إشراقة
إذا ضاع يومٌ من أيّامك في مناسبة، في حفلة، في عرس للزّواج، في إكرام ضيف فاجأك، في حادث ألمّ بك، في رحلة عرضت لك، في حاجة نزلت بك، في شغل منعك من عملك الرتيب، أو من مسؤوليتك اللازمـة، أو وظيفتك المنوطة بك.. إذا حَدَثَ لك ذلك فلا تظنّنّ أنّه ضاع منك ذلك اليوم الواحد وحده؛ لأنّه سيجرّ حتماً إلى ضياع أيّام كثيرة؛ فقد يحدث في اليوم التالي حادث آخر أو حاجة أخرى أو مناسبة غير التي عرضت لك. تلك تجربة عشتُها وأعيشها منذ وعيي بالناس والحياة. وقد أكّد هذه الحقيقةَ سيّدنا أبوبكر الصديق – رضي الله عنه – في خطبـة له بقوله: «فإنّ يومًا بيوم» أي كلُّ يوم من أيّامك متّصل باليوم الذي يليه؛ حيث إنّ الزمان كلّه امتداد متّصل وسلسلة لا تنقطع، فإذا ضاع منه جزءٌ أدّى إلى ضياع كثير من الأجزاء.
فربّما حدث أنّي اضْطُرِرْتُ إلى إنفاق جزء من أوقاتي الثمينة في حاجة طارئه تخلّلتِ الوظيفةَ من الوظائف المُوكَلَةِ إليّ، وحسبتُ أنّني سأتخلّص منها في ظرف وقت مُحَدَّد، لأعود إلى وظيفتي أقوم بها دون اختلال تتعرض له؛ ولكنه حَدَث أنّه أدّى ذلك إلى ضياع أجزاء من أوقاتي وتَعَرُّض الوظيفة للاختلال. من هنا ظِلْتُ جِدَّ حريص على المحافظة على الأوقات والضنّ بفرص الأيّام والليالي على كثير ممّن يسترقّونها لتحقيق غرض من أغراضهم الشخصيّة المنحصر نفعُها في أشخاصهم أو في أسرهم دون حاجة من الحاجات الجماعيّة التي يعمّ نفعُها عامّةَ الناس في المجتمع.
ربما تكون تجربةُ غيري مختلفةً عن تجربتي؛ حيث إنّ الناس في الأغلب لايشعرون بضياع الأوقات، واختلال الأعمال الرتيبة، والمسؤوليّات الهامّة التي تتطلّب الأداءَ في مواعيدها؛ لأنّ الناسَ عادةً وُلِدُوا غيرَ مُبَالِين بالواجبات، وغيرَ واعين بحرمة المسؤوليّات، وغيرَ شاعرين بقيمة الأوقات، ويعيشون الأيّامَ واللياليَ وكأنّها خُلِقَتْ عبثًا ولم تُخْلَقْ لتُصْرَف في تحقيق فريضة أو أداء وظيفة.
عدمُ الشعور بالمسؤوليّة وفقدانُ الحسّ المُرْهَف يجعل المرأ مُغَفَّلاً عن كلّ قيمة من قيم الحياة؛ فيعيش لا يبالي بضياع مسؤولية وفوتِ وظيفة؛ حيث لايهمّه إلاّ أغراضه الخسيسة الذاتية وحاجاته الآنيّة التي يراها كلَّ شيء، ويظنّ أن الكون إنّما أُوجِدَ لتحقيق ما يهمّه وحده.
إنّ أمثاله تختلف تجربتهم بالتأكيد عمّا جرّبتُه وأجرّبه، لأن طينتهم تختلف عن طينتي؛ فلا يؤذيهم ما ضاع من المسؤوليّات وما فاتهم من الوظائف والواجبات؛ لأنهم لايشعرون بضياع شيء في حياتهم؛ حيث لايدركون معنىً للضياع.
أمّا أنا وأمثالي فيتأذّون كثيرًا إذا اختلّت – مُجَرَّدَ اختلال – مسؤوليةٌ ما أُسْنِدَتْ إليهم لأنّهم ظُنُّوا مُؤَهَّلِين لأدائها على ما ينبغي؛ ولذلك لا أبرح مقرَّ عملي إلاّ قليلاً، وأظلّ عاكفًا على إنجاز ما هو مُسْنَدٌ إليّ من الأعمال والوظائف التي من أجلها وُظِّفْتُ في دارالعلوم/ ديوبند. ورغم أني لا أقصّر أيّ تقصير في أداء مسؤوليّاتي، وأحاول جهدي أن أقوم بها على خير ما يُرَام، حتى كسبتُ – ولله الحمد والمنة – الاعتبارَ والثقةَ في قلوب الخاصّة والعامة من المجتمع الجامعي العامّ؛ حيث إن الجميع يؤمنون بأنيّ رجل أمين صارم في شأن القيام بالمسؤوليات؛ لكنني أظلّ متأذيًا يلومني ضميري ويقول لي: لم تُؤَدِّ مسؤوليتك على ما ينبغي، وقد صدر منك التقصير في أدائها من جهة الكمّ والكيف معًا.
هذا الشعورُ البالغ بالمسؤولية جَعَلَني شديدَ المحافظة على الأوقات، كبيرَ الصيانة لها من الضياع في غير ما وَزَّعْتُها عليه من الأعمال الرتيبة والواجبات الموقوتة؛ فإذا ما أُضْطَرُّ لحاجة مُلِحَّة أن أغادر مقرَّ عملي إلى قرية أو مدينة أو أن لا أقوم بعمل من الأعمال في وقته لضيف نزل عليّ، أو لزائر دهمني على غير موعد، أو لأنه كُلِّفْتُ عملاً طارئًا من قبل الإدارة وأُمِرْتُ بأن أقوم به قبل كلّ عمل، فحدثت بيني وبين القيام بالمسؤوليات المنوطة فترة طالت يومًا أو يومين أو ساعة أو ساعتين، ثم استتبعت ثلاثة أيام أو ثلاث ساعات فأكثر؛ لأن الفترة الحاصلة من أجل قضية ما أدت إلى فترات حاصلة لقضايا أخرى استجدت وتنوعت؛ لأن الفترة الواقعة دون الأعمال والمسؤوليّات تكون دائماً ناحسةً تسلب البركةَ والسعادةَ.
لكن الشعور بهـذا النحس لايوجد إلاّ لدى من يولــدون على حسّ مُــرْهَف، وشعــور رقيق ومعانٍ إنسانيــة ساميــة تنحت منهم إنسانًا بمعناه. أمّا عامة الناس فلا يملكون هذا الشعور، فلا يدركون ما ضاع من الأعمال، وما فاتهم من المسؤوليات، وما اختلّ من الواجبات؛ لأنهم لايعرفون للضياع معنى. ومن «محاسن» هذا النوع من الإنسان أنه لا يتأذى بشيء، ولا يلومه ضميره على فوت واجب تجاه الدين أو الدنيا؛ لأنهم لايملكون ما يُسَمَّى «الضمير».
وهذا الشعور قيمة كبرى في حياة إنسان ما، لأنه هو الذي يضع الفرق – الدقيق العميق – بين الإنسان والبهائم، فمن يملكه يُصَنَّف أنه الإنسان، ومن يُحْرَمْه يُصَنَّف أنه البهيمة، مهما وُلِدَ على صورة الآدمي، وهيكل الإنسان؛ لأن مجرد الفرق في الصورة ليس بفرق كبير.
الشعور بالمسؤوليّة يفرض على من يتمتع به أن يجتنب حضورَ كثير من البرامج والمناسبات التي لايجب عليه حضورها؛ لأنّ الفرائض تمنعه من التعرض للنوافل والمندوبات، أمّا الفاقد لهذا الشعور فلا يفرّق بين الفرائض والمستحبات، فقد يُفَضّل الثانية على الأولى؛ لأنّه يعيش الحياة بشكل عشوائي، ولا يعير لأي أمر من أمورها الأهميةَ التي يستحقّها، ظنًّا منه أن كل شيء في الكون خُلِقَ عبثًا، وأنه لا نظامَ يربطه ربطاً موضوعيًّا بأمور أخرى.
فهذا الشعورُ نعمةٌ عظمى من نعم الله الكثيرة الجليلة؛ لأنّ صاحبه به وحده يعطي الفرائضَ والواجباتِ الأولويةَ التي تستحقّها ويتعامل معها بما ينبغي، فيُؤَدِّيها في مواعيدها على مستواها المطلوب، ويحاول أن لايحصل منه إهمال في القيام بها، ويتأذى بمجرد تصوّره أنه لم يُوَفِّها حقَّها من العناية، ولم يُؤَدِّها على مستواها اللائق. أمّا عدمُ الشعور بالمسؤولية فهو شقاءٌ أيُّ شقاء وتعاسة لا نهاية لها؛ لأن الإنسان عندها – عند ساعة فقده أو في حالة حرمانه إيّاه – يكون مذنبًا دونما إرادة منه ويعيش حياته مرتكبًا أخطاءً لاعداد لها؛ لأنه يُهْمِل كثيرًا من الواجبات، وتفوته كثيرٌ من المسؤوليّات، وأداءُ حقوق كانت عليه نحو دينه أو أمته، أو مجتمعه أو بلاده، أو مؤسسته التي تعلّم فيها، أو يُعَلِّم فيها أو يعمل بها.
على كلّ فإنّ التقصير الحاصل في أداء مسؤولية على مدى يوم يؤدي إلى التقصير فيها لمدى أيّام عديدة أو أيّام كثيرة؛ لأن الفترة الحاصلة تستتبع عادة فترات متتابعة؛ فالأحسن أن نحترز من أن لا تحصل فترة ما دون أداء أيّ مسؤوليّة. وهذا الاحترازُ لايتأتى إلاّ انطلاقًا من الشعور بأهمية المسؤوليّة وقيمة الوظيفة التي أُسْنِدَ إلى المراء أداؤها. فإذا فقده فقد دوافع الاحتراز؛ لأنّ فاقد مقدمات الأشياء يفقد لا مَحَالَةَ الأشياءَ نفسَها. ويعلم ذلك كلُّ خبير حَلَبَ الدهرَ أشطره، وجَرَّبَتْه الحياة في حرّها وقرّها، وعلّمته كيف يتعامل مع الحياة بشؤونها التي لا تُحْصَى.
أبو أسامة نور
nooralamamini@gmail.com
(تحريرًا في الساعة 12 ضحى يوم السبت: 5/شعبان 1434هـ = 15/يونيو 2013م)
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، ذوالقعدة 1434 هـ = سبتمبر – أكتوبر 2013م ، العدد : 11 ، السنة : 37