دراسات إسلامية
بقلم : الأستاذ صلاح عبد الستار محمد الشهاوي (*)
* كتاب أسطورة التجسيد:
منذ فترة أرسل إلي أحد الأصدقاء المقيمين في فرنسا كتاباً اشتراه من مكتبات الكتب المستعملة في باريس- أي ما يوافق سور الأزبكية في القاهرة- لِما يعلمه أني من هواة اقتناء هذا النوع من الكتب القديمة، خاصةً عندما أبلغة البائع أن هذا الكتاب أثار ضجةً كبيرةً في الرأي العام في أوروبا والعالم لأنه يقيم البراهين على أن عيسى بن مريم – عليه السلام – ليس ابن الرب وإنما هو بشر، كبقية البشر، ولكن الله عز وجل كرّمه وميّزه عنهم. اسم الكتاب بالإنجليزية.(The Myth of God Incarnation) (أسطورة التجسيد) مؤلفو الكتاب سبعة من علماء اللاهوت في إنجلترا، من أبرزهم – موريس وايلس- Maurice Wiles- الأستاذ بجامعة أكسفورد، وزميله مستر – دنيس ناينهام- Dennis Nineham – و – فرنسيس يونغ – Francis Young – العالمة البريطانية في اللاهوت. وقد نفدت نسخ هذا الكتاب كلها قبل أن يصل إلى المكتبات في الأسواق – حسب مقدمة الطبعة الثانية- 1981م- الواردة في الصفحات الأولى من هذا الكتاب- ولقد استعان هؤلاء العلماء في تأييد نظريتهم بالبحوث العصرية التي تناولت محتويات الأناجيل، فقد ثبت لعدد كبير من الخبراء والعلماء أن السيد المسيح لم يقل، في حياته ،أبداً، إنه الرب أو ابن الرب، وهذا اللقب وغيره من الألقاب مثل: – المسيح- و – ابن البشر- و – ابن داود – إنما أضفيت عليه من قبل أنصاره وأتباعه الذين أرادوا بهذه اللغة الشعرية والميثولجية، أن يفسروا كم كان هذا الإنسان خارقاً وفوق العادة وخصوصاً كم كان تأثيره كبيراً على الآخرين!
فقد كتبت العالمة البريطانية في اللاهوت – فرنسيس يونغ Francis Young- في هذا الكتاب تقول:
(إن القديس بولس لا يُسمي في أي موضوع شخص عيسى بن مريم – عليه السلام- بالرب، ولا يجعله قط مساوياً للرب! ولكن علماء اللاهوت أدخلوا عبارة «عيسى يعادل الرب» على رسائل القديس بولس. إن الألقاب التي أطلقها النصارى الأوائل على عيسى بن مريم، عليه السلام – ليست ابتكاراً ابتكروه، وإنما اقتبست من الحضارات اليهودية واليونانية والرومانية، في ذلك العصر! ذلك أن العالم الوثني لم يكن يستنكر: «أن يأخذ الرب شكل إنسان»! بل أن المثقفين منهم كانوا يعتقدون أن إسكندر الكبير المقدوني، وكذلك أباطرة الرومان ينحدرون من سلالة إلهية!! ولكن.. ما يبدو مقبولاً وطبيعياً ومسلماً به في تلك الحضارات وفي تلك الأزمان لم يعد مُسلّماً له في عالم القرن العشرين، ولذلك يزعم مؤلفو هذا الكتاب أن اتخاذ الرب شكل إنسان، بكل ما في الكلمة من معنى، يبدو الآن لمعظم معاصرينا غير معقول ولا مقبول!)
إن مؤلفي هذا الكتاب يأملون أن يحرروا الحديث عن الله – عز وجل- وعن السيد عيسى بن مريم – عليه السلام- من التعقيد.. ويحملوا الناس على الإيمان بالله الواحد كما كان الشأن في فجر التاريخ المسيحي.
وهذا الجدل حول طبيعة السيد المسيح ليس جديداً، ففي العام الثالث والعشرين بعد الثلاثمائة للميلاد دعا القيصر الروماني قسطنطين مجمعاً كنسياً في بلدة نيقية – نيسيا- بآسيا الصغرى، على إنها الخلاف المرير الناشب بين الأساقفة وعلماء اللاهوت حول شخصية السيد المسيح، فاتفقت كثرة المشتركين في المجمع على أن السيد المسيح – رب- و – إنسان- معاً.. ولم يكن ذلك أمراً مقرراً من قبل.
* وصية الشاعر القروي:
وصادف أن طالعت وصية الشاعر القروي – رشيد سليم الخورى – والذي لا يجهل أحد من المثقفين العرب اسمه ،فهو من أكبر شعراء لبنان في المهحر، ومن الذين جاهدوا بشعرهم جهاد الأبطال في ساحات القتال، حاملاً لواء العروبة، ومكافحاً أعدائها، ومبشراً بأمجادها وداعياً إلى وحدتها ونهضتها وعزتها.
وكان القروي – أرثوذكسي المذهب، ومع ذلك فقد ذكر في وصية كتبها قبل رحيله بسنوات قليلة، أنه يتنازل عن أرثوذكسيته ليعتنق نحلة دينية كانت سائدة في القرون الأولى للنصرانية اسمها – الأريوسية- وذلك لسبب جوهري، هو أن تصوّرها لشخصية المسيح مماثل لتصور القرآن له. بحسب الأريوسية المسيح نبي من أنبياء الله وليس شيئاً آخر. كما ذكر القروي في وصيته تلك أنه يرغب في أن يصلي على جثمانه بعد موته، راهب نصراني ورجل دين مسلم، وذلك لتأكيد توزعه بين الديانتين معاً.
ويذكر الأستاذ – جهاد فاضل – في مقال له، أنه جلس يوماً بعد وفاة القروي مع نفر من أصدقاءه ومحبيه فسمع من أحد الكهنة – الأرثوذكسيسين – حديثاً قد يستغربه البعض، وقد لا يصدّقه. قال هذا الكاهن، وهو من منطقة البترون بشمال لبنان، أنه كان صديقاً حميما للقروي الذي كان يقصده، بين وقت وآخر، من اجل أن يرتّل عليه هذا الكاهن، الحسن الصوت، ما تيسر من آيات القرآن. أي أن شاعراً مسيحياً يقصد راهباً مسيحياً لكي يرتل له آيات من الذكر الحكيم.
* نص وصية الشاعر القروي:
«تذكر المراجع التاريخية المتعددة أن الكنيسة ظلت حتى القرن الرابع الميلادي تعبد الله على أنه الواحد الأحد، وأن يسوع المسيح عبده ورسوله، حتى تنصر قسطنطين عاهل الروم وتبعه خلق كثير من رعاياه الرومان واليونان الوثنيين فأدخلوا بدعة التثليث، وجعلوا لله- سبحانه وتعالى – أنداداً وشاركوه في خلق السماوات والأرض وتدبير الأكوان، ومالأهم الأسقف الأنطاكي مكاريوس ملقباً نفسه الأرثوذكسي مستقيم الرأي، فثار زميله – آريوس- على هذه البدعة ومؤيديها ثورة عنيفة، فانشطرت الكنيسة، واتسع نطاق الجدل حتى أدى إلى الاقتتال وسفك الدماء، فعقدت المجامع للحوار وفاز آريوس بالحجة القاطعة فوزاً مبيناً، وأقيمت له مهرجانات التهنئة والتكريم في إنطاكية والإسكندرية ولكن انحياز السلطة بقوتها وإرهابها وبطشها أسكت صوت الحق، واستمرت الكنيسة ستة عشر قرناً إلى اليوم عامهة في ضلالها الوثني، تنتظر مجيء أريوس جديد، وكم أتمني وأنا أرثوذكسي المولد، أن يكون الآريوس حبراً أرثوذكسياً عظيماً ليصلح ما أفسده سلفه القديم، ويمحو عنا خطيئة أوقعها فينا غرباء غربيون، ولطالما كان الغرب ولا يزال مصدراً لمعظم بلايانا في السياسة وفي الدين على السواء، لقد كان في نيتي إعجاباً مني بالقرآن، وإيمانا مني بصدق نبينا العربي ووضوح سيرته، أن أكون قدوة لإخواني أدباء النصرانية، فأدخل في دين الله ، ولكنني بدا لي أن الدعوة إلى تصحيحنا خطأ طارئاً على ديننا تكون أكثر قبولاً وشمولاً من الدعوة إلى عدولنا عنه على سواه. فقررت أن تكون لي الخطوة الأولى في هذا السبيل: إيقاظ الآريوسية الموحدة من نومها الطويل ليعود الحق إلى نصابهن وتزول العقبة الوحيدة المفتعلة الفاصلة بين الدينين، ونغدوا بعدها إخواناً على سرر متقابلين، فيتيسر لنا تحقيق وحدتنا الكبرى، وبعث حضارتنا الأخلاقية التي طالما ملأت دنيا الناس عدلاً وسلاًما، أما خطوتي المبتكرة المشار إليها فهي أني أذيع على الملأ عزوفي عن أرثوذكسيتي المكاريوسية إلى الأرثوذكسية الاريوسية، وأطلب في وصيتي هذه أن يصلى على جثماني شيخ وكاهن فيقتصران على تلاوة الفاتحة والصلاة الربانية لا أكثر ولا أقل ثم أوارى الثرى في بقعة طيبة حددتها قرب منزلي وينصب على قبري شاهد خشبي متين وبسيط في رأسه صليب وهلال متعانقين رمز الوحدة التي جاهدت في سبيلها طول حياتي، هذه وصيتي التي أريد تنفيذها بعد وفاتي وأصب لعنتي على من يخالفها، ورحم الله حياً وميتاً كل من يذكرني بالخير ويترحم عليّ.. رشيد سليم الخوري تموز (يوليو) 1977م».
* وفي نفس السياق طالعت بجريدة القاهرة المصرية هذا الخبر:
في الأول من أغسطس 2009م أعلنت المكتبة الوطنية للملكة المتحدة أنها قامت بتحميل أقدم نسخة مكتوبة من الإنجيل، المعروفة باسم (مخطوطات سيناء) على الإنترنت، المخطوطة التي يزيد عمرها على 1600عام، كانت قد اكتشفت في دير سانت كاثرين عام 1844م وتحتوي على نصين غير واردين في نصوص العهد الجديد وهما رسالة برنابا ورسالة راعى هيرماس، تختلف هذه النسخة عن نسخ العهد الجديد المعروفة إذ تأتي في ترتيب مختلف، وتتضمن العديد من التصويبات بخط اليد، القائم علي المشروع علق بأنه لا ينبغي أن يكون ذلك مفاجأة ،فالنصوص القديمة ليست مماثلة تماماً للحديثة، لأن الكتاب المقدس تغير على مر السنين. (جريدة القاهرة، العدد 485 الثلاثاء 11 أغسطس 2009م تراث ومخطوطات ص 21).
* والحقيقة إن الانحراف بالأديان هو الذي يسبب الصراع بين معتنقيها و لو سارت الأديان سيرها الطبيعي كرسالات من عند الله دون تحريف لالتقت جميعاً في أهدافها وفي كثير من وسائلها ونحن نعتقد أن العقيدة الصحيحة معروفة لكثيرين من قادة الأديان ولكن الانحراف وحب الدنيا وزينتها يزينان الباطل ويدفعان لتأييد الانحراف قال تعالى: «قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّىَ تُقِيمُواْ التَّوْرَاةَ وَالإنجيل وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ» (المائدة: 68) فالتوراة ألحقه وما فيها من شرائع والإنجيل الحق وما فيه من شرائع لابد أن يتفقا مع خاتم الكتب السماوية -القران الكريم- بعد أن يتفقا معاً. لأن القرآن جاء مصدقاً للتوراة والإنجيل وما فيهما من شرائع.
والقرآن الكريم هو آخر الكتب المقدسة التي أنزلها الله إلى البشر ولقد مضى حتى الآن أكثر من أربعة عشر قرناً من الزمان على نزول القرآن الكريم على نبي الإسلام صلى الله عليه وسلم ولا يستطيع أحد أن يزعم أن أي كتاب سماوي قد أنزله الله على أحد من البشر بعد نزول القرآن الكريم فمن البديهي أن محتوى أي وحي مدعي سيكشف على الفور ما إذا كان ذلك الوحي صحيحاً أم كاذباً ولذلك لم يحدث إطلاقاً أن رئينا أي كتاب سماوي بحق بعد القرآن الكريم ولا يعقل أن يدعي أحد مجرد إدعاء نظري أنه يستطيع أن يأتي بكتاب مثل القرآن الكريم إذ ليست العبرة بالادعاء ولكن العبرة بالفعل ولم يمضي مثل هذا الزمان الطويل على نزول كتاب سماوي حتى كان الله سبحانه وتعالى قد أنزل غيره على نبي آخر حتى جاء الإسلام خاتماً للرسالات السماوية فلم ينزل أي كتاب مقدس بحق بعد القرآن الكريم دون ريب أو مراء(1).
هذا عن القرآن فماذا عن الإنجيل؟…
* معني كلمة إنجيل gospel.
كلمة يونانية معناها ( الحلوان ) وهو ما تعطيه من أتاك ببشري ثم أريد به البشري عينها- الخبر السعيد أو البشارة – أما السيد المسيح فقد استعملها بمعنى «بشرى الخلاص» التي حملها للبشر و استعملت أيضا بمعنى ملخص تعاليم المسيح لأن فيها الخلاص أو سيرة المسيح – حياته وموته . لأن في هذه السيرة معنى الخلاص أيضا وما لبثت هذه الكلمة أن استعملت بمعنى الكتاب الذي يتضمن هذه البشرى وقد غلب استعمالها بهذا المعنى منذ أواخر القرن الأول الميلادي حتى اليوم(2).
و تاريخ كتابة هذه الأناجيل متأخر عن عصر المسيح – عليه السلام – وتاريخ رفعه، ولذلك، فهي تتحدث عن أحداث سابقة على تاريخ كتابتها، ومن ثم فهي فاقدة لشروط الشهادة على هذه الأحداث، فأقدم هذه الأناجيل – كما تذكر ذلك (الموسوعة البريطانية المجلد الثاني ص 953 – 955) – وهو إنجيل مرقس – كتب ما بين سنة 65م وسنة 70م – أي بعد ثلاثين عاماً من رفع المسيح – عليه السلام ـ وإنجيل متى كتب ما بين سنة 70م وسنة 80م، وإنجيل لوقا كتب سنة 80م، أما إنجيل يوحنا فكتب في نهاية القرن الميلادي الأول، أي سنة 100م.
وكما يقول الأسقف – بابياس- المتوفى سنة 130م – أي المعاصر لكتبة هذه الأناجيل: «إن مرقس الذي كان ترجماناً لبطرس، قد كتب القدر الكافي من الدقة، التي سمحت بها ذاكرته ما قيل عن أعمال يسوع وأقواله، ولكن دون مراعاة للنظام، لأن مرقس لم يكن قد سمع يسوع، ولا كان تابعاً شخصياً له، لكنه في مرحلة متأخرة قد تبع بطرس».(3).
في هذا النص الخطير للأسقف – بابياس- تصريح بأن مرقس قد كتب – ما سمحت به ذاكرته،- ودون مراعاة للنظام- الأمر الذي ينفي نفياُ قاطعاً عن هذه النصوص النصرانية صفة الوحي الإلهي. فالكاتب قد كتب ما سمحت به ذاكرته البشرية. والافتقار إلى النظام فيما كتب شاهد على أننا أمام – ذكريات بشرية- أو في أحسن الأحوال مجرد – مذكرات-.
ولذلك، كان غريباً أن يصف – مؤلف- كتاب (المسيح في الإسلام) هذه النصوص بوصف – التواتر-فضلاً عن أن توصف بأنها وحي الله؟!
ثم كيف ينتفي التحريف اللفظي عن هذه النصوص، وهناك مغايرة بين اللغة التي كان يعظ بها المسيح – أي لغة الإنجيل الذي جاء به وهي اللغة الآرامية – وبين اللغة الإغريقية التي كتبت بها النسخ الأصلية لهذه الأناجيل؟! الأمر الذي جعل الأب – كانينجسر R.P. Kannengiesser – الأستاذ بالمعهد الكاثوليكي بباريس يقول: «لا يجب الأخذ بحرفية الأناجيل. حفظوا منها نصيباً، و حرفوا النصيب الذي أوتوه. و أعطوا عيسى الإنجيل، وقالوا في أتباعه مثل ما قالوا في اليهود:فهي كتابات ظرفية خصامية، حرر مؤلفوها تراث جماعاتهم المسيحية».
كما كتب مؤلفو كتاب (الترجمة المسكونية للعهد الجديد) وهم أكثر من مائة متخصص من الكاثوليك والبروتستانت – فقالوا: «لقد جمع المبشرون وحرروا، كل حسب وجهة نظره الخاصة، ما أعطاهم إياه التراث الشفهي».(4).
ولا يوجد – التواتر- في الشهادة على وقائع محاكمات المسيح وقتله وصلبه، إذا كان متَّى يذكر في إنجيله إن جميع تلاميذ المسيح قد هربوا عند القبض عليه؟! – حينئذ تركه التلاميذ كلهم وهربوا-. (متى 5626).
فعن من تم النقل والشهادة، فضلاً عن التواتر المزعوم؟!
ولذلك، صدق الدكتور- موريس بوكاي – عندما قال – إننا لا نملك أيّة شهادة لشاهد عيان لحياة المسيح، وهذا خلافاً لما يتصوره كثير من المسيحيين-(5).
ثم أين هذا التواتر المزعوم، وقد فقدت الأصول الأولى لكل الأناجيل المشهورة والمعتمدة، وأقدم المخطوطات لهذه الأناجيل الحالية يفصل بينها وبين عهد المسيح وعصر من نسبت إليهم ما يقرب من ثلثمائة عام – وبشهادة الموسوعة البريطانية – المجلد الثاني ص941: «فإن جميع النسخ الأصلية للعهد الجديد التي كتبت بأيدي مؤلفيها الأصليين قد اختفت. وإن هناك فاصلاً زمنياً لا يقل عن مائتين أو ثلثمائة سنة بين أحداث العهد الجديد وتاريخ كتابة مخطوطاته الموجودة حالياً»(6).
فضلاً عن فقد المخطوطات الأصلية واختفائها – مخطوطات الأناجيل – ووجود فجوة زمنية تبلغ مئات السنين بين أصولها الأولى وبين المخطوطات التي أُخذت عنها هذه الأناجيل الحالية، فإن هناك أكثر من مائة وخمسين ألفا (150,000) من مواضع الاختلاف بين المخطوطات التي طبعت منها الأناجيل المتداولة الآن!! وهذه الاختلافات ليست بين مخطوطات الأناجيل المختلفة فقط، بل وفي مخطوطات الإنجيل الواحد!، وبنص عبارة الموسوعة البريطانية – المجلد الثاني ص941- فإن جميع نسخ الكتاب المقدس قبل عصر الطباعة تظهر اختلافات في النصوص، وإن مقتبسات آباء الكنيسة من كتب العهد الجديد، والتي تغطيه تقريباً، تظهر أكثر من مائة وخمسين ألفاً من الاختلافات بين النصوص(7).
* أناجيل مهمة أبيدت:
كان هناك أناجيل متعددة تتكلم عن حياة المسيح ودعوته منها إنجيل عيسى عليه السلام نفسه وقد ورد ذكره في إنجيل مرقص «الإصحاح الأول الفقرة 14» وفي رسالة بولس إلى أهل روميه. ومن الأناجيل إنجيل السبعين وإنجيل التذكرة وغيرها من الأناجيل الكثيرة كما كان هناك أناجيل ورسائل فنيت في عهد الاضطهادات الأولى التي عانتها المسيحية ولكن بقى جزء كبير من الأناجيل و الرسائل أخفاه ذووه ثم أظهروه عندما غلبت المسيحية أعدائها فقدموه إلى الكنيسة التي قررت مصير هذه الأناجيل(8).
ومن المعروف أن الأناجيل الأربعة المعروفة الآن «العهد الجديد» هي إنجيل متى، إنجيل لوقا، إنجيل مرقص، إنجيل يوحنا، لم تكن في عداد الكتب المقدسة للمسيحية قبل عام 325م أي في القرن الرابع الميلادي حيث تم انتخاب الأناجيل الأربعة من أكثر من أربعين إنجيلاً وتم انتخاب الرسائل الإحدى والعشرين من رسائل لا تُعد ولا تُحصى وصودق عليها(9).
* كيف حادت المسيحية عن الصواب؟
المسيحية أحد الأديان السماوية صحيحها التوحيد الذي أقر به عيسى ومن بعده الحواريين حتى ادعى بولس – أن السيد المسيح بعد نهايته على الأرض – ظهر له وصاح فيه وهو في طريقة إلى دمشق: لماذا تضطهدني فخاف بولس وصرخ من أنت يا سيد؟ قال أنا يسوع الذي تضطهده قال بولس ماذا تريد أن افعل؟ قال يسوع قم وكرز بالمسيحية(10).
وفي إنجيل لوقا: «أن بولس جعل يكرز في المجامع بالمسيح أنه أبن الله – لوقا- 3009:30»(11).
وقد عارض الحواريون بولس وتلميذه يوحنا الذي تبعه في الادعاء بألوهية المسيح معارضةً شديدةً. وهكذا لم تجد أفكار بولس أرضاً خصبةً في الشرق فلما عبرت هذه الأفكار إلى أوربا وجدت أرضاً خصبةً. فالتثليث ونزول الإله من السماء تضحية بنفسه تكفير عن خطيئة البشر وصعوده إلى السماء مرة أخرى كل هذا كان له جذور قديمه في الأساطير الأوربية ولم يكن التوحيد عميق الجذور بأوربا(12).
ومر الزمان جيلاً بعد جيل والمذهبان يعيشان ففي الشرق تعيش المسيحية التي جاء بها عيسى ويعتنقها علماء المسيحية وغيرهم. وفي أوربا تعيش أراء بولس حتى جاء القرن الرابع الميلادي وجاء عهد قسطنطين (توفى سنة 337م) الذي أصدر سنة 313م قانون التسامح وأراد أن يضع حدًا حول حقيقة المسيح فدعا لمؤتمر – نيقية – سنة 325م وحضرة جميع علماء المسيحيين ومعهم الأسانيد والأناجيل التي يستندون عليها في معتقداتهم وكان عدد الحاضرين 2048 عالماً مسيحياً. وقد أتضح من أول لحظة أن الجمهرة العظمى من الحاضرين تدين بالمسيحية الحقيقية وكان معهم من الأناجيل ما يعضد آرائهم ولكن حاشية الإمبراطور قسطنطين وهي أوربية لم تكن تعرف من المسيحية إلا تلك المعلومات السائدة في أوربا والتي كانت من تراث بولس فعدوا ذلك انحرافاً وأثاروا الإمبراطور فأصدر أمرًا بإخراج الرؤساء الروحانيين الموحدين ونفى الكثيرين منهم وقتل العام المصري – أريوس – الذي كان يتخذ التوحيد عقيدةً له. ثم أمر قسطنطين بعقد المؤتمر من جديد فحضر الأعضاء الذين يعتنقون مذهب بولس أو الخائفون أو المترددون وكان عددهم 318 وأتخذ هؤلاء قرارًا بألوهية المسيح وكان هذا أساساً للمعتقدات الأخرى التي قال بها بولس واتخذ المؤتمر كذلك قرار بتدمير كل الوثائق التي تخالف هذا الرأي وإنزال العقوبات الشديدة بمن يخفي مثل تلك الوثائق وانتخبوا الأربعة أناجيل المعروفة من بين أكثر من أربعين إنجيلاً.(13).
* كيف وصل إلينا إنجيل برنابا؟
يذكر التاريخ أمر أصدره البابا جلاسيوس الأول الذي جلس على الأريكة البابوية سنة 492م يعدد فيه أسماء الكتب المنهي عن مطالعتها وفي عدادها كتاب يسمى إنجيل برنابا(14).
وهكذا اختفت الأناجيل وضاعت نسخها ولم يبق منها إلا هذه النسخة التي وصلت إلي بر السلامة ، حينما أخذت مكانها في مكتبة البابا نفسه وقد احترقت وفنيت نسخ هذا الإنجيل كلها وسلمت هذه النسخة من ظلام العصور الوسطى وبهذا استطاعت هذه النسخة الفريدة من إنجيل برنابا أن تحيى ما أوشك أن يندثر من معالم هذا الإنجيل(15).
وصلت هذه النسخة من الإنجيل إلى مكتبة البابا – سكتس الخامس – بروما واختفت من المكتبة حوالي القرن السادس عشر ويرجح أن الذي أختلسها راهب اسمه –فرامرينو- وعن طريق هذا الراهب آلت هذه النسخة إلى مكتبة أحد وجهاء أمستردام، حيث بقيت حتى مطلع القرن الثامن عشر وفي سنة 1709م كان كريمر أحد مستشاري ملك بروسيا ينزل في أمستردام وكانت له بهذا الوجيه صلة ولما رأي هذه النسخة من إنجيل برنابا استعارها ثم ذكر للوجيه أنها عظيمة القيمة وفي سنة 1713م أهدى وجيه أمستردام هذه النسخة إلى البرنس – أيوجيني سافوري – الذي كان مولع بالعلوم والآثار التاريخية ثم انتقلت هذه النسخة مع مكتبة البرنس كلها إلى مكتبة البلاط الملكي في فينا حيث لا تزال هذه النسخة موجودة حتى الآن(16).
ويؤكد صحة هذا الكلام ما رواه د/محمود محمد عبد القادر في كتابة بيولوجية الإيمان من أن هذه النسخة إيطالية محفوظة في فينا – ترجمها إلى الإنجليزية المستشرق – سايل – والدكتور / منكهوس – أحد أعضاء الكلية الملكية في أكسفورد وقد علق- سايل- في مقدمة كتابه أن مكتشف النسخة الإيطالية راهب لاتيني يسمى – فرامرينو – وقد تدارس بعمق هذا الإنجيل مما جعله يعتنق الدين الإسلامي بعد ذلك.(17).
وهناك نسخ أخرى لهذا الإنجيل باللغة الأسبانية ظهرت حوالي سنة 1784م ولكنها فقدت بعد ذلك وهي نسخة مترجمة عن الإيطالية ويقال أنها ترجمت عن نسخة الراهب – فرامرينو – الوحيدة المعروفة حالياً(18).
وقد ترجم هذا الإنجيل إلى اللغة العربية من الإنجليزية في مطلع القرن العشرين وقام بترجمته د/ خليل سعادة وقدم له ونشرة الأستاذ/محمد رشيد رضا.
* من هو برنابا؟
بناء على ما جاء بإنجيل برنابا فإن برنابا من الحواريين لاثنى عشر فقد ورد في هذا الإنجيل ما نصه: «فلما رأى يسوع أن الجمهور الذي عاد على نفسه ليسلك في شريعة الله جمهور غفير صعد الجبل ومكث كل الليل بالصلاة فلما طلع النهار نزل من الجبل وانتخب اثنى عشر سماهم رسلاً منهم يهودا الذي صلب أما أسمائهم فهي – اندراوس – وأخوه بطرس العباد – و برنابا – الذي كتب هذا مع متى العشار – الذي كان يجلس للجباية – ويوحنا – ويعقوب إبنا زبدي – وتداوس – ويهودا – وبرتولومارس – وفيليبس – ويعقوب- ويهودا الأسخريوطي الخائن»(19).
* الأسباب التي دفعت برنابا لتأليف إنجيله:
وضع برنابا الأسباب التي دفعته لتأليف هذا الإنجيل في مقدمته التي كتبها لهذا الإنجيل بقوله:- «أيها الأعزاء. إن الله العظيم العجيب قد افتقدنا في هذه الأيام الأخيرة بنبيه يسوع المسيح برحمة عظيمة للتعليم والآيات التي اتخذها الشيطان ذريعةً لتضليل كثيرين بدعوة التقوى مبشرين بتعليم شديد الكفر داعين أن المسيح ابن الله. رافضي الختان الذي أمر به الله دائماً مجوزين كل لحم نجس، الذين ضل في عدادهم أيضا بولس الذي لا أتكلم عنه إلا مع الأسى وهو السبب الذي لأجله أسطر ذلك الحق الذي رأيته وسمعته أثناء معاشرتي ليسوع لكي تخلصوا ولا يضلكم الشيطان فتهلكوا في دينونه الله وعليه فاحذروا كل أحد بتعلم جديد مضاد لما أكتبه لتخلصوا خلاصاً أبدياً»(20).
ولا تعترف الكنيسة بهذا الإنجيل ولا تقيم له وزناً لما ورد فيه ويخالف الأناجيل الأربعة الأخرى المشهورة في عدة أمور جوهرية هي:
(1) أن يسوع – عيسى عليه السلام – أنكر ألوهيته وكونه ابن الله وذلك على مرأى ومسمع من جمهور عظيم. يبين برنابا أن إدعاء ألوهية المسيح بدأ في حياة المسيح بسبب معجزاته واتجاهها في إحياء الموتى وإبراء الأكمه وغير ذلك مما ليس للبشرية به عهد فقد أورد برنابا قول عيسى منكرًا ألوهيته «إني أشهد أمام السماء وأشهد كل ساكن على الأرض أنني برئ من كل ما قال الناس عني من أنني أعظم من بشر لأني مولود من أمرآة وعرضه لحكم الله أعيش كسائر البشر عرضة للشقاء العالم»(21).
(2) أن الإبن الذي عزم إبراهيم عليه السلام على تقديمه ذبيحة لله؟ إنما هو إسماعيل لا إسحاق.
(3) أن – محمد – هو البشرى المنتظرة حيث جاء إنجيل برنابا صريحاً غاية الصراحة في ذكر اسم النبي محمد صلى الله عليه وسلم تكرر هذا الاسم في مواضع عديدة منها ما جاء في الفصل التاسع والثلاثين «فلما انتصب أدم على قدميه رأي في الهواء كتابه تتألق كالشمس نصها – لا إله إلا الله محمد رسول الله – ففتح حينئذ أدم فاه وقال أشكرك أيها الرب إلهي لأنك تفضلت وخلقتني ولكني أضرع إليك أن تنبئني ما معنى هذه الكلمات – محمد رسول الله – فأجاب الله مرحباً بك يا أدم وأنا أقول لك. أنك أول إنسان خلقته وهذا الذي رأيته إنما هو ابنك الذي سيأتي إلى العالم بعد الآن بسنين عديدة الذي متى جاء سيعطى نورًا للعالم»(22).
(4) أن عيسى لم يصلب بل حمل على السماء وأن الذي صلب إنما كان يهودا الخائن الذي شبه به حيث جاء في الفصل الثاني عشر بعد المائة: «ولكن متى جاء محمد رسول الله المقدس تزال عني هذه الوصمة وسيفعل الله بي هذا لأنني اعترفت بحقيقة – مسيا – الذي سيعطيني هذا الجزاء. أي أن أعرف أني حي وأني برئ من وصمة تلك الميتة»(23).
وهذا النص يشهد بأن القرآن الكريم الذي نزل على سيدنا محمد – صلى الله عليه وسلم – هو الذي برأ المسيح عليه السلام – من تهمة القتل والصلب.
قال تعالى: «وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ الله وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِن شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا» (النساء: 157).
ولا شك في أن هذا الإنجيل – إنجيل برنابا – يتفق – في أكثر مسائله مع القرآن الكريم. ويزيل الهوه التي أبتدعها بولس والتي أبعدت المسيحية عن الأديان السماوية. «يذكر برنابا في مقدمة إنجيله بأن – بولس – انفرد بتعليم جديد مخالف لما تلقاه الحواريون عن المسيح ولكن تعاليمه هي التي غلبت وانتشرت واشتهرت وصارت عماد النصرانية»(24).
ولأن اسم النبي – صلى الله عليه وسلم – ورد صريحاً في إنجيل برنابا بلفظ محمد أو بلفظ رسول الله الذي تشير إليه كلمة – مسيا – فقد شككوا في نسبته وزعموا عدم صحته وخلاصة ما جاء في هذا الإنجيل هو أن الله لم يتخل أبدًا عن رسله والمؤمنين في حالات المحن لقد نجى نوحاً ومن آمن معه ونجى إبراهيم من النار وكذلك موسى ويوسف ولم يتخلى الله عن عيسى بل رفعه وأوقع الخائن يهودًا في شر أعماله ونجى المؤمنين. ومما لا شك فيه أن مكتبة الفاتيكان إنما تحتوي على العديد من بقايا الأناجيل التي كتبت والتي منع تداولها في القرون الأولى الميلادية وقد روي بعض الكتاب الإنجليز القدامى قبل ظهور الإسلام -أنه اطلع في مكتبة الفاتيكان على نسخة من الإنجيل كتب فيها: «يقول المسيح مبشرًا برسول يأتي من بعده اسمه أحمد» وذلك يوافق النص القرآني بالحرف.(25).
ولا شك فإن تعدد الأناجيل كان مثار جدل كبير فلا أحد يعرف بالتحديد متى كتبت ومن هو مؤلفها الحقيقي أو بأي لغة ألفت وهذا لاشك يدعوا إلى الريبة والشك.
المراجـــــــــــع:
(1) علي الجوهري- بيان مصداقية الإيمان – دار السنة 1990م ص 20.
(2) د/ أحمد شلبي– مقارنة الأديان الجزء الثاني – المسيحية – مكتبة النهضة الطبعة الثامنة 1984ص204
(3) موريس بوكاي- دراسة الكتب المقدسة في ضوء المعارف الحديثة- دار المعارف القاهرة سنة 1977م ص78.
(4) أحمد عبد الوهاب -المسيح في مصادر العقائد المسيحية- مكتبة وهبة القاهرة 1978م – ص 51.
(5) موريس بوكاي – مصدر السابق ص 33
(6) المصدر السابق ص 39
(7) المصدر السابق ص 41
(8) د/ أحمد شلبي – مصدر سابق ص207،208
(9) إنجيل برنابا– الطبعة العربية– ترجمة خليل سعادة – المكتبة التوفيقية مقدمة المترجم 1909م ص أ
(10) د/ أحمد شلبي- مصدر سابق ص 295
(11) المصدر السابق ص 298
(12) المصدر السابق
(13) إنجيل برنابا – مقدمة المترجم ص ل
(14) د/ أحمد شلبي- مصدر سابق ص 201
(15) إنجيل برنابا – مقدمة المترجم ص .ح
(16) أ.د/ محمود عبد القادر – بيولوجية الإيمان – مكتبة الإيمان 1992 ص 62
(17) إنجيل برنابا – مقدمة المترجم ص هـ
(18) إنجيل برنابا – الأرقام 14، 15، من 9: 12
(19) إنجيل برنابا- المقدمة ص 5
(20) إنجيل برنابا-الإصحاح 94 من 3: 7
(21) إنجيل برنابا- الأرقام من 14 : 22 ص 125
(22) إنجيل برنابا – الأرقام من 17: 23 ص 221
(23) إنجيل برنابا – الأرقام من 5: 6 ص 83
(24) أ.د / محمود عبد القادر- مصدر سابق ص 63
(25) د/ أحمد شلبي- مصدر سابق ص 307
والله الموفق.
(*) مصر – طنطا – دمشيت.
هاتف محمول : 0109356970(002)
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، جمادى الثانية – رجب 1434 هـ = أبريل – يونيو 2013م ، العدد : 6-7 ، السنة : 37