دراسات إسلامية
بقلم: الأستاذ محمد ساجد القاسمي (*)
من سنن الله تعالى أنَّه جعل العالم وما فيه من أشياء مادِّية ومعنوية ميسَّرًا مذلَّلاً بحيث يمكن فيه تحصيلُ مطلب، وإحراز هدف، ونيل مرام، ووصول غاية، وتنشيط موهبة، وكسب مهارة، وإكمال نقص.
وجعله حافلاً بالممكنات، ويسَّر للإنسان تحصيلها، فإذا أراد أن يحصِّل شيئًا منها وبذل له الجهد المطلوب، تمكَّن منه وأخذ بمقوده، وامتلك ناصيته، وأتاه طيّعًا ذليلاً لا يستعصي عليه ولا يستنكف منه.
وجعله بحيث أنَّ لكل شيء ثمنًا، ولكل مسبَّب سببًا، ولكل نتيجة مقدّمة، فمن دفع ثمن شيء من فكره وجهده وماله ووقته أدركه، ومن اختار سببًا وصل إلى مسبَّبه، ومن سلك المقدِّمات حصل على النتائج.
كما جعله ملئيًا بالمشقات والمتاعب، حيث لا يُدرك شيء عفوًا دونما جهد، ولا يُنال بغية من غير مشقة. كما قيل: بقدر ما تتعنّى تنال ما تمنَّى، ومن طلب العلا سهر الليالي.
ولم يجعله صعبًا عصيًّا، يعجز فيه الإنسان عن إدارك مطالبه وأهدافه ووسائله للحياة، وزاخرًا بالعقبات الكآداء التي تحول دون غايته ومرامه، وتمنعه من الوصول إلى الهدف المنشود والمنزل المأمول.
لذلك فقد نرى أنَّ من وضع نُصْب عينيه هدفًا وبذل له الجهد وكدَّ له وجدَّ، ودفع له ثمنه، أحرزه وأدركه؛ وأنَّ من يمَّم وجهه تجاه غاية وسعى لها سعيًا وعمل لها دائبا، وصل إليها؛ ومن أراد أن يكسب مهارة أو سليقة، نالها وحققها.
كذلك من أراد أن يكون عالمًا أو أديبًا أو شاعرًا أو خطيبًا أو طبيبًا أو مهندسًا أو فنَّانًا أو زعيمًا سياسيًّا، أو يكون ذا ثروة، أو ذا سمعة فهو يصير كما أراد، أو يحقق بعض ما طلب. فإذا بدأ مشواره نحو هدفه، وسلك سبيله نحو مطلوبه تنفتح له السبل، وتنقاد له الأسباب، وتزول العوائق، وتنقطع الموانع، حتى يظفر به.
وإلى هذا المعنى تشير الأمثال السائرة: من سار على الدرب وصل، ومن جدَّ وجد، ومن لجَّ ولج.
ولما كانت الدنيا دار بلاء وامتحان، كما قال تعالى: ﴿خَلَقَ الْـمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً﴾ (الملك:2). رزق الناس مؤمنهم وكافرهم ما يحتاجون إليه من وسائل العيش وأسباب الحياة للبقاء في الدنيا، وجعل الرزق خارجًا من دائرة الكفر والإيمان، حتى يتمكَّنوا من أداء امتحانهم في حرّية وإطلاق.
فما يكسبه الناس في حياتهم من قبيل الرزق، ومن نوع المتاع، وما يحقَّقونه في مختلف مجالات الحياة من معجزات هائلة، وأعمال جليلة، وإنتاجات مدهشة، واكتشافات غير عادية، خاضع لهذه السنة.
نستأنس لهذه السنة بآي من القرآن الكريم، وهي:
قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْـمُحْسِنِينَ﴾ (العنكبوت:69).
جاء في فتح القدير في تفسير هذه الآية:
«أي جاهدوا في شأن الله لطلب مرضاته ورجاء ما عنده من الخير لنهدينَّهم سبلنا، أي الطريق الموصل إلينا»(1).
وقال طنطاوي في تفسيرها:
«أما الذين بذلوا جهدهم في سبيل إعلاء ديننا، وقدَّموا أنفسهم وأموالهم في سبيل رضائنا وطاعتنا، وأخلصوا لنا العبادة والطاعة، فإنَّنا لن نتخلّى عنهم، بل سنهديهم إلى الطريق المستقيم، ونجعل العاقبة الطيَّبة لهم، فقد اقتضت رحمتنا وحكمتنا أن نكون مع المحسنين في أقوالهم وفي أفعالهم، وتلك سنّتُنا التي لا تتخلَّف ولا تتبدَّلل»(2).
وقال البيضاوي:
(والذين جاهدوا فِينَا) في حقِّنا، وإطلاق المجاهدة ليعمَّ جهاد الأعادي الظاهرة والباطنة بأنواعه (لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا) سبل السير إلينا والوصول إلى جنابنا، أو لنزيدنَّهم هداية إلى سبيل الخير وتوفيقًا لسلوكها. (وَإِنَّ الله لَـمَعَ المحسنين) بالنصر والإِعانة(3).
فمعنى الآية الكريمة أن الذين جاهدوا في شأن الله لطلب مرضاته ورجاء ما عنده من الخير ليهدينّهم الطريق الموصل إليه ويوفَّقهم لسلوكه، وينصرهم ويعينهم ويجعل العاقبة الطيَّبة لهم؛ فقد اقتضت حكمته ورحمته أن يكون مع المحسنين في أقوالهم وأفعالهم، وتلك سنته التي لا تختلف ولا تتبدل.
وقوله تعالى: ﴿يٰأَيُّهَا الإِنْسَان إِنَّكَ كَادِحٌ إلى رَبِّكَ كَدْحًا فملاقيه﴾ (الانشقاق:6).
قال الآلوسي في تفسير الآية:
«(يأَيُّهَا الإنسان إِنَّكَ كَادِحٌ) أي جاهد ومجدّ جِدًّا في عملك من خير وشرّ (إلى رَبِّكَ كَدْحًا) أي طول حياتك إلى لقاء ربك (فملاقيه) أي فملاق له عقيب ذلك لا محالة من غير صارف يولِّيك عنه والضمير له عز وجل أي فملاقي جزائه تعالى. وقيل هو للكدح أي فملاقي جزاء الكدح»(4).
وقال سيد قطب:
«يا أيها الإنسان إنَّك تقطع رحلة حياتك على الأرض كادحًا، تحمل عبئك، وتجهد جهدك، وتشقُّ طريقك.. لتصل في النهاية إلى ربك. فإليه المرجع وإليه المآب بعد الكدّ والكدح والجهاد.. يا أيها الإنسان .. إنك كادح حتى في متاعك.. فأنت لا تبلغه في هذه الأرض إلا بجهد وكدّ. إن لم يكن جهد بدن وكدّ عمل، فهو جهد تفكير وكدّ مشاعر. الواجد والمحروم سواء. إنما يختلف نوع الكدح ولون العناء، وحقيقة الكدح هي المستقرة في حياة الإنسان.. ثم النهاية في آخر المطاف إلى الله سواء(5).
فالآية بعمومها تفيد أنَّ الإنسان سواء كان مسلمًا أو كافـرًا كادح عامل من خير أو شرّ طول حياته إلى لقاء ربـه، فما عملـه من خير أو شر يترتب عليه الجزاء لا محالة.
وقوله تعالى: ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ﴾ (آل عمران:145).
قال ابن كثير في تفسير الآية: «يا من ليس هَمُّه إلا الدنيا، اعلم أنَّ عند الله ثواب الدنيا والآخرة، وإذا سألته من هذه وهذه أعطاك وأغناك وأقناك..
ولا شك أن هذه الآية معناها ظاهر؛ فإن قوله (فِعِنْدَ اللهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ) ظاهر في حضور الخير في الدنيا والآخرة، أي: بيده هذا وهذا، فلا يقْتَصِرَنَّ قاصر الهمة على السعي للدنيا فقط، بل لتكن همته سامية إلى نيل المطالب العالية في الدنيا والآخرة، فإن مرجع ذلك كله إلى الذي بيده الضرّ والنفع، وهو الله الذي لا إله إلا هو، الذي قد قسم السعادة والشقاوة في الدنيا والآخرة بين الناس، وعدل بينهم فيما علمه فيهم، ممَّن يستحقُّ هذا، وممَّن يستحقُّ هذا»(6).
فمعنى الآية أنَّ الذي يريد ثواب الدنيا وخيرها فلا يكن همه الدنيا فحسب، بل لتكن همته عالية، فليطلب ثواب الدنيا والآخرة وخيريهما، فإن الله عزّ وجل بيده الإعطاء والمنع، والنفع والضر، والسعادة والشقاوة ﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ﴾ (الحجر:21) فمن طلب هذا أعطاه، ومن أراد ذاك أعطاه ﴿كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا﴾ (الإسراء:20).
وقوله تعالى: ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ﴾ (شورى:20).
قال الرازي:
«الآية دالة على أن منافع الآخرة والدنيا ليست حاضرة بل لا بدَّ في البابين من الحرث، والحرث لا يتأتى إلا بتحمُّل المشاقّ في البذر ثم التسقية والتنمية والحصد ثم التنقية، فلما سمّى الله كلا القسمين حرثًا علمنا أنَّ كل واحد منهما لا يحصل إلا بتحمُّل المتاعب والمشاق»(7). وقال سيد قطب:
«الله لطيف بعباده يرزق من يشاء. يرزق الصالح والطالح، والمؤمن والكافر. فهؤلاء البشر أعجز من أن يرزقوا أنفسهم شيئًا؛ وقد وهبهم الله الحياة، وكفل لهم أسبابها الأولية؛ ولو منع رزقه عن الكافر والفاسق والطالح ما استطاعوا أن يرزقوا أنفسهم ولماتوا جوعًا وعريًا وعطشًا، وعجزًا عن أسباب الحياة الأولى، ولما تحقَّقت حكمة الله من إحيائهم وإعطائهم الفرصة ليعملوا في الحياة الدنيا ما يحسب لهم في الآخرة أو عليهم، ومن ثم أخرج الرزق من دائرة الصلاح والطلاح، والإيمان والكفر، وعلقه بأسبابه الموصولة بأوضاع الحياة العامة واستعدادات الأفراد الخاصة، وجعله فتنة وابتلاء، يجزي عليهما الناس يوم الجزاء»(8).
فمعنى الآية الكريمة أنَّ من أراد حرث الآخرة فالله يعطيه ويزيده من فضله، وأنَّ من أراد حرث الدنيا يؤتيه منه فيما علمه وقدره. وعبَّر الله تعالى عن مطلوب الدنيا والآخرة بالحرث إشعارًا بأنّه لا يحصل إلا لمن نصِب وتعب وتحمَّل المشاق والمتاعب، فكل شيء في الدنيا لا يحصل بغير كدّ، ولا ينال بدون مشقة.
تقررت في ضوء الآيات السابقة سنة ذات شأن كبير، وهي أنَّ الذين يجاهدون لطلب مرضات الله، ونيل ما عنده من الخير سواء كان يتصل بالدنيا أو الآخرة، ييسِّر لهم السبيل الموصل إليه ويوفِّقهم لسلوكه، وينصرهم ويعينهم، وأنَّ الله بيده حرث الدنيا والآخرة، وخيرهما وعطاءهما، وبيده النفع والضر والسعادة والشقاوة، فمن طلب هذا أو هذا أعطاه إياه، فيما قدره في سابق علمه، وأنَّ الرزق ومتاع الدنيا وحرثها خارج من دائرة الكفر والإيمان، يحصِّله الإنسان بالجد والسعي، وأنَّ كل ما في الدنيا من أشياء مادِّية أو معنوية لا يمكن تحصيلها إلا ببذل الجهد، والجد والكد، فمن طلب شيئًا ودفع له ثمنه ملكه وأدركه.
ثم إنَّ هذه السنة تطلب من الإنسان أن يسعى ويعمل ويجتهد، ويتجنب الكسل والعجز والتواني، وقد وردت ببيان أهمية العمل والسعي والكفاح النصوصُ والآثارُ والأمثالُ.
قال الله تعالى: ﴿وَقُلِ اعْمَلُوْا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ﴾ (التوبة:105).
وقال: ﴿وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى﴾ (النجم:39-40).
وقال صلى الله عليه وسلم : الكيِّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنَّى على الله(9).
وقال عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه: لا يقعدنَّ أحدكم عن طلب الرزق، ويقول اللهمَّ ارزقني؛ فقد علمتم أنَّ السماء لا تمطر ذهبًا ولا فضة. وقال أيضًا: إني لأرى الرجل فيُعجبني، فأقول: أله حرفة؟ فإن قالوا لا، سقط من عيني.
وقال الأوزاعي: إذا أراد الله بقوم سوءًا أعطاهم الجدل ومنعهم العمل(10).
يتقاعس بعض الناس عن العمل مدِّعين التوكُّل ومُحيلين على القدر، فنعى عليهم السلف والحكماء والشعراء، فقالوا: إن قدر كل امرئ وحظَّه أمر غامض لا ينكشف إلا بالعمل والكفاح، فعلى الإنسان أن لا يتواني ويتكاسل، بل عليه أن يعمل ويكافح حتى ينكشف ما في حظه من خير وسعادة.
قال الدكتور محمد إقبال في إحدى مقطوعاته:
«إنَّ القدر في هذا العالم الصاخب السيَّار سر غامض. بفضل قوة العمل وفرط النشاط تنكشف أسراره الغامضة.
وبقوة العمل، وفرط النشاط ظهر سيف الإسكندر، وذاب أمامه جبل ألوند.
وبقوة العمل، وفرط النشاط عاد تيمور سيلاً عارمًا اكتسح وهاد الأرض وأنجادها.
وبفضل قوة العمل وفرط النشاط تصير تكبيرات المجاهدين في سبيل الله في غمار الوغى أصواتًا عالية لله تعالى.
إنَّ فرصة العمل ووقت النشاط لحظات معدوة، ثم تتبعها ليلة ظلماء بعيد ما بين الطرفين في القبر.
ولما كان مصايرنا إلى المقابر فلنغتنم فرصة العمل، ولنفجِّر ضجَّة في العالم»(11).
ولهذه السنة مناظر ومظاهر وأمثلة ونماذج كثيرة لا تحصى في كل مجال من مجالات الحياة. فلن ترى عظيمًا من عظماء التاريخ، ورجلاً من رجالات العالم، أو شخصية بارزة في مجال العلم أو السياسة أو الاجتماع، إلا تجد حياته خاضعة لهذه السنة.
فهذا خالد بن الوليد قد حُبِّب إليه العمل وكُرِّه إليه الكسل والتواني، فأتى بقوة عمله ووفرة نشاطه بالأعاجيب وصَنَعَ المعجزات. قهر دولتي الفرس والروم، وما يمَّم وجهه نحو شطر إلا أتى إليه الفتح طائعًا منقادًا، وترك أمثلة خالدة لقوة العمل وعلو الهمة في التاريخ الإسلامي.
وهو يقول عن رغبته الشديدة في العمل: «ما من ليلة يهدى إليَّ عروس أنا لها محبّ، أو أبشر بغلام، أحبّ إلى من ليلة شديد الجليد في سريَّة من المهاجرين أصبح بهم المشركين»(12).
إن حياة العلماء والأدباء الذين يزدان بذكرهم تاريخنا قد تحمَّلوا المشاق، وقاسوا الشدائد، في سبيل تحصيل العلم حتى أصبحوا في العلم مرجعًا وفي الرواية عمدة.
قال أبو حاتم الرازي: «أوَّل ما رحلت أقمت سبع سنين، ومشيت على قدمي زيادة على ألف فرسخ، ثم تركت العدَّ، وخرجت من البحرين إلى مصر ماشيًا، ثم إلى الرملة ماشيًا، ثم إلى طرطوس ماشيًا ولي عشرون سنة».
قيل للشعبي من أين لك هذا العم؟
قال: «بنفي الاعتماد، والسير في البلاد، وصبر كصبر الجماد، وبكور كبكور الغراب».
وقال مكحول الشامي: «أعتقت بمصر، فلم أدع بها علمًا إلا حويته فيما أرى، ثم أتيت العراق، ثم أتيت المدينة، فلم أدع بهما علمًا إلا حويت عليه فيما أرى، ثم أتيت الشام فغربلتها».
فبهذا الجد والعمل والمثابرة أصبحوا علماء الأمة الإسلامية وأعلامها، وشادوا صرح الحضارة الإسلامية الخيرة الذي لا يزال يدهش العالم على مر الدهور والعصور.
ومن أروع الأمثلة للجد والاجتهاد والكفاح حياة الأمير الأموي عبد الرحمن الداخل الذي أقام ملكا قد أدبر، وعرشًا قد هوى، وأعاد مجد آبائه الأماجد.
حين بلغ عبدالرحمن حياة الشباب والطموح وجد أنَّ الخلافة الأموية قد سقطت، وذلك سنة 132هـ، وقُتِل آخر الخلفاء الأمويين: مروان بن محمد، وقد كانوا ينعمون برغد العيش، فإذا هم يتعرضون للسلب والتعذيب بل للقتل والذبح علنًا في الشوارع.
لم يستسلم الشاب عبد الرحمن للواقع المرير، بل فرَّ من وجه الملاحقة العباسية الشديدة، وقطع الفيافي والقفار، واجتاز الأودية والبحار حتى وصل إلى الأندلس، فالتفَّ حوله الناس، وبعد حروب ومعارك استطاع أن يحكم الأندلس كلها.
لم يكتم أبو جعفـر المنصور الخليفـة العباسي إعجابه بصقر قريش، فقال عنه: «إنه فتى قريش الأحوذي الفذّ.. الذي قذف نفسه في لجج المهالك، لابتناء مجده، فاقتحم جزيرة شاشعة المحل، نائية المطمع، عصبية الجند، إنَّ ذلك لهو الفتى كل الفتى، لايكذب مادحه»(13).
إنَّ الأخلاق والصفات التي كان يتمتَّع بها عبد الرحمن جعلته يتفوّق على خصومه، وإن جدَّه المتواصل وكفاحه الدائب وجهاده المستمر أزال أمامه العراقيل والعوائق، ومكَّنه من صنع الأعاجيب وبناء المعجزات. قال أحد مترجميه: «كان عبد الرحمن رجلاً شجاعًا، مقدامًا، شديد الحذر، سخيًا، شاعرًا، لا يكل الأمور لغيره، ولا ينفرد برأيه. سريع الوثوب، نشطًا، لايخلد إلى الراحة. دخل الأندلس وعمره خمسة وعشرون عامًا، وحكمها ثلاثة وثلاثين سنة وأربعة أشهر، وأقام وحده ملكا كان قد أدبر»(14).
إنَّ حياة العلماء والمحدثين، وعظماء التاريخ، وزعماء السياسة، ورجال الاختراع والاكتشاف خير شاهد لهذه السنة، ولو أحصيت قصصهم وأخبارهم وإنجازاتهم وأعمالهم التي جاءت تبعًا لهذه السنة ما وسعها هذا المقال.
* * *
الهوامش:
- فتح القدير 5/455.
- الوسيط لطنطاوي تفسير آية والذين جاهدوا فينا.
- تفسير البيضاوي 4/477.
- تفسير الآلوسي 6/296.
- في ظلال القرآن تفسير سورة الانشقاق.
- تفسير ابن كثير 2/452.
- تفسير الرازي 13/427.
- في ظلال القرآن 6/320.
- سنن الترمذي رقم: 2383.
- المستطرف في كل فن مستظرف، 2/56.
- كليات إقبال، ص:367.
- جند المعالي لخليل صقر، ص:119.
- جند المعالي، ص:127.
- جند المعالي، ص:128.
***
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، ذوالقعدة 1436 هـ = أغسطس – سبتمبر 2015م ، العدد : 11 ، السنة : 39
(*) أستاذ بالجامعة sajidqasmideoband@gmail.com