أنباء الجامعة
في الفترة ما بين السبت – الأحد: 27-28/أبريل 2013م (15-16/جمادى الأخرى 1434هـ) عقدت منظمة «حِذْمَتْ» التركية بمدينة «استنطبول» الشهيرة – التي ظلّت مركزًا للخلافة العثمانية الإسلامية طوال عدة قرون – بعنوان «الإجماع والوعي الجمعي فقهًا وروحًا وثقافةً وسلوكاً».
وعلى دعوة خاصّة منها شارك المؤتمرَ فضيلة رئيس الجامعة الشيخ المفتي أبوالقاسم النعماني/ حفظه الله ورعاه مع أستاذين من أساتذة الجامعة الأجلاء وهما: الشيخ محمد سلمان البجنوري القاسمي والشيخ محمد عارف جميل القاسمي المباركفوري. وقد تحدّث فضيلة رئيس الجامعة إلى حفل الافتتاح مع من تحدّثوا من خيرة علماء ومفكري العالم الإسلاميّ.
وننشر فيما يلي حديثه هذا تعميمًا للفائدة وتسجيلاً له لصالح الدارسين والمؤرخين [التحرير]
الحمد لله رب العالمين، الذي جعلنا خير أمة، وأراد بنا خيرًا إذ ربطنا بأهداف التفقه في الدين، والصلاة والسلام على نبينا محمد بن عبد الله خاتم النبيين، الذي ستدوم شريعته إلى يوم لا ينفع فيه شيء من مال ولا بنين، والذي أمته جُعِلَت أمّةً وسطاً شهداء على الناس كافّة، وعلى آله وصحبه أجمعين، الذين هم للأمة كالنجوم بأيهم اقتدت اهتدت، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فإننا نشكر القائمين على المؤتمر شكرًا جزيلاً على توجيههم الدعوة لنا لحضور هذا المؤتمر العالمي العظيم حول هذا الموضوع الهامّ الجليل الـمُتَمَثِّل في «الإجماع» الذي هو أحد الأصول الأربعة الأساسيّة في الشريعة الإسلاميّة، المؤتمر الذي يُعْقَد في مقرّ الخلافة العثمانية الإسلاميّة الذي يَحِنُّ إليه المسلمون في الهند حنينَهم إلى البقاع الإسلاميّة العزيزة الحبيبة لديهم في العالم. وقد بَذَلُوا ما كان بوسعهم للإبقاء عليها والحيلولة دون سقوطها، وقد وَجَّهوا كثيرًا من المساعدات والتبرعات إلى مقرّ الخلافة إعانةً لها على أعدائها إِبَّان الحرب العالميّة.
فإننا نشكرهم شكرًا عميقًا نابعًا من أعماق القلب، صادرًا عن الإخلاص، فائضاً بالحبّ الصافي الصميم والودِّ الخالص القديم، على أنهم أتَاحُوا لنا فرصةَ أن تَقَرَّ أعينُنا بزيارة هذه المدينة التاريخية العظيمة التي شَهِدَتْ معركةً حاسمةً فاصلةً بين الإسلام والمسيحيّة غَيَّرَتْ مجرى التاريخ، وسَجَّلَتْ للإسلام بطولةً خالدةً، وصَدَّقت ما تَنَبَّأَ به سيّدُنا ونبيُّنا محمد صلى الله عليه وسلم من فتحها وخضوعها للإسلام، كما أنّ المدينة تَسْعَد سعادةً لا تعدلها سعادةٌ، وهي أنّها تحتضن جثّة الصحابي العظيم مُضِيف رسول الله صلى الله عليه وسلم لدى هجرته وأوَّلِ نزوله بالمدينة المنورة سيّدنا أبي أيوب خالد بن زيد الأنصاري الخزرجي (المتوفى 52هـ/672م) الذي تُوَفِّيَ بحصار هذه المدينة المسماة آنذاك بـ«القسطنطينية» والمدعوة فيما بعد بـ«إستنطبول».
وشكرُنا يَغْزُرُ ويَتَعَمَّقُ بنحو أكثر عندما نُفَكِّر في أنّهم – القائمين على المؤتمر – دَعَوْنَا لحضور المؤتمر دون جدارة علميّة منّا لمجرد أنّنا نَنْتَمِي إلى أكبر وأعرق جامعة إسلاميّة أهليّة في شبه القارة الهنديّة، وهي معروفةٌ في العالم بـ«دارالعلوم/ ديوبند». وقد كانت لها صلة عميقة وطيدة بالخلافة العثمانية وخلفائها الأخيرين الذين اتّصل بهم أوّلُ تلميذ في دارالعلوم/ ديوبند وهو صقر الإسلام في شبه القارة الهندية العالم الرباني المتضلع الشيخ محمود حسن الديوبندي رحمه الله (1268-1339هـ = 1851-1920م) المعروف بـ«شيخ الهند» وتلاميذُه الكبار، بهدف طلب التعاون على تحرير الهند وإجلاء الاستعمار البريطاني الجاثم على صدرها. وبجهوده وجهود تلاميذه المُخْلَصَة استقلّت الهند عن نير الاستعمار الإنجليزيّ عام 1947م.
ومما يزيدنا سرورًا على سرور أننا من خلال حضورنا هذا المؤتمرَ الكريمَ، نَسْعَد بلقاء هذه الخلاصة المصطفاة من علماء الإسلام ومفكريه ودعاته في العالمين الإسلامي والعربي، فجزى الله مُنَظِّمي المؤتمر ومن سَاعَدَهم عليه خيرَ الجزاء، و وَفَّقَهم لمزيد من خدمة الإسلام والمسلمين، والثقافة الإسلامية والدين.
أيّها السادة! إنّ العصر الحاضر قد عمّت فيه فتنةُ التنكّر للأسلاف وكَثُرَ الكفرانُ لجميلهم ومنّتهم على الأمّة، وصار الإعجاب بالنفس والأنانيّةُ جزءًا من الشريعة، ونرى بأم أعيننا صدقَ ما تَنَبَّأَ به النبيّ الكريم صلى الله عليه وسلم: «لَعَنَ آخرُ هذه الأمة أولَها» (سنن الترمذي رقم الحديث:2210) ولا يَتَحَرَّجُ النّاسُ من الطعن في الصحابة – رضي الله عنهم – وتوجيه اللوم إليهم، ويحاولون تفريقَ كلمة المسلمين من خلال انتقاد القضايا المُجْمَع عليها والمعمول بها منذ الـ 14 قرنًا من الزمان؛ فعقدُ هذا المؤتمر العالميّ حول موضوع «الإجماع» في مثل هذه الأوضاع من أهمّ مواضيع الساعة وحاجات الوقت، ولا شكّ أنّه خطوةٌ هامّةٌ ذاتُ مفعول كبير نحو تحقيق حاجة كبرى تمسّ الأمةَ اليوم؛ فنحن نرى لزاماً علينا أن نُحَبِّذَ تحبيذًا حارًّا خطوةَ مُنَظِّمِي هذا المؤتمر الكريم هذه، ونتضرّع إلى المولى العليّ القدير أن يُبَارِك فيه ويجعله يُحَالِفُه توفيقُه، ويُسْفِر عمّا يفيد الأمّةَ إلى المدى البعيد.
أمّا موقعُ الإجماع وأهميّته في الدين، فإنه يَتَجَلَّىٰ واضحاً من أن سلسلةَ النبوة قد انتهت، على حين أن الدين الذي جاء به النبيّ الخاتم سيِّدنا محمد صلى الله عليه وسلم سيبقى ليوم القيامة؛ فالأمّة ستواجه في مشوارها الطويل ليوم الساعة قضايا مُسْتَجِدَّة ومشاكل مُسْتَحْدَثَة، ستظل تقتضي حلاًّ لها لائقاً، وهذه الحلولُ لا يقوم بها ولا يتوصّل إليها إلاّ المجتهدون من علماء الأمة التي ستبقى طائفةٌ منها قائمةً على الحق، كما تَنَبَّأَ بذلك النبي صلى الله عليه وسلم؛ فقد قال صلى الله عليه وسلم: «لن يزال أمرُ هذه الأمّة مستقيماً حتى تقوم الساعة» (صحيح البخاري1/16 كتاب العلم). فيظل رأيُ هذه الطائفة القائمة على الحق رأياً حقًّا يلزم الأمةَ اتّباعُه والعملُ به والصدورُ عنه في دينها ودنياها؛ ولذلك أجمعتِ الأمّةُ على أن «الإجماع» حجة شرعيّة.
ويدلّ الكتابُ والسنّة على أنّ هذه الأمة تمتاز عن غيرها من الأمم السابقة بأنها معصومة بالمجموع. ولا يعنى ذلك أن فردًا من أفرادها لايخطئ، لأن المُشَاهَد يُؤَكِّد أنّه كلٌّ منا حتى العلماء والصلحاء يخطئون فيما يتعلّق بالدين، فكلُّ فرد من أفراد الأمة ليس معصوماً من الأخطاء؛ لأن فيها أتقياء صالحين، وفُجَّارًا فاسقين كذلك؛ ولكن مجموع الأمّة معصومٌ من الأخطاء، أي أن الأمة بأسرها لن تتفق على الضلالة التي تتعارض مع الكتاب والسنة، ولا يرضاها الله تعالى، فكما أن قرارًا من قرارات الكتاب والسنة لن يكون خاطئاً، كذلك القرار الدينيّ المُجْمَعُ عليه من قِبَلِ الأمّة لن يتلبّس بالخطأ والضلال، فيجب على المسلمين اللاّحقين أن يلتزموه ويعملوا به.
وقد نَصَّ القرآن الكريم أن من يتبع غير سبيل المؤمنين يدخله الله تعالى النارَ كما يُدْخِلُها المخالفَ لأمر الرسول صلى الله عليه وسلم؛ فقال تعالى:
«وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَىٰ ويَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْـمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّىٰ ونُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَ سَاءَتْ مَصِيرًا» (النساء/115).
فعُلِمَ أن مخالفة القرار الـمُتَّفَقَ عليه لدى الأمّة أي إجماعِها على أمر، معصيةٌ كبيرةٌ. ولا غرو فإن الله عز وجل يبشر مجموعَ الأمة بقوله:
«وَكَذٰلِكَ جَعَلْنٰكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا» (البقرة/143).
فإذا حصل أن يُعْتَبَرَ إجماعُ الأمة على أمرما، خَطَأً، فلا يعود معنى لقوله تعالى: «أُمَّةً وَسَطاً».
وأكّدت الآيةُ أن حجيّة الإجماع لا تخصّ عهدَ الصحابة – رضي الله عنهم – أو عهد التابعين – رحمهم الله تعالى – لأن الخطاب فيها مُوَجَّهٌ إلى الأمّة كلّها، التي لا تنحصر في الصحابـة أو التابعـين، وإنما اللاحقــون بالإيمـان والإحسان كلّهم إلى يوم القيامة يدخلون ضِمْنَ الأمَّةِ، فمسلمو كلِّ عصر صاروا شهداء لله، وستكون كلمتهم المُتَّفَقَ عليها حجةً في الدين، فلا يُتَصَوَّرُ منهم أن يُجْمِعُوا على ضلال وعلى غيري هدى.
ولكن جماعةَ الصحابة – رضي الله عنهم – بما أنهم استضاؤوا مُبَاشَرَةً بمشكاة النبوة، وخُوطِبُوا بالوحي الإلهي مباشرةً، وقد شَهِدَ اللهُ عز وجلّ بنفسه برشدهم واهتدائهم، وصلاحهم وفلاحهم، ورسوخهم في العلم والدين، وتمسكهم بالتقوى والنزاهة من كلِّ مما يُكَدِّرُ صفوَ الدين، وشهد برضاه عنهم ورضاهم عنه؛ وشهد النبي صلى الله عليه وسلم بأنهم خير القرون – فإجماعهم لاشكّ أنه يمتاز عن إجماع من بعدهم، فيجب على المجتهدين اللاحقين اتِّبَاعُه، ومن خلال هذا الاتِّباع يصدق على الأمة أنها تتبع «ما أنا عليه وأصحابي» الذي قاله النبي صلى الله عليه وسلم؛ فيقول الإمام الزركشي الشافعي رحمه الله تعالى:
«إجماعُ الصحابة حجةٌ بلا خلاف بين القائلين بحجيّة الإجماع، وهم أحقّ الناس بذلك» (الزركشي: البحر المحيط، 6/114، المكتبة الشاملة).
ويقول فخر الإسلام البزدوي رحمه الله تعالى:
«فإجماعُ الصحابة مثلُ الآية والخبر المتواتر وإجماعُ من بعدهم بمنزلة المشهور من الحديث» (أصول البزدوي، باب الإجماع، 1/247، المكتبة الشاملة).
ونظرًا لأهميّة الإجماع اهْتَمَّ به سيّدنا عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – اهتماماً بالغاً، وقد سأل النبي صلى الله عليه وسلم بماذا سيعمل في قضايا مستجدة يسكت عنها الكتابُ والسنّةُ، فقال له صلى الله عليه وسلم:
«شَاوِرْ فيه الفقهاء العابدين» (مجمع الزوائد، 1/428، رقم الحديث: 834). وعملاً بهذا الأمر النبوي جَمَعَ – رضي الله عنه – الصحابةَ في عدد من الأمور المُخْتَلَف فيها فيما بينهم على رأي واحد، فجمعُ الأمّةِ على عشرين ركعة في صلاة التراويح، وعلى اعتبار الطلقات الثلاث في مجلس واحد طلقاتٍ ثلاثاً، وعلى تكبيرات صلاة الجنازة الأربع، وتقرير عقاب آخر غير قطع الأيدي والأرجل فيما إذا أقدم السارق على السّرقة مرة ثالثة، وإيجاب الغسل بالجماع بدون الإنزال، كلُّ ذلك وغيره يأتي ضِمْنَ إجماع الصحابة – رضي الله عنهم – على القضايا المختلف فيها، الذي انعقد بفضل مساعي سيدنا عمر – رضي الله عنه – وقد كانوا مختلفين في هذه القضايا اختلافاً شديدًا. وظلّت الأمةُ فيها من بعدهم – رضي الله عنهم – قائمةً على إجماعهم.
ومن المُؤْسِفِ للغاية أنّه أخيرًا عادت بعضُ الجماعات تُحَاوِلُ إحداث شرخٍ في هذا الإجماع هو الآخر – عصم الله الأمة من هذه الشرذمة القليلة.
وإنّ محاولة جمع الأمة على رأيٍ مُوَحَّد في الدين، التي قام بها سيدنا عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – تجلّت منها فوائد كثيرة كانت حصيلةً لـ«الإجماع»:
- فالإجماع جَمَعَ الأمةَ على رصيف واحد وجَنَّبَهُ الافتراقَ.
- في تلك المسائل التي اختلفت فيها آراءُ الصحابة وَجَمَعَهم عمر على رأي واحد، كان لدى كلٍّ منهم شواهدُ من الكتاب والسنة تُؤَيِّدُ رأيَ كلٍّ منهم حسب ما يرى، ومن خلال تبادل الآراء والنقاش، تَعَيَّنَتْ مكانةُ كلٍّ من الآراء، ثم الإجماع الذي حصل منهم أدَّىٰ إلى معرفة الناسخ والمنسوخ، والظنّيّ والقطعيّ، وما إلى ذلك.
- ربما حَدَثَ أنه لم يكن في مسئلة ما دليلٌ سوى دليل ظنِّيّ، فالإجماعُ حَوَّل الظنِّيَّ يَحْتَلُّ مكانةَ القطعيّ.
- ربما حَدَثَ الاختلافُ لاحتمالات عديدة في النصّ، فالإجماعُ أَقَرَّ الجميعَ على احتمال واحد، وعادت الاحتمالاتُ الأخرى لا عِبْرَةَ بها.
- وهناك فوائد كثيرة للإجماع لايمكن تفصيلها بهذه المناسبة المحدودة، ولاسيّما لأن هناك أفاضلَ من العلماء والمفكرين ورجال الدين والدعوة، سيتحدثون عن الموضوع من شتّى جوانبه، فنكتفي بهذا القدر من الحديث.
ونكرر شكرنا وتقديرنا للقائمين على المؤتمر، الذي يجدر بأن يُعْقَد أكثر من مرة، نظرًا لأهميته وحاجة الأمة إليه. وَفَّقَنَا الله جميعاً لما يحبه ويرضاه. وصلى الله وسلم على سيدنا ونبينا محمد بن عبد الله، وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.
أبو القاسم النعماني
رئيس الجامعة الإسلامية دارالعلوم / ديوبند
ديوبند ، يوبي ، الهند
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، رمضان – شوال 1434 هـ = يوليو – سبتمبر 2013م ، العدد : 9-10 ، السنة : 37