إلي رحمة الله
وَدَّعَتْ مدينةُ جدة يومَ الجمعة 25/ من ربيع الآخر 1426هـ الموافق 3/ من يونيو 2005م الكاتب الإسلامي الكبير الشهير الشيخ محمد أحمد باشميل – رحمه الله – صاحب «سلسلة معارك الإسلام الفاصلة» بعد ما عاش 90 عامًا ، قضى معظمها في خدمة دينه ، بكتابات تتّسم بالأصالة والموضوعيّة ، وتتدفق بالغيرة والحمية . ووافته المنية وهو قعيد طريح على الفراش منذ أكثر من عشرين عامًا ، ظلّ يعاني خلال هذه الأعوام الأمراضَ وتداعياتِها التي جعلته يغيب عبر هذه المدة عن الحياة العامة ، حتى ظنّه كثير من خلاّنه والمعجبين به أنّه قد وَدَّعَ الحياة ، واستأثرت به رحمة الله تعالى . وكانت الغيبوبة الدماغيّة الكاملة قد أقعدته منذ ثلاثة أعوام ، فَإِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُوْنَ .
كان باشميل – رحمه الله – عالماً غزير العلم ، واسع المعرفة ، طويل الاِطّلاع والخبرة ، مفكرًا دقيق التحليل لما يواجهه الإسلام من الأفكار الوافدة ، والحركات الهدّامة ، والتيارات الدخيلة ، والديانات الضالّه ؛ يتمتّع بالأسلوب المحكم المشوق ، والصياغة الدقيقة الممتعة ، والطريقة المثيرة المستنيرة الجذّابة ، إلى جانب ما كان يمتاز به من الغيرة البالغة على دينه وعقيدته وثقافته وأمته . ومن هنا كانت له معارك أدبية وكتابية فكرية حاسمة مع أبناء الجيل ، الذين طاردهم في كثير من أطروحاتهم على طول الدرب ، سَجّلتها كلّ من جريدة «عكاظ» و «البلاد» و «المدينة المنورة» و «الندوة» و«الجزيرة» وغيرها من الجرائد السعودية ، وتعدّتها إلى صحف البلاد العربية الأخرى الصادرة في كل من بيروت ، وصنعاء ، وعدن ، والقاهرة وغيرها . ولم يقتصر نشاطُه الأدبي على النثر العذب المحبوك الماتع ، وإنما تجاوزه إلى الشعر الذي فيه قصائد له متينة ، تفيض روعةً وعذوبةً ، نشرتها الصحف السعودية ، ولما تُطْبَعْ ديوانًا .
عرفتُ الشيخ باشميل رحمه الله اولَ ما عرفتُ في الفترة ما بين مارس – يونيو 1972م (صفر – جمادى الأولى من عام 1392هـ) لدى وجودي عند المفكر الإسلامي الهندي الكبير الشيخ أبي الحسن علي الحسني الندوي – رحمه الله تعالى رحمةً واسعة – المتوفى يوم الجمعة 22/ رمضان 1420هـ = 31/ديسمبر 1999م ، من خلال عدد من مؤلّفاته الثمينة الموجودة لديه في بعض خزانات الكتب التي كنتُ أَتَصَفَّحُها من حين لآخر، عندما كان يُكَلِّفني بإحضار كتاب بعينه منها أو عندما أكون فارغًا من الأعمال ، فأقضي وقتَ الفراغ في قراءة كتاب كان يشدّني إليه بعنوانه المثير، أو موادّه النافعه ، أو عرضه الماتع ، أو أسلوبه الشيق ؛ فجذبني إليه كتابُه العظيم «سلسلة معارك الإسلام الفاصلة» الذي يتضمّن عشرة كتب ، ألّفها في الفترة ما بين 1383هـ / 1963م و 1393هـ / 1973م . وهي تتحدث عن غزوات الرسول ﷺ: بدر، وأحد ، والأحزاب ، وبني قريظة، وصلح الحديبية ، وخيبر ، ومؤتة ، وحنين ، وفتح مكة، وتبوك . وأكملها بكتابه «القادسية ومعارك العراق» الذي يتحدّث عن المعارك الإسلامية الحاسمة خارج جزيرة العرب ، والذي صدر عام 1403هـ / 1983م بمقدمة أديب العربية معالي الشيخ عبد العزيز الرفاعي ، صاحب الخميسيّة الشهيرة بالرياض، المتوفى 1414هـ / 1993م – رحمهما الله تعالى – .
لقد أحببتُ الشيخَ حبًّا جمًّا عندما قرأتُ كتبَه هذه، التي اسْتَخْرَجَتْ له من لساني أدعيةً كثيرةً لاتُحْصَىٰ ، وأنا رجلٌ سعيدٌ بالدعاء لكل من أَحْسَنَ ويُحْسِنُ إليّ بأي أسلوب من أساليب الإحسان التي لا يُحْصِيْهَا كلَّها إلاّ الله العليمُ الخبيرُ . وصاحبُ الكتابات النافعة والمُؤَلَّفَات المُجْدِيَة ، ذومِنَّة كبيرة عليّ وعلى كل من ينتفع بها بشكل من الأشكال ، ولاسيّما إذا كان أسلوبه شيّقًا مشوّقًا ، وكان في كتاباته صادرًا عن الغيرة والإخلاص ، اللذين يدرك حرارتَهما كلُّ قارئ مُتَذَوِّق يعرف الفرقَ بين أسلوب وآخر .
وظلتُ عبر أكثر من عشرين عامًا لا أسمع له ذكرًا ، ولا أعرف له حضورًا في الساحة الكتابيّة والوسط الثقافي ، وكنت أظن كغيرى أنه – رحمه الله – قد مات ، حتى قرأتُ نعيَه في الصحف السعودية الصادرة يوم الأحد 28/ربيع الأول (بالتقويم العربي) 27/ ربيع الأول (بالتقويم الهندي) 1426هـ الموافق 5/يونيو 2005م ، فدعوتُ له كثيرًا ، تقبل الله أعمالَه، وأجزلَ أجره عن الأمراض التي طهّرته – إن شاء الله – في هذه الدنيا ليدخل جنةَ ربه بجنب الصديقين والنبيين ، والشهداء والصالحين ، وحسن أولئك رفيقًا .
ألّف رحمه الله نحو 40 كتابًا صغيرًا وكبيرًا ، وكلُّها تمتاز ، إلى جانب تنوّع المواضيع ، بروعة الأسلوب، وغزارة المادة ، وسعة الاطلاع ، والدراسة المتقصية ، والمسحة الأدبية العطرة ، واللباقة الكتابية ، والإتقان التأليفي ، والجدّ العلمي ، والموضوعيّة البنّاءة. منها – إلى ما ذكر من «سلسلة معارك الإسلام الفاصلة» و «القادسية ومعارك العراق» :
صراع مع الباطل ، ولهيب الصراحة يحرق المغالطات ، والقومية في نظر الإسلام (وقد نُقِلَ هذا الكتاب إلى كل من الإنجليزية والفرنسية) و لايافتاةَ الحجاز ، وأكذوبة الاشتراكية ، والعرب في بلاد الشام قبل الإسلام ، وهل هذا من العروبة ؟ ، وكيف نحارب الإلحاد ؟، والإسلام ونظرية دارون ، وكيف نفهم التوحيد ؟.
ورغم كونه كأنه سيفٌ مصلتٌ على رقاب التيارات الوافدة ، لم يُلَوِّث لسانَه بكلمة نابية ، أو قلمه بكتابة فَظَّة ، فضلاً عن مسيئة ، فظلّ عبرَ مشواره الكتابي – الذي كان فيه فارسَ الكلمة ، الحائزَ لقصب السبق ، المسجّلَ «التبريزَ» و «التجليةَ» – ظلّ عفَّ اللسان ، طاهرَ القلم ، نظيفَ الذيل ، ليّنَ الجانب ، نعومَ الأخلاق ، رحبَ الصدر ، كبيرَ النفس .
وإن أنسَ فلن أنسى جفاءَ إعلاميينا تجاهَ الشخصيات الإسلامية البارزة ، التي إمّا يتجاهلونها تمامًا، أو يتحدّثون عنها بما لا يسمن ولا يغني من «جوع» . ومقابلَ ذلك يتحدّثون عن المطربين والمطربات وعن نجوم السينما ، وممثلى وممثلات الأفلام، والمثقفين العلمانيين أو «المتنورين» بما يبلغ حدَّ التُّخَمَة . فلاحول ولا قوة إلاّ بالله ، وعليه التكلان وبه المستعان ، فها هو ذا الكاتب المؤرخ المفكر الإسلامي يموت في هدوء وفي عزلة ، ولا يذكره الجرائد والمجلات ووسائل الإعلام إلاّ بعضُها و بما لايغني .
* * *
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، الهند . جمادي الثانية – رجب 1426هـ = يوليو – سبتمبر 2005م ، العـدد : 7–6 ، السنـة : 29.