمتربي كفيل بإيجاد بيئة مطمئنة تساعد في تسارع التعليم، وتطور التربية، واتساع مساحتها بشكل واضح، والناظر في هدي النبي –صلى الله عليه وسلم- يجد ذلك واضحاً، ويرى الأثر الكبير الذي يحدثه هذا الأسلوب في النفوس.

       – كان الرجل يأتي إلى مجلس رسول الله –صلى الله عليه وسلم- لا يحجبه عنه بوابون يقول جرير بن عبد الله البجلي – رضي الله عنه -: «ما حجبني رسول الله منذ أسلمت، ولا رآني إلا تبسم في وجهي»(44). وكان –صلى الله عليه وسلم- ربما أتاه الرجل لا يعرفه وقد أخذه الفزع يظن أنه يقدِم على الملوك، فيهون النبي –صلى الله عليه وسلم- عليه ذلك؛ فعن ابن مسعود – رضي الله عنه – قال: «أتى النبي –صلى الله عليه وسلم- رجل فكلَّمه فجعل ترتعد فرائصه فقال له –صلى الله عليه وسلم-: هوِّن عليك؛ فإني لست بملك، إنما أنا ابن امرأة تأكل القديد»(45).

       بل لقد كثر توارد الناس على رسول الله –صلى الله عليه وسلم- «حتى كان آخر حياته يصلي جالسًا لما حطمه الناس»(46). إن الناس لو كانوا يجدون وحشةً من رسول الله –صلى الله عليه وسلم- لم يكونو يأتونه بهذه الجرأة ولا بهذه الكثرة. وحين يكون الوصول إلى المعلم أو المربي من الصعوبة بمكان فإن حلقات من التربية والتعليم في حياة المتعلم والمتربي ستكون مفقودة لصعوبة الاتصال.

إن الناظر في هدي النبي –صلى الله عليه وسلم- وسيرته يرى صورًا كثيرةً من تبسُّطه –صلى الله عليه وسلم- مع أصحابه مع كثرة أشغاله وجدية حياته، إنه مع ذلك يجد فرصة للمزاح معهم ومخالطتهم والدخول في أحاديثهم واستشارتهم وتسليتهم ومواساتهم. وإليك شيئاً من هديه –صلى الله عليه وسلم- في ذلك:

       – عن عثمان بن عفان – رضي الله عنه – قال في خطبة له: «إنَّا والله قد صحبنا رسول الله –صلى الله عليه وسلم- في السفر والحضر، وكان يعود مرضانا، ويتبع جنائزنا، ويغزو معنا، ويواسينا بالقليل والكثير»(47).

       – وعن أنس – رضي الله عنه – قال: «إنْ كان النبي –صلى الله عليه وسلم- ليخالطنا حتى يقول لأخٍ لي صغير: «يا أبا عمير، ما فعل النغير؟»(48).

       – روى الإمام أحمد في مسنده عن عبد الرحمن بن غنم، عن معاذ بن جبل – رضي الله عنه -: «أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- خرج بالناس قبل غزوة تبوك؛ فلما أن أصبح صلى بالناس صلاة الصبح، ثم إن الناس ركبوا؛ فلما أن طلعت الشمس نعس الناس على أثر الدلجة، ولزم معاذ رسول الله –صلى الله عليه وسلم- يتلو أثره… ثم إن رسول الله كشف عنه قِناعه، فالتفت فإذا ليس من الجيش رجلٌ أدنى إليه من مُعاذ فناداه، فقال: يا معاذ، قال: لبيك يا نبي الله، قال: أُدْنُ، دُونَكَ! فدنا منه حتى لَصِقت راحلتاهما إحداهما بالأخرى. فقال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: ما كنت أحسب الناس مِنَّا كمكانهم من البُعد، فقال معاذ: يا نبي الله، نعس الناس، فتفرقت بهم ركابهم ترتع وتسير، فقال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: وأنا كنت ناعساً. فلما رأى معاذ بُشرى رسول الله –صلى الله عليه وسلم- وخلوته له قال: يا رسول الله، ائذن لي أسألك عن كلمة قد أمرضتني وأسقمتني وأحزنتني! فقال نبي الله –صلى الله عليه وسلم-: سلني عمّا شئت…. الحديث(49). بالتأكيد إن هذا السؤال عند معاذ كان حبيساً في نفسه منذ زمن، حتى إذا رأى انبساط النبي –صلى الله عليه وسلم- ورأى البِشْر في محياه استدعاه ذلك إلى سؤال النبي –صلى الله عليه وسلم-؛ فكم في نفوس أبنائنا وطلابنا من أسئلة وإشكالات ومشاكل لو وَجَدت نفسًا بسيطة وقريبة لا يجد المتربي أو المتعلم أدنى كُلفة في التعامل معها، أو نفسًا منبسطة تجذب الناس إليها، وحين لا يجد المتربون والمتعلمون هذه النفوس فلا شك أنهم سيبحثون عن نفوس أخرى!

       – وعن سِماك بن حرب قال: قلت لجابر بن سمرة – رضي الله عنه -: كنت تجالس رسول الله –صلى الله عليه وسلم-؟ قال: نعم! كان رسول الله –صلى الله عليه وسلم- إذا صلى الفجر جلس في مصلاّه حتى تطلع الشمس، فيتحدث أصحابه يذكرون الجاهلية، ينشدون الشعر ويضحكون، ويبتسم رسول الله –صلى الله عليه وسلم-(50).

       – عن أنس بن مالك – رضي الله عنه – قال: « كان رسول الله –صلى الله عليه وسلم- من أفكه الناس»(51).

       قال مرعي بن يوسف الكرمي – رحمه الله – في كلامه عن المزاح: (.. اعلم – أيدك الله-، أنه لا بأس بالمزاح الخالي عن سفساف الأمور وعن مخالطة السفلة ومزاحمتهم، بل بين الإخوان أهل الصفاء بما لا أذى فيه ولا ضرر، ولا غيبة ولا شَيْن في عرض أو دين، بل ربما لو قيل: يُندب، لم يبعُد، إذا كان قاصداً به حسن العُشرة والتواضع للإخوان، والانبساط معهم، ورفع الحشمة بينهم، من غير استهزاء أو إخلال بمروءةٍ أو استنقاص بأحد منهم)(52).

أفـد طبعك المكدود بالجد راحــةً

يجـم وعلِّلــه بشيء مـن المـــزح

ولكن إذا أعطيتـــه المـزح فليكن

بمقدار ما تعطي الطعام من الملح

       – وحين ندعو إلى الانبساط وإزالة الحواجز مع المتعلم أو المتربي فلسنا نقصد بذلك أن يذوب المربي في شخصية المتربي، أو يذوب المعلم في شخصية المتعلم. مع العلم أن الذوبان وذهاب المهابة لا يقع إلا حين يتخلى المعلم أو المربي عن شخصيته الحقيقية ودوره الحقيقي، وعندها يتحول هذا الأسلوب (الانبساط وإزالة الحواجز) عن كونه سبباً لتحقيق أهداف التربية والتعليم إلى كونه شهوةً ورغبةً وإيناساً للنفس وموافقة للطبع لا غير.

       – سابعاً: الإقناع:

       الأصل أن يربى الناس على التسليم للأوامر بالفعل وللنواهي بالترك، لكن بعض النفوس أحيانًا قد تكون شاردة تعيش حالة من التصميم حتى ولو كانت على خطأ، ولا يوقظ هذه النفوس إلا شيء من الإقناع، بردِّها للجادة، وتأكيد معاني الخير فيها.

       – روى البخاري(53) عن أبي هريرة – رضي الله عنه – أن رجلاً أتى النبي –صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله، وُلِدَ لي غلام أسود، فقال: هل لك من إبل؟ قال: نعم! قال: ما لونها؟ قال حمر. قال: هل فيها من أوْرق؟ قال: نعم! قال: فأنَّى ذلك؟ قال: نزعه عرق. قال: فلعل ابنك هذا نزعه عرق». والملاحظ هنا في الإقناع النبوي الاستفادة من البيئة المحيطة، وكذا الاستفادة من البدهيات التي يؤمن بها المحاوَر، وهذا في حد ذاته من مؤكدات الإقناع.

       – أخرج الإمام أحمد عن أبي أمامة – رضي الله عنه – قال: إن شاباً أتى النبي –صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله، ائذن لي بالزنا. فأقبل القوم عليه فزجروه، وقالوا: مَهْ مَهْ! فقال: ادنه! فدنا منه قريباً. قال: فجلس. قال: أتحبه لأمك؟ قال: لا، والله! جعلني الله فداك. قال: ولا الناس يحبونه لأمهاتهم. قال: أفتحبه لابنتك؟ قال: لا، والله! يا رسول الله، جعلني الله فداك. قال: ولا الناس يحبونه لبناتهم، قال: أفتحبه لأختك؟ قال: لا، والله! جعلني الله فداءك. قال: ولا الناس يحبونه لأخواتهم. قال: أفتحبه لعمتك؟ قال: لا، والله! جعلني الله فداءك. قال: ولا الناس يحبونه لعماتهم. قال: أفتحبه لخالتك؟ قال: لا، والله! جعلني الله فداءك. قال: ولا الناس يحبونه لخالاتهم. قال: فوضع يده عليه، وقال: اللهم اغفر ذنبه، وطهِّر قلبه، وحصِّن فرجه؛ فلم يكن بعد ذلك الفتى يلتفت إلى شيء»(54).

       إن النبي –صلى الله عليه وسلم- في هذا الحديث لم يكتفِ بدرجةٍ قليلة من الإقناع، بل مارس معه تأكيد الإقناع – إن صح التعبير – وكان يكفي قوله: أتحبه لأمك، لكنه عدد محارمه زيادة في الإقناع، ودلالة على أن ما قد يأتي من النساء لا تخلو أن تكون أمًا لأحدٍ أو بنتًا أو عمة أو خالة.

       وفي المسند عن أبي حذيفة عن عدي بن حاتم سمعه يقول: دخلت على رسول الله –صلى الله عليه وسلم- فقال: «يا عدي! أسلم تسلم» قلت: إني من أهل دين. قال: «أنا أعلم بدينك منك» فقلت: أنت أعلم بديني مني؟! قال: «نعم! ألست من الرَّكوسية، وأنت تأكل مرباع قومك؟» قلت: بلى! قال: «فإن ذلك لا يحل لك في دينك» قال: فلم يعْدُ أن قالها فتواضعت لها، قال: «أما إني أعلم ما الذي يمنعك عن الإسلام، تقول: إنما اتبعه ضعفة الناس ومن لا قوة لهم وقد رمتهم العرب؛ أتعرف الحِيرة؟ قلت: لم أرها وقد سمعت بها، قال: فوَ الذي نفسي بيده! ليُتِمَّنَ اللهُ هذا الأمرَ حتى تخرج الظعينة من الحيرة حتى تطوف بالبيت من غير جوار أحد، ولتُفتحَن كنوز كسرى بن هرمز» قلت: كسرى بن هرمز؟ قال: نعم! كسرى بن هرمز، وليُبذلن المال حتى لا يقبله أحد»(55) الحديث.

       تأمل قوله –صلى الله عليه وسلم- «أنا أعلم بدينك منك» فهو يحمل إشارة إلى أن من يقوم بالإقناع ينبغي أن يكون واسع المعارف كبير الفهم. وتأمل قوله –صلى الله عليه وسلم-: «إني أعلم ما الذي يمنعك من الإسلام..» فيه إزالة الموانع وتفتيت الحواجز ودحض الشبهات التي تقف أحيانًا كثيرة أمام رقي المتعلم والمتربي.

       – وعند البخاري عن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: أخذ الحسين بن علي – رضي الله عنه – تمرة من تمر الصدقة، فجعلها في فيه فقال –صلى الله عليه وسلم-: «كِخْ، كِخْ» ليطرحها، ثم قال: «أما شعرتَ أنَّا لا نأكل الصدقة؟»(56).

       يا ترى كم كان عمر الحسين بن علي – رضي الله عنه – وقتئذ؟ لقد مات النبي –صلى الله عليه وسلم- وعمر الحسين لم يجاوز الثامنة؛ ومع ذلك خاطبه –صلى الله عليه وسلم- خطاب الكبار، ومارس معه الإقناع؛ فكأنه يقول له: أنا لم أخرجها من فمك شُحًّا أو طمعًا أو أن فيها ضررًا عليك – لا.. إن السبب أنَّا لا نأكل الصدقة.

       حين تجد مع ابنك صورة محرمة أو تجد عليه لباسًا بعيدًا عن روح الإسلام؛ فإن جلسة إقناع تؤكد فيها شخصية المسلم وتميُّزه كافية في التغيير بإذن الله، وعلى أقل تقدير كافية في هز القناعات السابقة وزعزعتها، وهذا سيجعل فرصة التخلي عنها في المستقبل أكبر.

       هذه بعض الأساليب النبوية في التربية والتعليم أحببت الإشارة إليها والوقوف معها لما لها من أثر في بناء النفس، وكلي أمل أن أكون أسهمت من خلال هذه الكتابة في تدعيم لبنات الإصلاح المنشود.

       والله أعلم وهو يهدي السبيل.

*  *  *

الهوامش:

(1)       رواه مسلم (1478.

(2)       ركائز دعوية من هدي النبي –صلى الله عليه وسلم- في العلاقات الاجتماعية، البيانوني، ص 48.

(3)       مسند أحمد (21460).

(4)       الرسول المعلم، أبو غدة، ص 11.

(5)       جامع بيان العلم وفضله (1/155) وصحح إسناده المحقق (أبو الأشبال).

(6)       رواه مسلم (876).

(7)       رواه البخاري (4368).

(8)       رواه البخاري (4388).

(9)       البداية والنهاية، 5/93.

(10)     البداية والنهاية، 5/103.

(11) رواه مسلم (2593).

(12) رواه مسلم (2592).

(13) أبو داود(8)، وهو حديث حسن.

(14) البخاري (6008).

(15) رواه مسلم (537).

(16) رواه البخاري (221).

(17) رواه مسلم (285).

(18) رواه البخاري (99).

(19) رواه مسلم (2418 – 2420).

(20) رواه أبو داود (1460).

(21) رواه مسلم (13).

(22) رواه مسلم (24790).

(23) رواه مسلم (1807).

(24) حول التربية والتعليم، عبد الكريم بكار، ص 10.

(25) معالم في المنهج النبوي، للدويش (مجلة البيان 125، ص 36).

(26) رواه البخاري (4993).

(27) رواه ابن ماجه، المقدمة – باب الإيمان حديث (61).

(28) رواه البخاري (4347).

(29) رواه البخاري (129).

(30) الرسول المعلم، ص 82 نقلاً عن عمدة القاري.

(31) البخاري (127).

(32) المقدمة – باب النهي عن الحديث بكل ما سمع، ص 23.

(33) حول التربية والتعليم، ص 50.

(34) قرى ظاهر المدينة.

(35) أي صغير الأذنين.

(36) رواه مسلم (2958).

(37) رواه مسلم (2754).

(38) رواه البخاري (554).

(39) رواه مسلم (2468).

(40) رواه مسلم (2843).

(41) منهج التابعين في تربية النفوس، عبد الحميد البلالي، ص 116.

(42) منهج التربية الإسلامية، محمد قطب، 1/ 207 – 208.

(43) منهج النبي –صلى الله عليه وسلم- في الدعوة من خلال السيرة الصحيحة، محمد أبو محزون، ص 211 نقلاً عن الظلال، ولمعرفة خصائص التربية بالأحداث يمكنك النظر إلى ص 73، من هذا الكتاب (منهج النبي).

(44) رواه البخاري (3035).

(45) ابن ماجه (3312)، وصححه الألباني.

(46) رواه مسلم (732).

(47) رواه أحمد (504) وصحح إسناده أحمد شاكر.

(48) رواه مسلم (2150).

(49) رواه أحمد (5/245).

(50) رواه النسائي، شرح السيوطي (3/ 80 – 81).

(51) كنز العمال (18400).

(52) غذاء الأرواح بالمحادثة والمزاح، لمرعي الكرمي، ص 28.

(53) رواه البخاري (2633).

(54) رواه أحمد (5/256).

(55) تفسير ابن كثير، سورة التوبة عند قوله: ﴿يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُوا نُورَ الله﴾ [التوبة: 32].

(56) رواه البخاري (1491).

*  *  *

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، محرم – صفر 1437 هـ = أكتوبر – ديسمبر 2015م ، العدد : 1- 2 ، السنة : 40

Related Posts