الحبّ كالبغض يزيد وينقص أو يخفّ أو يزول

إشراقة

          مكان واحد من الأمكنة، أو قرية أو مدينة من القرى والمدن، أو مؤسسة أو جماعة من المؤسسات والجماعات قد تُعْجِبك إعجابًا لا نهاية له، وتسرّك سرورًا لا يحدّه حدّ، فتكون مهوى فؤادك، ومرمى محبتك، ومحطّ نظرك، وموضع ذكراك، ومنتجع نجواك، وتتمثل لك كالغانية التي تستهوي بجمالها الفاتن حتى الحليمَ الغافلَ الذي قلّما يتمتع بالوعي الجمالي، فَتكْلَف بها، وتودّ أن لاتَبْرَحَها أبدًا، ولا تغيب هي عنك ولا لحظةً. فلو اضْطُرِرْتَ أن تفارقها لحاجة مُلِحَّة أَسِفْتَ عليها جدًّا، وبكيتَ عليها دمًا، وتَفطّر لها قلبك، وذاب لها كبدك؛ لكن القرية أو المدينة أو المؤسسة أو الجماعة نفسها، تعود غريبة عليك تتوحش منها وتفقد أيَّ رغبة فيها، إذا فقدتَ الأصدقاء الذين كانوا قد حَبَّبُوها إليك، والإخوان الأصفياء الذين رغّبوها عندك، أو تغيرت الظروف التي فيها أحببتَها، أو تحولت الحالة التي من أجلها كنتَ قد شُغِفْتَ بها، مثلاً حالة السرور والصفاء، حالة الطفولة البريئة، حالة الخلو من كل الهموم والأحزان، حالة الفراغ من الأشغال المرهقة، والأعمال الرتيبة المتلاحقة والمسؤليّات الكثيرة الباهظة، حالة العزوبة التي لم يكن فيها لديك أهل وعيال، فلم تكن في حاجة إلى الشعور بمسؤولية نحوهم، فكانت جميع أوقات حياتك عندها فارغة، وكانت صفحة قلبك لم تخطّ عليها يدُ الأيام والليالي شيئًا، فكانت هي صافيةً، تحتاج أن تخطّ عليها ما تشاء.

       في صباي كنت أدرس في الكُتَّاب في قرية عمومتي بعيدًا عن قرية خؤولتي التي كانت تعيش فيها والدتي، فكنتُ أحنّ إلى الثانية حنينًا لا أكاد أصفه بأي كميّة كبيرة من الألفاظ والصياغات، وكنت أتمنّى كلَّ وقت أن أطير إليها بجناحي الشوق، وكنت كلّما أعلم أن أحدًا ذاهبٌ إليها حَدَّثَتْني نفسي أن أصحبه إليها، حتى كنتُ أحبّ كلَّ شيء يتعلّق بها أو يتوجّه إليها أو يأتي منها إلى القرية الأولى؛ فكنت أغبط عربةَ الثورين أو الحافلةَ أو الدراجة المتجهة من الأولى إلى جهة الثانية، وأقول في نفسي: ما أسعدها؛ حيث إنها بمقدورها أن تزورها وتختلف إليها ومنها، وما أشقاي؛ حيث ليس بمستطاعي أن أتعلّق بها فأصل إليها، إلاّ في موعد الإجازة الذي يرضى فيه القائمون عليّ أن أذهب فيه إليها وأسعد بصحبة والدتي وأثلج صدرًا بإمضاء الوقت بجوارها.

ثم كبرتُ، واجتزتُ مرحلةَ الكتاب والابتدائية والثانوية والجامعة، وصرتُ «عالما» من علماء الدين، واقتحمتُ مرحلةَ العمل، وصرتُ أبا العيال، وازدحمتْ عليَّ الهمومُ بأنواعها، وحاصرتني الأعمال، وأرهقتني الأشغال، واصطلحتْ علي الأمراض بعد ما صرتُ رجلاً ثم كهلاً ثم دخلتُ مرحلةَ الشيخوخة؛ فعُدْتُ لا فرق لدي بين القريتين رغم كوني من سكان الثانية، ورغم وجود والدتي بها؛ حيث كانت تعيش بها؛ لأن الحالة تغيرت، والهواياتُ قد تبدّلت، ونشأت الهموم والأشغال التي كانت لا عهد لي بها في صباي والتي استقطبت اهتمامي كلَّه وملأت عليّ شِعَابَ قلبي، فلم يعد لديّ معنى لحبّ الثانية – القرية الثانية أي قرية خؤولتي – على حساب حب الأولى – قرية عمومتي – .

       كنتُ بعد قضاء فترة دراستي بالجامعة الإسلامية الأم: دارالعلوم الكائنة بمدينة «ديوبند» التحقتُ بالجامعة الأمينية بمدينة «دهلي» عاصمة الهند، لأسعد بملازمة شخصية علمية صالحة كبيرة وأتعلم منها ما لم أتعلمه من غيرها؛ ولكنني قد شعفتُ «ديوبند» وجامعتها حبًّا وكَلِفْتُ بها كَلَفًا لايجوز أن يصفه ما لديّ من رصيد اللغة وقدرة الكتابة، والحبُّ مرجعُه إلى المكانة التأريخية والعلمية التي تتمتع بها الجامعة والمدينة وإلى المنة الكبيرة الفريدة التي أسدتها الجامعة إلى الأمة المسلمة الهندية خصوصًا والأمة المسلمة كلها عمومًا؛ فكنتُ أحنّ إليها وأتمنى أن أصل إليها بكل مركب يتجه إلى جهتها. كنت أتجاوز عشرات المرات كلَّ يوم الجسر الذي يصل بين جزئي المدينة ويخترق الخطوطَ الحديديّةَ للقطار بجنب محطة دهلي القديمة، فكنتُ أغبط كلَّ قطار يمرّ من تحت الجسر ويتجه إلى محطة «غازي آباد» وأقول لنفسي في نفسي: ما أَغْبَطَ هذه القطرَ التي هي مسموح لها بأن تذهب إلى «ديوبند» وتتجاوزها إلى ما بعدها من المدن والقرى، على حين إن محطة «غازي آباد» تنشقّ منها خطوطٌ كثيرةٌ إلى جهات عديدة، وليس بالضروري أن يذهب كلُّ قطار – متّجه إلى الشرق من «دهلي» التي تقع في الغرب – إلى «ديوبند» حيث يجوز أن يذهب إلى «هابور» فـ«مراد آباد» أو أن يذهب إلى «عليجراه» فإلى الأمكنة التي تخترقها الخطوط الحديدية المتجهة إليها – عليجراه – ولكن الحبّ يُعمي ويُصِمّ، وهو لا يعرف المنطقَ، ولايؤمن بتقديرات العقل وحساباته.

       ثم دخلتُ مجالَ العمل، وصار العملُ شغلي الشاغل، وهَجَمَتْ عليّ الهمومُ التي تهجم على المرء بعد نضج الفكر واكتمال العقل: هموم كسب لقمة العيش، وترسيخ القدمين على مسار الحياة، وهموم كفالة الأهل والعيال، وتربية الأولاد وتعليمهم، وتقويم خطاهم على طريق الحياة، وهموم الدراسة المتصلة والكتابة والتأليف والتدريس، وهموم علاج الأمراض المعترضة والتعامل مع الهموم التي تُسَبِّبها، وما إلى ذلك من الهموم التي لاعدَّ لها؛ فتغيرت العقلية، وقلّت فرصة التفكير في قضيّة الحبّ العفويّ، وتقلّصت فرص الصفاء التي يتلقى فيها المرأُ إلهاماتِ الحبّ وإملاءاتِ الاحتراق لمكان أو زمان أو شخص إلاّ الحبّ المفروض عليه: من حبّ الله ورسوله، وحبّ الوالدين، وحب الأساتذة والمحسنين إليه، وحبّ الأمكنة المقدسة في الدين، وإلاّ الحبّ الذي يُتَاح له أن يُبْقِيَ عليه من تلاعب الأيام والليالي للأحبّة القدامى من الأشخاص والأمكنة ومن ذوي الروح وغير ذوي الروح.

       إن الحبّ حادث كالبغض تمامًا، وليس بقديم – حسب مصطلح المناطقة – فهو – الحبّ – يزول كالبغض، أو يخف، كما يجوز أن يزيد وينقص، ولا يبقى على حال، وإنما يبقى الله، وكلُّ شيء فانٍ غيره؛ فلا يدوم على وتيرة واحدة، وإنما يتغير ويزول، أو يخف أو ينقص، كما يمكن أن يزيد.

       وكذلك كثيرٌ من الناس أحببتُهم لمنّة أَسْدَوْها إليّ، أو لصلاح لمستُه فيهم، أو لخير كانوا يصنعونه إلى بني البشر، أو لمزيّة كانوا يمتازون بها عن غيرهم، أو لفضيلة وُجِدَت فيهم ولم تُوْجَد – لحدّ علمي – في غيرهم، ثم حدث ما وَزَّع جداولَ الحب المذخور لديّ طبيعيًّا على جهات شتى، ولم يدعها باقية مُدَّخِرة كالسابق، وفَعَلَ بي حَدَثَانُ الدهر ما فعل ويفعل بغيري من أعضاء المجتمع الإنساني، من تكدير صفو الحياة، وتخدير العقل الحريص على ممارسة الحبّ، وشغل القلب المائل إلى المصافاة والتألم للغير وإلى مشاطرته الأحزان والآلام؛ فعدتُ لم أقدر على توفيتهم حقَّهم من الحبّ القديم والصفاء الصافي الذي عَهِدوه مني في السابق؛ لأن الملابسات القاسرة أرغمتني أن أتناهى – ولو في الظاهر – عن توفيتهم النصابَ المعهود من الحب والإعجاب.

       هذا، وربما حدث أنهم هم الذين تغيّروا؛ لأن الأحياء مُعَرَّضُون للتغير عما هم عليه من الحال؛ لأنها – الحال – لا تدوم مع أحد. وقد صدق سيدنا عبد الله بن مسعود – رضي الله عنه – عندما قال: «من كان مُسْتَنًّا فليستنّ بمن قد مات؛ لأن الحيّ لا تُؤْمَنُ عليه الفتنةُ». فذلك أوجب عليّ أن أتغيّر عما كنتُ عليه نحوهم من شدة الحب ولوعة الوجد وصفاء الولاء.

       وكذلك أحببتُ بعضَ الجماعات أو المُـؤَسَّسات حبًّا جمًّا؛ لأنها كان يقوم عليها رجالٌ صلاحُهم كان فوق كلّ شبهة، واتقاؤهم كان حديثَ المجالس، وتديّنهم كان سبب هداية الناس؛ ثم تولّى إدارتَها أناسٌ مادّيون، أو أشخاصٌ لم يكونوا على مستوى صلاح السابقين وتدين الراحلين، فخفّت حدة الحبّ لديّ ووطأة الإعجاب الذي كنت أرصده لتلك الجماعات والمؤسسات، رغم تقديري لمكانتها القديمة وعظمتها المُتَوَارَثَة.

       وربّما بقي حبّي لها على مستواها السابق؛ لأن الخير ظل باقيًا لديها بنصابها الماضي؛ ولكني أنا الذي تغيرتُ من قهر الزمان وقسر الحوادث؛ فلم يعد بمستطاعي أن أتعامل مع الحب والإعجاب نحوها كالسابق، فلم أعد فارغًا مرتاحاً منتعشًا كالماضي، وإنما حطّمتني الهموم، وكسرتني الأشغال، وأكلتني الأحزان والأمراض، فشغلتني عن ممارسة الحب بنصابه المطلوب مع جماعة أو مؤسسة أو شخص أو مكان؛ لأن الإنسان مُسَيَّر بالأقدار، ومقيّد بالأعذار؛ فلا يتاح له أن يتصرّف في الحياة بمشوارها الطويل وطرقها الكثيرة ذات مُنْعَطَفَات حسب ما يشاء، وإنما يتصرف كما يُقَدَّر له من قبل القدرة الإلهيّة.

       على كل فالحبّ كالبغض لايبقى على حال ولايدوم على نصاب، وإنما يزيد وينقص، أو يزول وينمحي، أو يخفّ ويقلّ، وقد يكون المرأ مضطرًّا في هذا الباب، ولايكون مخيرًا إلاّ قدر ما يشاء الله تعالى.

(تحريرًا في الساعة 2 من ظهر يوم الإثنين: 4/شوال 1434هـ = 12/أغسطس 2013م)

        أبو أسامة نور

 nooralamamini@gmail.com 

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم  ديوبند ، ذوالحجة 1434 هـ = أكتوبر – نوفمبر 2013م ، العدد : 12 ، السنة : 37

Related Posts