الأدب الإسلامي
بقلم : معالي الدكتور عبد العزيز عبد الله الخويطر
الرياض ، المملكة العربية السعودية
صلة الرحم من أبرز السمات التي امتاز بها الإِسلام ، والإِسلام يحرص عليها ، ويغليها ، ويعلق عليها أهمية كبرى في بناء المجتمع ، وازدياد قوته وبقائه وسعادته . وتبدأ صلة الرحم من أقرب الناس إلى الإِنسان ، إلى أبعد فرد في النسب .
وحث الإِسلام على المحافظة على صلة الرحم ، وبقائها قوية مراعاة ، حيّة في الأذهان ، مطبقة في الأعمال ، حتى لا ينحدر المسلم إلى الحضيض الذي انحدر إليه الغربي ، حتى أصبحت صلته بأقرب الناس إليه مثل صلة الحيوان بالآخر، فالأمومة والأبوة عندهم ، بعد سن معينة ، يبطل أثرها ، وتتلاشى قيمتها ، فالابن والبنت يدخلان معمعة الحياة ، ولا ينظران خلفهما ، لا في إعانة والديهما ، ولا في الاستعانة بهما . وهذا أوجد تفككاً في المجتمع ، وانتبارًا في الصلة بين أفراده ، إلاّ ما قل ، ممن اعتبر شاذًا ، وشذوذه جاء من أسباب منفردة غير منتظمة في مجتمعهم .
والإِسلام بضيائه الخيرّ الوهّاج حرص على صلة الرحم ، ولم يترك ركنًا من أركانها إلا أبان فضلهُ ، ولا زاوية من الزوايا إلا حبب المسلم إليها ، وقد جاء القرآن هاديًا إلى هذا ، وأبانت السنة المحمدية ما يحتاجه المسلم حتى يكون مقيمًا لهذا الركن الخيرّ في خلق المسلم ونفعه .
فالوالدان جعل لهما الدين المنزلة الأولىٰ في صلة الرحم ، ووضعهما على قمة الرعاية ، والعطف والحنان ، وجعل المسلم يبعد عن ما قد يشير إشارة عابرة أو سطحية ، إلى إهمال حقهما ، أو الإِخلال بما لهما من دين لا يمكن للأبناء وفاؤه للآباء .
وأبرز آية في حقهما الآية الكريمة الآتية : ﴿وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَٰلِدَيْنِ إِحْسَـٰـنًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَآ أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْ هُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيْمًا . وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيْرًا﴾(1)
وهذه التوصية الشاملة الدقيقة ، رسمت الصورة التي يجب أن يكون عليها المسلم تجاه والديه ، وقد أرشدت إلى وجوب الدعاء لهما مع المعاملة الحسنة ، وذكّرت بما عانيَاه من تربية الابن في الصغر، مما يحتاج إلى بذل مجهود عظيم ، لمقابلة هذا الفضل .
ومن الآيات التي تمثل النظرة إلى الأرحام الأبعد من الوالدين والبنين الآية الكريمة الآتية : ﴿وَأُوْلُوْا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَىٰ بِبَعْضٍ بِي كِتَـٰـبِ اللهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾(2)
وفي صحيح البخاري ما يشير إلى بعض أفراد الرحم ، وقد نُصَّ عليه ، حتى يُزال ما قد يكون هناك من لبس في أن الرحم لا يشمل إلاّ الأقربين :
«فيما رواه البخاري في باب «ابن أخت القوم ، ومولى القوم منهم»:
«ابن أخت القوم منهم».(3)
ويرسم الدين صورة واضحة منيرة لصلة الرحم وأهميتها ، يأتي بها مسلم في صحيحه في «كتاب البر والصلة والآداب» في «باب صلة الرحم وتحريم قطعها»:
«إن الله خلق الخلق ، حتى إذا فرغ منهم قامت الرحم فقالت :
هذا مقام العائذ بك من القطيعة .
قال : نعم ، أما ترضين أن أصل من وصلك ، وأقطع من قطعك .
قالت : بلى .
قال : فذاك لك».(4)
ثم قال رسول الله ﷺ :
«إقرؤا ، إن شئتم ﴿فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوْا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوآ أَرْحَامَكُمْ * أُوْلَـٰـئِكَ الَّذِيْنَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَىٰ أَبْصَـٰـرَهُمْ * أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْءَانَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَآ﴾.(5)
ويؤكد هذه الأهمية للرحم وهذا المعنى في وصلها أو في قطعها ، ما روته عائشة رضي الله عنها عن الرسول ﷺ أنه قال :
«الرحم معلقة بالعرش تقول :
«من وصلني وصله الله ، ومن قطعني قطعه الله».
وعن جبير بن مطعم قال :
«لا يدخل الجنة قاطع» . قال سفيان : «يعني قاطع رحم» .
ويتوالى التأكيد على صلة الرحم في الحديث ، فيروي أنس قال : سمعت رسول الله ﷺ يقول :
«من سره أن يبسط له في رزقه ، وينسأ له في أثره ، فليصل رحمه ، فليصل رحمه».
وورود هذا في الصحاح بهذه العبارات المتكررة المتتالية ، وبهذه المعاني الشريفة يُري الفرق بين المجتمع المسلم والمجتمعات التي لم يبرز في أديانها مثل هذا التأكيد الذي فيه سلامة بناء المجتمع ، وضمان سعادته، من جراء التلاحم بين الأقرباء ، وهو تلاحم لو تصورناه في الجانب العملي ، لوجدناه مثل شبكة الصياد متماسكاً ، يقف بعضه بجانب بعض ، بقوة تجعل الخير لايخرج من بين فتحاته .
واهتمام الأفراد في زمن الرسول ﷺ بهذا الجانب ، وحرصهم على ألاّ يفوتهم شيء من التعاليم التي تنزل وحيًا ، أو تأتي قولاً على لسان الرسول الكريم ، أو عملاً في فعله وتصرفه ، يجعلهم دائمًا يقظين ومتسائلين ومستفسرين عن هذه الجوانب ، حتى يأتوا بأكمل الصور لها ، وأتم الجوانب فيها :
أراد رجل أن يستزيد نورًا على نور في هذا الجانب ، فسأل رسول الله ﷺ ، كما يروي أبو هريرة :
«يارسول الله إن لي قرابة ، أصلهم ويقطعوني وأحسن إليهم ، ويسيؤون إليّ ، وأحلم عنهم ويجهلون علي .
فقال : لئن كنت كما قلت ، فكأنما تسقيهم الملّ (الرماد الحار) ، ولا يزال معك من الله عليهم مادمت على ذلك» .
والأحاديث كثيرة في هذا المجال ، وهي تري أهمية هذا الجانب في نظر الدين الإِسلامي ، وأنه ركن من أركان صلاح المجتمع ، وارتفاعه إلى مصاف المجتمعات السويّة ، ولا تكمل صورة المسلم إلا بمراعاة هذا الجانب المهم ؛ لأن فيه عطفَ الكبير على الصغير، والقادر على العاجز ، والغني على الفقير، وهذا رتق لأيّ فتق يحدث في العائلة أو العشيرة ، أو القبيلة أو المحيط السكني .
وفي الأدب حوادث يمر بها القاريء تؤدي إلى هذا الهدف ، وسهمها يتجه لهذا المرمى ، وسباقها في هذا المضمار ، وإلى قصب سبقه .
وابن عباس تجاوب مع إشارة عن أبعد صلة رحم يمكن أن تتصور ، وأبدى أهتمامه بها ، وأعطاها الثقل الذي تستحقه ، وبَيَّنَ الأساس الذي اعتمد عليه في هذا ، والمبدأ الذي حكمه ، وأعطى تعليلاً يجعل السامع لا يقتنع بأهمية صلة الرحم فقط ولكن يتحمس لها أيضًا :
«حدث إسحاق بن سعيد القرشي من ولد سعيد ابن العاص قال :
أخبرني أبي قال :
كنت عند ابن عباس ، فأتاه رجل ، فمتّ إليه برحم بعيدة ، فَلاَنَ له وقال :
قال رسول الله ﷺ :
«أعرفوا أنسابكم تصلوا أرحامكم ، فإنه لاقرب بالرحم إذا قطعت ، وإن كانت قريبة ، ولابعد بها إذا وصلت ، وإن كانت بعيدة».(6)
وابن عمر يتجاوب مع الفكر الإِسلامي الذي يحمي المجتمع من التفكك ، ويصون أجزاءه من التباعد ، لأن في التقارب والتجمع قوة ، والقوة هي بغية المجتمع المسلم ليحمي نفسه ، وليدفع خارج دائرته فكره ، ويشيع فيما حوله صفته ، التي يود أن تحترم ، ولا تهدد بخطر الاعتداء ، أو محاولة الإِضعاف.
ولأهمية صلة الرحم ، وقبول الناس لما يأتي عنها ، مقويًا لها وخادمًا ، يقبل ما يقال حتى لو كانت تشوبه شائبة النحل ، ويعتريه الشك ، والخبر الآتي له هذه الصفة ، ويحوم حوله الشك ، ولعل واضعه إن كان موضوعًا ، وهو ما نرجحه ، لمعت في ذهنه الفكرة البراقة فصاغها في هذا الإِطار :
«عن ابن سيرين قال :
قال عثمان : كان عمر يمنع أقرباءه ابتغاء وجه الله ، وأنا أعطي قــــراباتي لوجــــه الله ، ولن يرى مثل عمر».(7)
الذي يجعلنا نشك في هذا الخبر هو أن أمر اختصاص عثمان أقرباءه بالمناصب والعطايا كان من المآخذ التي يرددها المؤرخون ، وهي أمور لم تحقق ، ولكنهم يأتون بها مقدمة لما حدث من تذمر أدّى إلى قتله رحمه الله .
وعثمان خير من يعرف أن المناصب هي للكفء ، وأن أموال بيت المال للمستحق ، وإذا كان عمر رضي الله عنه قد راعى هذا فالمُتَصَوَّر أن عثمان يجد فيما فعل عمر مقنعًا بصحة العمل ؛ فلا يتجاوزه، إعتمادًا على جمل ترص ، أو كلمات براقة تقال : أما بر عثمان لأقربائه فيأتي من ماله الخاص ، ومما زاد في ضعف الخبر الجملة التي وردت في آخره : «ولن يُرى مثل عمر». وهنا نجد أنه حتى صانع الخبر اضطر أن يجد في عمل عمر ما يجب أن يكون قدوة ومثلاً يحتذى ؛ ولكن أهمية صلة الرحم ، وقبول أي قول يؤدي إليها ، شجع الراوي على رواية ما قد لا يكون عثمان رضي الله عنه قاله . وعلى كل حال هو قول يفيد الذين يتلمسون أسباب التذمر ، الذي نما في عهد عثمان .
ويبلغ الأمر في أهمية صلة الرحم ذروته – إن صحت الرواية – في القصة الآتية :
«دخل محمد بن الحنفية رضوان الله عليه على عبد الملك بن مروان ، فلما أراد أن يقوم وضع يده على فخذه ، فقال : ما هذا ؟
فقال : أردت أن أمسّك لتمسني منك رحم ، فأمر له بعشرة آلاف دينار».(8)
عمد محمد بن الحنفية إلى رمز لصلة الرحم ، وهو أقل شيء يمكن أن يبديه للخليفة الذي لا ينقصه شيء ، وقد سبقت له طاعة محمد ، وقدر عبد الملك هذه اللفتة ، فكافأه عليها بمبلغ سخي .
وبرّ الوالدين من أسمى جوانب صلة الرحم ، ويتفنن البارون بآبائهم في هذا ، ويأتون بما يدهش ، ومن بين القصص التي تروى في هذا المجال القصة الآتية :
«قيل لعمر بن ذرّ :
كيف برّ ابنك بك ؟
قال : ما مشيت نهارًا قط إلا مشى خلفي ، ولا ليلاً إلا مشى أمامي ، ولا رقى سطحًا وأنا تحته».(9)
إن هذا الابن حرص على أن يجمع في بره بوالده جانبي الأمر ، فقد راعى دفع الضرر في حمايته لوالده بالسير أمامه عندما يكون هذا هو الأصلح ، والسير خلفه عندما يكون ذلك هو الأفضل . وأكد يقظته لهذا البر وحرصه عليه ، عندما راعى الرمز لهذا ، فالسطح يعلو المكان الذي فيه والده ، وهو لا يريد أن يكون فوق والده .
ولم يَضِع هذا العمل الخيرّ ، وما يكمن خلفه من نية صادقة سليمة نبيلة ، فقد لاحظ والده هذا ، فهو عن عمله راض ، ومادام ذلك كذلك فلابد أنه دعا له ، وسأل الله أن يجازيه على إحسانه في بره ، وحرصه على صلة رحمه الأقرب .
والدين الإِسلامي أعطى الأمور الرئيسة في صلة الرحم أهمية في إرشاد الناس إلى ما يميّزهم عن المجتمعات ، التي لم تهتم بهذه الجوانب ، وبر الوالدين كما سبق أن قلنا يَقْدُم التعليمات في هذا المجال ، فالقرآن يؤكد على الإِحسان إلى الوالدين ، لأنهما أهل لذلك بسبب ما سبق من إحسانهما إلى ابنهما أو ابنتهما ، حتى وصلاهما إلى بر الأمان ، وأصبحا قادرين على مقابلة الحياة ، فهما الآن في قوة بعد ضَعف ، وآن لهما أن يردا الجميل إلى من كان في حال ضعف بعد قوة ؛ فيقول الله سبحانه وتعالى في إحدى الآيات : ﴿وَاعْبُدُوْا اللهَ وَلاَ تُشْرِكُوْا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَٰلِدَيْنِ إِحْسَـٰـنًا﴾(10)
ولأهمية الإِحسان إليهما قرنه بعبادته سبحانه وتعالى وجاء به مع آية التوحيد ، رمزًا لمقامهما وشرفه .
وفي آية أخرى أعاد الأشارة ، وأعطى الأهمية نفسها ، فقال سبحانه وتعالى : ﴿وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَٰلِدَيْنِ إِحْسَـٰـنًا﴾(11)
وهذا التكرار بهذه الصورة المتقاربة لم يأت عبثًا، بل قصد قصدًا كريمًا ، حتى لا ينظر إلى الأمر على أنه عابر ؛ وإنما يتأكد أنه مقصود ، وأن الأخذ به معه الأجر ، وتجنب الأخذ به فيه الإِثم ، ويمكن أن يتصور الأجر والإِثم من مجاورة الإِحسان لعبادة الله وحده في آية واحدة .
ولأهمية الأولاد والأرحام عند المسلمين ، ولما يتوقع من المسلم ، المحافظ على تعاليم دينه ، أن يرعى الصلة بهؤلاء جعل الله سبحانه هول الموقف في القيامة مقرونًا بالحرمان من نفع هؤلاء للإِنسان في ذلك اليوم ، فقال سبحانه وتعالى : ﴿لَن تَنفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلآ أَوْلَـٰـدُكُمْ يَوْمَ الْقِيَـٰـمَةِ﴾(12)
وأشار إلى الرحم في آية أخرى ، وأهميتها فقال سبحانه وتعالى : ﴿فَأَرَدْنَآ أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِّنْهُ زَكَوٰةً وَأقْرَبَ رُحْمًا﴾(13)
ونعود إلى الوالدين وهما أقرب رحم ، وننظر إلى عمل أحد النساك ، وقد طبّق ماسمع عن البر بهما:
«كان رجل من النساك يُقبّل كل يوم قدم أمه ، فأبطأ يومًا على إخوانه ، فسألوه فقال :
كنت أتمرغ في رياض الجنة ، فقد بلغنا أن الجنة تحت أقدام الأمهات».(14)
والشريف من الناس لا يؤدي أعمال البر هذه على أنها واجب مفروض عليه في الدين ، ولكنه يؤديه للذة يجدها في رد معروف منهما سابق ، ودين طوقا به عنقه ، ويشعر بالغبطة أن الله مكنه من أن يفي بدينه ويزيد :
«طلب بعضهم من ولده أن يسقيه ماء ، فلما أتاه نام أبوه ، فمازال الولد واقفًا بالشربة في يده إلى الصباح ، حتى استيقظ أبوه من منامه».(15)
هنَا زاد الابن عن الواجب المحدد للبرّ ، فرجح ميزان دفع الدين ، ليستجلب اللذة التي يشعر بها الممتن ، إذا أعطى لصاحب المنّة حقه ، وسبقه بالمنة قد لا يغطيه مثل هذه الزيادة ، فالمتفضل يبقى متفضلاً بالسبق ، ويبقى صاحب اليد الطولى والعليا.
ولما ظن رجل أنه أدى بعض ما لأُمِّهِ عليه ببرٍّ قَدَّمه لها ، نبهه أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه بأنه لم يؤدِّ لها إلا القليل ، ونبهه إلى شيء غفل عنه :
«قال رجل لعمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه إن لي أُمًّا بلغ منها الكبر إنها لا تقضي حاجتها إلا وظهري لها مطية ، فهل أدّيت حقها ؟
قال : لا : لأنها كانت تصنع بك ذلك ، وهي تتمنى بقاءك ، وأنت تصنعه ، وتتمنى فراقها».(16)
كان هذا الابن البار توهّم أنه كافأ أمّه على عملها معه بما يحقق سداد الدين ورد الجميل ، إلا أن عمر كشف له غطاء إناء فوجئ بما فيه ؛ ولقد غاص عمر رضي الله عنه إلى عمق النفس البشرية فاستخرج منْها ما لم يكن صاحبها يــدري عنه . أجل كان يؤمــل أن يستريح من هــذا العبء الثقيل ، وما راحتــه إلا بموت أمه ؛ كان يؤمل أن يتحمل ويتجمل ، ويعرف أن لاستمرار هذا زمن محدد ، وفرحته في قرب نهايته ؛ أما أمه وهي تحمله ، فكانت تؤمل في أن تطول أيــامــه وتبقى ، ناسية التعب والعناء ، وليس أمامها إلا هو : سلامته وصحته ، وسعادته وهناؤه .
هذا بعض ما يمكن أن يقال عن الوالدين والقصص عن ذلك في التراث كثيرة ، وننتقل إلى قول لعمر بن الخطاب رضي الله عنه يبين أهمية معرفة الأَنساب ، لأنها تؤدي إلى حسن صلة الرحم :
«قال عمر رضي الله عنه :
تعلموا أنسابكم تعرفوا بها أصولكم ، فتصلوا بها أرحامكم».(17)
وكأن عمر يقول : إن الاهتمام بالأنساب ومعرفتها هو من أجل فضيلة صلة الرحم ، وأهمية ذلك تأتي في أنه إذا كان هناك ضرر من تمسك القبائل بأنسابها ، وتطاحنها وتشاحنها في ذلك ، وهو ما عانى منه قادة المسلمين أيام الفتوح بعض المعاناة ، فإن هجر هذا يؤدي إلى إهدار صلة الرحم ، ولهذا يصبر على هذا لما فيه من فائدة ، تغطي على ما قد يأتي منه من ضرر ، يسببه بعض من لم يفكر في عواقبه .
ونعطر حديثنا ببعض ما ورد في القرآن الكريم من آيات عن الرحم ، وصلته وأهمية الأرحام ، وفي الآية الآتية ما يوحى بأهمية الرحم لما قرنت به :
قال الله تعالى : ﴿وَاتَّقُوْا اللّهَ الَّذِيْ تَسَآءَلُوْنَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيْبًا﴾(18)
وقال تعالى: ﴿وَأُوْلُوْا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَىٰ بِبَعْضٍ فِي كِتَـٰـبِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيْمٌ﴾.(19)
وقال تعالى : ﴿وَأُوْلُوْا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَىٰ بِبَعْضٍ فِي كِتَـٰـبِ اللَّهِ﴾(20)
هذا قول الكتاب الذي لا يأتيه الباطل ، وهو هدي المسلمين ، وشريعة مجتمعهم ، وإرشادُ نَادِيهم ، به يقتدون ، وعلى نهجه يسيرون ؛ لايحتاجون معه إلى بديل ، ولا يتطلعون إلى آخر، فيه كل ما يريدون، وبه ما إليه يطمحون ؛ فهل يوجد في أي مجتمع آخر مثل هذا الاهتمام بالأقرباء : من الوالدين إلى أبعد من يشمله النسب .
إن بعض المجتمعات تورث الكلاب والقطط ، وتحرم الأقربين مع حاجتهم ، والحنق والحقـــد من هذا عندهم يسري ويتضاعف ، هذا يَحِرم ؛ لأنه غاضب ، وهذا يُحْرَم ؛ لأنه مغضوب عليه ، وهكذا يتسلل الأمر ، ويسيــر في المجتمع سيلاً جارفًا من الحقد والحسد ، والغضب والتربص ، وإعمال المكائد ، يضاف إلى هذا ضرائب التركات التي قد لا تبقي للوارث إلا النزر القليل . ومن قارن هذا بما في المواريث الإِسلامية ، وما يأتي منها ، عرف الفرق بين دين الله ، الذي أنزله من السماء ، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، ودين الأرض الذي كله باطل ، يتغير بتغير الأشخاص ، ويتلون بتلون الأحزاب ، ويبعد ويقترب حسب المذاهب العقلية والأهواء الاقتصادية .
* * *
الهوامش :
- سورة الإسراء ، الآية : 23 ، 24 .
- سورة الأنفال ، الآية : 75 .
- 4/158 .
- صحيح مسلم : 4/1940 .
- سورة محمد ، الآية : 22-25 .
- عيون الأخبار : 3/96 .
- عيون الأخبار : 3/97 .
- البصائر : 1137 .
- عيون الأخبار : 3/111 .
- سورة النساء ، الآية : 36 .
- سورة الإسراء ، الآية : 23 .
- سورة الممتحنة ، الآية : 3 .
- سورة الكهف ، الآية : 81 .
- المستطرف : 2/20 .
- الكشكول : 2/20 .
- المستطرف : 2/20 .
- المستطرف : 2/26 .
- سورة النساء ، الآية : 1.
- سورة الأنفال ، الآية : 75 .
- سورة الأحزاب ، الآية : 6 .
* * *
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، الهند . ربيع الأول – ربيع الثاني 1426هـ = أبريل – يونيو 2005م ، العـدد : 4–3 ، السنـة : 29.