دراسات إسلامية

بقلم:     الأستاذ/ سيد محبوب الرضوي الديوبندي رحمه الله

(المتوفى 1399هـ / 1979م)

ترجمة وتعليق: محمد عارف جميل القاسمي المباركفوري(*)

توفير التربية الدعوية:

       لقد كان هجوم حركة «آريه سما ج» بلغ من الشدة والشراسة ما لم يُغنِ العاملين في مجال الرد عليها أسلوبُ الدفاع عن الإسلام، وإنما فرض عليهم اتباع أسلوب الهجوم عليها، فقاموا بتسليح الدعاة بالمعرفة الكافية عنها، والذي دعا إلى توفير فرص تعلم اللغة السنسكريتية. فطلبوا الشيخ أبا رحمت الميروتي- المتضلع من السنسكريتية- و وكلوا أمر تعليم الدعاة هذه اللغة إليه. ومن المصادفات أن الطبيب غلام محمدتقدم بخدمة لصالح الإسلام، وكان أحد الأعضاء الناشطين في حركة «آرية سماج» وعُرف بتمكنه من اللغة السنسكريتية، ثم اطلع على محاسن الإسلام في تلك الأيام فلم يلبث أن اعتنقه وحسن إسلامه. ثم لم يمض إلا مدة يسيرة حتى تهيأ من طلبة «دارالعلوم» عدد لا بأس به من الدعاة الذين جمعوا بين التضلع من فن المناظرة والمعرفة الكافية باللغة السنسكريتية بجهود مضنية بذلها الطبيب غلام محمد. فكانوا يقومون بالرد المماثل المفحم على طعون الطاعنين والمعترضين على الإسلام بجانب الهجوم المباشر على دينهم ومعتقداتهم مما يضطرهم إلى الدفاع عنه – عن دينهم- فكان من جراء ذلك أن لم يمض إلا قليل من الزمان حتى خمدت نشاطات الأعداء، وتلاشت الأجواء الطائفية الذميمة التي خلقتها حركة «آريه سماج» في البلاد، وعادت المياه إلى مجاريها.

عام1343هـ، وتقلب عظيم يشهده النظام المالي الممتد على أربع سنوات:

       وكان من تداعيات فتنة «التحويل إلى الهندوسية» (Shuddhi) وفتنة «الاندماج» (Sangthan) اللتين ثارتا كالعاصفة الهوجاء أن تركزت عنايات المسلمين كلهم عليهما. وكان ذلك من أهم متطلبات العصر إلا أن هذه الأوضاع أثرت سلبًا على النظام المالي في «دارالعلوم» لامحالة. وكان معدل الإيراد في عام1340هـ (82) ألف روبية، ومعدل النفقات( 68) ألف روبية ثم تناقصت الإيرادات فجأة عام 1341هـ إلى (59) ألف روبية بينما بلغت النفقات (62 ) ألف روبية هندية إلا أن عام 1342هـ شهد تفاديا من هذا النقص لحد كبير. فبلغت الإيرادت هذا العام (94) ألف روبية وبلغت النفقات (79) ألف روبية. وكانت تداعيات وتأثيرات الفتنة السابقة قائمة ومستمرة فشهدت الإيرادات عام1343هـ تناقصًا إلى (73) ألف روبية، بينما بلغت النفقات(99) ألف روبية، غير أن نهايـة هـذه التقلبات والتقلب العظيم في النظام المالي كان مبعث عجب وحيرة للغاية؛ فقد استمرت نشاطات «دارالعلوم» على ما كانت عليه من غير أن يتطرق إليه شيء من التغيير والخلل. ولانعدو الحق لو قلنا: إنه من كرامة «دارالعلوم» على الله تعالى.

عام 1344هـ، ومرجع رئيس الجامعة من «حيدر آباد»:

       سبق في شرح أوضاع عام 1340هـ أن «نظام دكن» استدعى الشيخ الحافظ محمد أحمد ( 1279-1347هـ/1862-1928م) – رئيس الجامعة – إلى تولي منصب «رئيس المفتين» في المحكمة العليا لمدة ثلاث سنوات. ووافق المجلس الاستشاري في «دارالعلوم» على «إجازة» لمدة ثلاث سنوات، وقرر ضرورة اتصال حبل الشيخ بدارالعلوم زمن نزوله في حيدرآباد كالمعتاد. فكانوا يقضون كل أمر هام بالتشاور معه، كما أسلفنا في السطور السابقة. و كان الشيخ يعود إلى «ديوبند» في كل سنة  ليقضي فيها شهرين أوثلاثة ويباشر عمله في «دارالعلوم»، وينظر في شؤونها عن كثب. وتم تمديد صلاحيته لدى نهايتها بعد ثلاثة أعوام لمدة سنة واحدة أخرى، إلا أنه أصيب بوعكة صحية في هذه المدة التي تم تمديدها، واشتدت وطأة المرض عليه فقدم استقالته قبل نهاية المدة المضروبة له في مستهل ربيع الأول وعاد إلى «ديوبند»، وعقدت مراسم استقالته من خدمة «حيدر آباد» في حديقة عامة بحضور شخصي من «نظام دكن» الذي ثمَّن الخدمات الجليلة التي قام بها الشيخ محمد أحمد (1279-1347هـ /1862-1928م) بكلمات رائعة، كما أصدر أمرًا بإصدار مخصصة مالية قدرها خمس مئة روبية شهرية جزاء على حسن عمله وخدمته. فكانت نهاية خدمته لحيدر آباد مماثلة لبدايتها في غاية من التقدير والتكريم والاحترام والعز والوقار.

الشيخ حبيب الرحمن يحل محل الشيخ محمد أحمد في منصبه:

       نزولاً عند رغبة الشيخ /محمد أحمد في الاستقالة عن منصب الإفتاء في «حيدر آباد» لظروف صحية وافق «نظام دكن» على استقالته وأبدى رغبته في إحلال الشيخ حبيب الرحمن (ت 1348هـ /1929م) محله في هذ المنصب، وطلب منه أن يبلغه – الشيخَ حبيب الرحمن – رغبته هذه. وتلبية لدعوته رضي الشيخ حبيب الرحمن بقبول هذا المنصب، وتحول إلى «حيدر آباد» في 22/جمادى الأولى بيد أن مرض الشيخ محمد أحمد طال وامتد فارتأى المجلس الاستشاري – بعد ثلاثة أشهر- استرجاع الشيخ حبيب الرحمن من «حيدر آباد». وقدم المجلس طلبا في هذا الشأن إلى «نظام دكن»، يتضمن شرح مكانة «دارالعلوم» وأهميتها وحاجتها إلى الشيخ حبيب الرحمن، ومن ثم السماح له بالعودة إلى «ديوبند» ليدير دفة «دار العلوم»، فلقي الطلب أذنًا صاغيةً من «حيدرآباد»، وترخص الشيخ حبيب الرحمن منها ليعود إلى «ديوبند» في 12/ربيع الأول عام1345هـ.

الشيخ أشرف علي التهانوي مشرفًا على «دارالعلوم»:

       توفي شيخ الهند – رحمه الله- فشغر منصب الإشراف على «دارالعلوم»، ولم يتوصلوا إلى اختيار شخص له مكانة واحترام وتأثير فأجمع المجلس الاستشاري – بناءً على طلب أحد أعضائه وهو الشيخ سعيد الدين- على اختيار الشيخ أشرف علي التهانوي المعروف بحكيم الأمة رحمه الله (1280-1362هـ) لمنصب الإشراف على «دارالعلوم». وأبى الشيخ بدوره قبوله في أول الأمر نظراً إلى ارتباطاته السابقة وأشغاله الباهظة، وفي نهاية المطاف قَبِلَه نزولاً عند رغبة أعضاء المجلس الاستشاري وبإصرار شديد منهم.

إنشاء المجلس التنفيذي:

       قام المجلس الاستشاري بإنشاء مجلس تنفيذي لتخفيف وطأة الأعمال عنه، وليكون عوناً له في تسيير الشؤون الإدارية، وأطلقوا عليه «المجلس التنفيذي»، الذي يتكون من خمسة أعضاء، وجعلوا نصب أعينهم في اختيار أعضاء المجلس التنفيذي أن يكونوا من المناطق المجاورة لـ«ديوبند» ليتيسر عليهم شهود جلسات المجلس بالإضافة إلى الاطلاع على أوضاع «دارالعلوم» وشؤونها ومتابعتها عن كثب.

عام 1346هـ ،واستقالة العلامة الكشميري رحمه الله:

       في هذا العام قام العلامة أنور شاه الكشميري (1292-1352هـ/1875-1933م) وبعض أصحابه بتقديم استقالتهم من «دارالعلوم»، وذلك لأسباب يطول شرحها.

وفاة الحافظ محمد أحمد- رئيس «دارالعلوم»-:

       وكان «نظام دكن» أبدى رغبته في زيارة «دارالعلوم» للحافظ محمد أحمد حين كان – الحافظ محمد أحمد- يشغل منصب الإفتاء في «حيدرآباد». فارتأى أهل الحل والعقد في فاتحة هذا العام أن يتوجه الحافظ محمد أحمد بنفسه إلى «حيدرآباد» ليذَكِّر «نظام دكن» وعده، ويتقدم إليه بالدعوة إلى زيارة «دارالعلوم»، ونزولا عند رغبة الجماعة استعد الحافظ أحمد – رغم كبر سنه وضعفه المتناهي ونقاهته المفرطة للسفر الطويل إلى «دكن». فغادر «ديوبند» في 28/ربيع الثاني، حتى وصل إليها وتحدث مع «نظام دكن» بالهاتف وتم ضرب موعد للقاء معه، بيد أن الله تعالى أراد أمر آخر، إذ فوجئ الحافظ محمد – في الموعد المضروب للقاء معه – بوطأة الباسورة التي كان أصيب بها سابقاً، واشتدت عليه اشتداداً أنهك قواه، خار جسده، واشتدت وطأة المرض إلى حـد بعث على القنوط واليأس. وأيسوا من إمكانية اللقاء مع «نظام دكن» فرأوا إلى نقله إلى «ديوبند» بأسرع ما يمكن. فحجزوا غرفة برمته في الدرجة الثانية من القطار، وغادر الشيخ برفقة أصحابه «حيدرآباد» صباح الثالث من جمادى الأولى. فما أن وصل القطار إلى محطة «نظام آباد» حتى لفظ نفسه الأخير وهو يسبح بحمد ربه بيمينه وبلغ العدد التاسع والعشرين منه. رحمه الله رحمةً واسعةً.

       ونزَّلوا جثمانه من على القطار على محطة «نظام آباد» وجاء أهلَ المدينة نعيُه، فاجتمعوا جموعا عظيمة وأعدوا جنازته وتم إبلاغ أقاربه بالإضافة إلى «نظام دكن» بالبرقية، فأرسل «نظام دكن» بحمل جثمانه إلى «حيدرآباد» وفعلاً تم ذلك. وصلي عليه في مواضع كثيرة من «نظام آباد» و«حيدر آباد». وتم دفنه في اليوم التالي الموافق4/جمادى الأولى قبيل العصر في مقبرة خاصة يطلق عليها «بقعة الصالحين» بإيعاز وتوجيه من «نظام دكن». وهذه المقبرة خصها «نظام دكن» بأعيان الدولة وعظمائها، وتم إيواء شهيد المهجرهذا بمراسم ملكية إلى مثواه الأخير. وأعرب «نظام دكن» في كلمته التي ألقاها في مسجد الحديقة العامة عن أسفه البالغ وقال: جاء ليحملني إلى «ديوبند» فأزورَها ثم لم يبرح هذه الأرض».

       ويشكل عهدُ إدارة الحافظ محمد أحمد – رحمه الله- لـ«دارالعلوم» عهدًا ذهبيًا زاهرًا من تاريخها. فالخدمات التي أسداها إلى «دارالعلوم» وما قطعته «دارالعلوم» من أشواط التقدم والرقي والازدهار في عهده جعل حدث وفاته خسارةً لاتعوض على مستوى الأمة الإسلامية في الهند. وانعقد كثير من حفلات التأبين على وفاته في أماكن كثيرة في طول الهند وعرضها، التي ثمنت خدماته وقدَّرتها تقديرا عظيماً. وسنعرج على هذه التفاصيل كلها في ترجمته رحمه الله تعالى في حينه.

عام 49-1348هـ ووفاة الشيخ حبيب الرحمن العثماني:

       ولم تكد الجروح الغائرة التي أصابت «دارالعلوم»؛ بل الأمة الإسلامية كلها من جراء وفاءة الحافظ محمد أحمد- رحمه الله- في العام الماضي تندمل وتأزف حتى وقعت وفاة الشيخ حبيب الرحمن العثماني عليها كالصاعقة.

       وتقول التقارير الدورية لعام 1348هـ: «يشكل هذا العام عامًا موفقًا بالنسبة لتحقيق أهداف «دارالعلوم»، فبلغت الأقسام التابعة لها أوج الرقي والازدهار بالمقارنة مع الأعوام الماضية. فارتفع عدد الطلاب، وتوسعت مواردها و نفقاتها، وتكاثرت الأسباب، وكثر إقبال الناس عليها.

       وكان الله تعالى قد قدَّر لــ«دارالعلوم» في خضم هذا الرقي والازدهار حدثًا مؤلما موجعًا يحزُّ في قلب تاريخ دارالعلوم ويشوك في نفسها. ونحن – وإن لم نعتبر ذلك ترديًا وانحطاطًا لحق «دارالعلوم» إلا أن العواطف الطبعية تملي علينا القـول بأن هذا الحدث غطى كافة جوانب الرقي بظلامه، ولم تسبق مسرات وأفراح الماضي همومَ الحاضر وغمومه. وهذا الحدث هو وفاة الشيخ/حبيب الرحمن العثماني الذي صبت على حَرَم العلم والتعليم هذا أحزانًا وهمومًا من جديد بعد عام 1347هـ، فإن ما شهده العام الماضي من الحادثة الفاجئة الموجعة التي تمثلت في وفاة رئيس «دارالعلوم» ولم تندمل الجروح الغائرة التي سببتها حتى صبت على «دارالعلوم» هذه الحادثة المفجعة في عام1348هـ لتزيد من غورها وتشدد من وطأتها.

       وكان يوم 3/رجب عام 1348هـ يوما عصيبًا على «دارالعلوم»؛ إذ فوجئت في الساعة الثامنة ليلاً بحرمانها من نفحات هذه الشخصية المباركة، فعاد كل مَن فيها حزنًا وقلقاً. فاليتم الذي بُليت به «دارالعلوم» عام 1347هـ بلغ نهايته في مثل هذا اليوم من عام 1348هـ. واحتفظ بجثمانه في الليلة المتخللة بين الثالث والرابع من رجب في «دارالعلوم» حتى أشرقت شمس الرابع منه وهو يوم الجمعة، وعاد السرير- الذي زيَّنه الشيخ بوجوده طوال ثلاثين عامًا– اليوم جنازةً ومبعث قلق واضطراب لجميع أصحابه. وتم تجهيز جنازته صباحًا وصلى بالناس عليه في نحو الساعة العاشرة الشيخ المقرئ محمد طيب، وكان ذلك يوماً مشهودًا عظيماً؛ إذ امتلأ صحن «دارالعلوم» بالناس، ونسل طلبة العلم وعامة الناس من كل صوب وحدب، ووري جثمانه في الساعة الحادية عشرة صباحًا في المقبرة القاسمية، وعاد الناس الساعة الثانية عشر ظهرًا بعد ما حثوا التراب على خزينة العلم والمعرفة والفهم والذكاء، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

       واعتبر الناس في البلاد كلها وفاته خسارةً لاتعوض في عزمه وحزمه وثباته واستقاله وجرأته وفهمه وفكره وتدبره ونظره وعلمه وتبحره فيه، بجانب الكفاءة الخارقة للإدارة، وكان معروفاً كذلك بسعة نظره في التاريخ والأدب، فكتابه «إشاعت اسلام» عمل عبقري مجيد قيم فريد من نوعه في مجال التاريخ لقي قبولاً عامًا في الأوساط العلمية والشعبية، بجانب عدة كتب أدبية أخرى منها: «لامية المعجزات»، و«قصيدة مناجاتية»، وقصائد عربية أخرى تشهد – شهادة بحق- بتمكنه من العلم والأدب.

***

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، ذوالقعدة 1436 هـ = أغسطس – سبتمبر 2015م ، العدد : 11 ، السنة : 39


(*)     أستاذ التفسير والأدب العربي بالجامعة.

Related Posts