الفكر الإسلامي

بقلم:  الشيخ/ أبو إبراهيم

          يا أخي الكريم – أرشدك الله لطاعته – اسمح لي أن أحدثك عن مرض من أمراض القلوب خطير، هو مصدر كل بلاء وطريق كل شقاء ومؤجج لنيران الحقد والبغضاء، وهو من أحط الصفات وأقبح السمات، بسببه تفرق الأصحاب وتهاجر الأحباب، وتقطع الأنساب. إنه داء الحسد أول ذنب عصي الله به حيث رفض إبليس السجود لآدم، وقال (خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقتَه مِن طِيْن) [الأعراف/12] وبسببه قتل قابيل أخاه هابيل. والحسد هو تمني زوال  النعمة عن الغير.

       يقول شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله –: الحسد من أمراض القلوب، وماخلا جسد من حسد، ولكن اللئيم يبديه والكريم يخفيه.

       أخي – رعاك الله – اعلم أنه لا يتصف بهذه الخصلة الذميمة إلا ذوو النفوس الضعيفة، فذنب المحسود إلى الحاسد دوام نعمة الله عليه. قال أبوالليث السمرقندي – يرحمه الله – : يصل إلى الحاسد خمس عقوبات قبل أن يصل حسده إلى المحسود أولها: غم لا ينقطع. والثانية: مصيبة لا يؤجر عليها. والثالثة: مذمة لا يحمد عليها. والرابعة: سخط الرب. والخامسة: يغلق عنه باب التوفيق والعياذ بالله. أ. هـ

ألا قل لمن ظل لي حاسدا

أتدري على من أسأت الأدب

أسأت على الله في حكمه

لأنك لم ترض لي ماوهب

فأخزاك ربي بأن زادني

وسد عليك وجوه الطلب

       وقد نهانا نبينا محمد – صلى الله عليه وسلم – عن الحسد فقال: – كما في صحيح البخاري (لا تحاسدوا) وحذرنا منه – عليه الصلاة والسلام – فقال: (وإياكم والحسد؛ فإنه يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب).

       يقول العلامة ابن القيم – يرحمه الله –: وأصل الحسد هو بغض نعمة الله على المحسود وتمني زوالها، فالحاسد عدو النعم وهذا الشر هو من نفسه وطبعها ليس هو شيئًا اكتسبه من غيرها؛ بل هو من خبثها وشرها.أ.هـ

       يقـول ابن حبـان – يرحمـه الله –: الواجب على العاقل مجانبـة الحسـد على الأحـوال كلها؛ فإن أهون خصال الحسـد هو ترك الرضا بالقضاء. ثم قال: والحاسد لا تهدأ روحه ولا يستريح بدنه إلا عند رؤية زوال النعمة عن أخيـه والعيـاذ بالله. نسـأل الله أن يطهـر قلوبنا جميعًا من الحسد.

       وتفكر – رحمك الله – فيما ذكره عمرو بن ميمون أنه قال: رأى موسى – عليه الصلاة والسلام – رجلاً عند العرش فغبطه بمكانه فسأل الله عنه، فقال: ألا أخبرك بعمله؟ كان لا يحسد الناس على ما آتاهم الله من فضله.

       ولا يخفى عليك – وفقت لكل خير – أنه لا يكاد يوجد الحسد إلا لمن عظمت نعمة الله عليه فكلما أتحفه الله بازدياد النعم ازداد الحاسدون له بالمكروه والنقم.

       وكان داود بن علي – يرحمه الله –: ينشد كثيرًا

إني نشأت وحسادي ذوو عدد

ياذا المعارج لا تنقص لهم عددا

إن يحسدوني على ما كان من حسن

فمثل خلقي فيهم جر لي حسدا

       ويقول الآخر:

ليس للحاسد إلا ما حسد

وله البغضاء مــن كل أحــد

وأرى الوحدة خيرًا للفتى

من جليس السوء فانهض إن قعد

       أخي – أرشدك الله لطاعته – ومع أن الحسد كله سيء إلا أن أسوأه الحسد الذي يكون بين طلاب العلم والدعاة تجاه أقرانهم وزملائهم. ويستغرب الإنسان أن يقع منهم ذلك، ولو كانوا من الجهال وضعاف النفوس لم يستغرب الإنسان، لقلة الإيمان في قلوبهم وقلة العلم في صدورهم.

       وقد ذكر عن ابن سيرين أنه قال: ما حسدت أحدًا على شيء من الدنيا، لأنه إن كان من أهل الجنة فكيف أحسده على شيء من الدنيا وهو يصير إلى الجنة؟ وإن كان من أهل النار فكيف أحسده على شيء من الدنيا وهو يصير إلى النار؟

       يقول صلى الله عليه وسلم – كما في حديث الترمذي عن الزبير بن العوام – رضي الله عنه –: «دب إليكم داء الأمم قبلكم. الحسد والبغضاء هي الحالقة حالقة الدين لا حالقة الشعر، والذي نفس محمد بيده لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا. أفلا أنبئكم بشيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشو السلام بينكم».

       ولتعلم – سدد الله خطاك – أن الحسد من شر معاصي القلوب، ومعاصي القلوب هي أشد إثمًا من كثير من معاصي الجوارح فما أخبث داء الحسد! إنه ليعمي بصيرة الحاسد ويجعله كالهائم يمشي على غير هدى، فما يزال في سيره يتعثر، وفي ظلماته يتخبط ويتكسر. يتمنى لنفسه السعادة فيقيم بينه وبينها حجابًا مشقيًا له من حسده الخبيث.

       فيا سبحان الله العظيم! كم من زوجين متحابين ترفرف على بيتهما السعادة، كان لهما حاسدون واشون أفسدوا ما بينهما. وكم من أصحاب متآخين في الله دخل بينهما حاسدون فرقوهم وأثاروا بينهم العداوة والبغضاء. وكم من محصنة عفيفة شريفة، أشاع عنها الحاسدون الفواحش. وكم من أمين خونه الحاسدون فأردوه بالخيانة. وكم من صادق رماه الحاسدون بالكذب. وكم من عالم طعنه الحاسدون بالجهل، وكم من داع إلى الحق صادق مخلص وصفه الحاسدون بالرياء والسمعة والمقاصد السيئة.

       وهكذا يقطع الحسد وشائج المودات وصلات القربات، ويفسد الصدقات، ويولد في الناس العداوات، ويفكك أفراد المجتمع ويباعد بين الجماعات.

       قال معاوية بن أبي سفيان – رضي الله عنه – لابنه: يابني إياك والحسد، فإنه يتبين فيك قبل أن يتبين في عدوك.

       قال الماوردي – يرحمه الله -: اعلم أن الحسد خلق ذميم مع إضراره بالبدن وإفساده للدين حتى لقد أمر الله بالاستعاذه من شره فقال سبحانه: (وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ) [الفلق/5] وناهيك بحال ذلك شرًا. ولو لم يكن من ذم الحسد إلا أنه خلق دنيء يتوجه نحو الأكفاء والأقارب، ويختص بالمخالط والصاحب لكانت النزاهة عنه كرمًا والسلامة منه مغنمًا، فكيف وهو بالنفس مضر، وعلى الهم مصر، حتى ربما أفضى بصاحبه إلى التلف من غير نكاية في عدو ولا إضرار بمحسود.

       قال بعضهم: الحاسد لا ينال من الجالس إلا مذمة وذلاً، ولا ينال من الملائكة إلا لعنة وبغضًا، ولا ينال من الخلق إلا جزعًا وغمًا، ولا ينال عند النزع إلا شدة وهولاً، ولا ينال عند الموقف إلا فضيحة ونكالاً، نسأل الله السلامة والعافية.

       ولما سئل الرسول – صلى الله عليه وسلم -: أي الناس أفضل؟ قال: (كل مخموم القلب صدوق اللسان) قالوا: صدوق اللسان نعرفه فما مخموم القلب؟ قال: (هو التقي النقي لا إثم فيه ولا بغي ولا غل ولا حسد) رواه ابن ماجه. فاحرص أخي على أن تكون مخموم القلب صدوق اللسان. وأختم كلماتي هذه – أرشدك الله للصواب – بذكر مضار الحسد: فهو إسخاط لله تعالى؛ إذ الحسود لا يرى قضاء الله عدلا ولا لنعمه من الناس أهلاً، والحاسد لا يجد لحسرته انتهاء ولا يؤمل لسقامه شفاء، مع مقت الناس له حتى لا يجد فيهم محبا ولا منهم وليًا فيصير بالعداوة مأثورًا وبالمقت مزجورًا، والحسد يجلب النقم ويزيل النعم، والحسد منبع الشرور ويورث الحقد والضغينة في القلب، وهو معول هدام في المجتمع ودليل على سفول الخلق ودناءة النفس.

***

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، ذوالقعدة 1436 هـ = أغسطس – سبتمبر 2015م ، العدد : 11 ، السنة : 39

Related Posts