الأدب الإسلامي

بقلم : أديب العربية الكبير معالي  الدكتور عبد العزيز عبد الله الخويطر

الرياض ، المملكة العربية السعودية

       إن قول حفصة بُني على قاعدة دينية قوية الأساس، ظنت حفصة أن معها الحق في مقابلة أبيها بها، وقد جرأها هذا الاقتناع على أن تتشجع وتلقيه عليه، ولعلها هي وأخريات قد تدارسن الأمر، وفي ذهنهن أن ينلن شيئاً مما لم ينلن منه، فتركز تفكيرهن على المداخل الشرعية لهذا الحق، وذهلن عما لم يذهل عنه عمر، فعمر كان مركزًا كيف يحافظ على هذا المال، لا كيف ينفقه، ولهذا رد القول بحجة أقوى، وأذكر حفصة بأن ما قالت صحيح، ولكنه يصدق على ماله الخاص، وليس على مال المسلمين، فكأنه ذكرها أولاً بما لم تفطن له، وثانياً بأنها تجرأت وأعلمته بما كان عليها أن تعلم أنه أعلم منها به.

       وحرصه على حسن تقسيم المال يجعله يفكر في كل جانب من جوانب العطاء، حتى ما لم يخطر ببالنا في هذا الزمن، ولكنه مهم له في ذلك الزمن، وهذا يؤكد أن عمر تعدى في نيته وتصميمه التفكير في العدل في القسمة إلى ما هو أعمق، والقصة التالية تُري كيف فكر في أن القسمة تكون عادلة، ولا تغضب أحدًا:

       «أُتي عمر ببرود من اليمن يقسمها، فرأى بردًا فائقاً، فخاف إن أعطاه بعض الناس أن يُغضب الباقين، فقال:

       دلوني على فتى من قريش، نشأ نشأة حسنة.

       فقالوا: المسور بن مخرمة، فأعطاه إياه»(1).

       ترى هل كان عمر منذ البداية يريد أن يعطيه المسور، فجعل الأمر بهذه الطريقة، حتى يقفل الباب على من قد يسأله لماذا أعطاه المسور، فيحرج الرد السائل؛ لأنه لا يعقل أن لايعرف عمر المسور ونشأته.

       إن مدرس عمر الفضائل الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم يأتي بعده أبو بكر الصديق – رضي الله عنه – فعمر رضع من ألبان الفضيلة، فكان الحق رائده، والعدل ديدنه، والتقشف شعاره، والكفاف علامته، والقناعة الكنز الذي ادخره، والقصة الآتية تشهد على بعض ذلك:

       «قال أبوبكر – رضي الله عنه – :

       إنا منذ ولينا أمور المسلمين لم نأخذ لهم دينارًا، ولا درهماً، ولكن قد أكلنا من جريش طعامهم، ولبسنا من خشن ثيابهم، وليس عندنا من فيئهم إلا هذا الناضح، وهذا العبد الحبشي، وهذه القطيفة، فإذا قُبِضت، فادفعوها إلى عمر.

       فلما قُبض أرسلوها إليه، فبكى حتى سالت دموعه، ثم قال:

       رحم الله أبا بكر! لقد أتعب من بعده»(2).

       ونحن نقول عن عمر: رحم الله عمر فلقد أتعب من بعده.

       وعدل عمر يجعله يراعي الصالح للأمة الإسلامية، يجتهد في هذا ما أمكنه الاجتهاد، فإذا تبين له خلل فيما اتخذه، أقر بخطئه على رؤوس الأشهاد، وسارع إلى تصحيحه، وقصته مع المرأة التي سمع عندها صبيًّا يبكي؛ لأنها لا ترضعه، بسبب ما اتخذه عمر من تنظيم معروفة، والقصة كما يلي:

       «قال مالك:

       وكان عمر بن الخطاب لا يفرض لصغير رضيع، فإذا فطم فرض له، فمرَّ من الليل بصبي يبكي، يبغي الرضاع، وأمه لا ترضعه، فقال لها عمر:

       أرضعيه.

       قالت: إذاً لا يفرض له عمر.

       قال: بلى، هو يفرض له.

       ثم فرض عمر بعد ذلك للمولود مئة درهم في السنة»(3).

       ولو تركنا قارب الحديث يسير بنا حيث يشاء، لدخل بنا بحارًا من الأحاديث والأقوال عن عمر، فيها ضوء سيرته لامع، ولكن لابد لنامن أن نقف عند حد، وسنختم بأقوال من عرفوه، وعاشوا معه، ورافقوه، وتحدثوا معه، وأوكلوا إليه بعض ما همهم أو كله.

       وسنفتح صفحات من كتاب «الكامل» لابن الأثير، وهو أقرب لمتناول من شاء أن يستزيد، وفي بعض ما فيه كفاية، وأول ما يقابلنا تقدير أبي بكر لعمر، ووضعه في ذهنه خليفة بعده، ولكنه أحب أن يأخذ الشورى فيه ممن يعتمد عليهم في مجتمع الصحابة – رضوان الله عليهم – فها هو سؤاله، وها هو جواب من سأل منهم، وهو يجلو صفحة عمر:

       «لما نزل بأبي بكر – رضي الله عنه – المرض، دعا عبد الرحمن بن عوف، فقال: أخبرني عن عمر.

       فقال: يا خليفة رسول الله، هو والله أفضل من رأيك فيه من رجل، إلا أنه فيه غلظة.

       فقال أبوبكر: ذلك لأنه يراني رقيقاً، ولو أفضى الأمر إليه لترك كثيرًا مما هو عليه، وقد رمقته، فكنت إذا غضبت على رجل أراني الرضى عنه، وإذا لنت له أراني الشدة عليه.

       ودعا عثمان بن عفان، وقال له: أخبرني عن عمر.

       فقال: سريرته خير من علانيته، وليس فينا مثله.

       فقال أبوبكر لهما: لا تذكرا مما قلت لكما شيئاً.

       ودخل طلحة بن عبيد الله على أبي بكر فقال:

       استخلفت على الناس عمر، وقد رأيت ما يلقى الناس منه وأنت معه، وكيف به إذا خلا بهم، وأنت لاق ربك، فسائلك عن رعيتك؟

       فقال أبوبكر: اجلسوني.

       فأجلسوه، فقال:

       أبا الله تخوفني؟ إذا لقيت ربي، فسألني، قلت: استخلفت على أهلك خير أهلك.

       ثم إن أبا بكر أحضر عثمان بن عفان، خالياً، ليكتب عهد عمر، فقال له:

       اكتب باسم الله الرحمن الرحيم.

       هذا ما عهد أبو بكر بن أبي قحافة إلى المسلمين، أما بعد:

       ثم أغمي عليه.

       فكتب عثمان: أما بعد:

       فإني قد استخلفت عليكم عمر بن الخطاب، ولم آلكم خيرًا.

       ثم أفاق أبوبكر، فقال: اقرأ علي، فقرأ عليه، فكبر أبو بكر وقال:

       أراك خفت أن يختلف الناس إن مت في غشيتي؟

       قال: نعم.

       قال: جزاك الله خيرًا عن الإسلام وأهله.

       فلما كتب العهد أمر به أن يقرأ على الناس.

       فجمعهم، وأرسل الكتاب مع مولى له، ومعه عمر. فكان عمر يقول للناس:

       انصتوا، واسمعوا لخليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه لم يألكم نصحاً.

       فسكن الناس.

       فلما قرئ عليهم الكتاب سمعوا، وأطاعوا.

       وكان أبو بكر أشرف على الناس، وقال:

       أترضون بما استخلفت عليكم؟ فإني ما استخلفت عليكم ذا قرابة، وإني قد استخلفت عليكم عمر، فاسمعوا له، وأطيعوا، فإني والله ما آلوت من جهد الرأي.

       فقالوا: سمعنا وأطعنا.

       ثم أحضر أبوبكر عمر فقال له:

       إني قد استخلفتك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأوصاه بتقوى الله، ثم قال:

       يا عمر، إن الله حقًّا بالليل، ولا يقبله بالنهار، وحقًّا في النهار، لا يقبله بالليل، وإنه لا يقبل نافلة حتى تؤدَّى الفريضة.

       ألم تر، يا عمر، إنما ثقلت موازين من ثقلت موازينه يوم القيامة باتِّباعهم الحق، وثقله عليهم؟ وحُقَّ لميزان لا يوضع فيه غدًا إلا حق أن يكون ثقيلاً.

       ألم تر، يا عمر، إنما خفَّتْ موازين من خفَّت موازينه يوم القيامة باتباعهم الباطل، وخِفَّته عليهم؟ وحُقَّ لميزان لا يوضع فيه إلا باطل أن يكون خفيفاً.

       ألم تر، يا عمر، إنما نزلت آية الرخاء مع الشدة، وآية الشدة مع آية الرخاء، ليكون المؤمن راغباً راهباً؟ لا يرغب رغبة يتمنى فيها على الله ما ليس له، ولا يرهب رهبة يلقي فيها بيديه.

       ألم تر، يا عمر، إنما ذكر الله أهل النار بأسوأ أعمالهم، فإذا ذكرتهم قلت: إني لأرجو أن لا أكون منهم؟ وإنه إنما ذكر أهل الجنة بأحسن أعمالهم؛ لأنه تجاوز لهم عما كان من سيئ، فإذا ذكرتهم قلت: أين عملي من عملهم؟

       فإن حفظت وصيتي فلا يكونن غائب أحب إليك من حاضر من الموت، [كذا] ولست بمعجزه»(4).

       هذا هو أبو بكر، وهذا هو عمر، وهؤلاء هم الصحابة، ومن استمع إلى أقوال أبي بكر للصحابة، وأقواله ونصحه لعمر، أدرك ما كان يجول بذهن عمر، وهو يلهث لصالح المسلمين، يبحث عن نفعهم، ويقيهم الشرور، يوفر لهم الراحة، ويبعد العناء، يشتد لما يحتاج إلى شدة، ويلين لما يحتاج إلى لين، تحكمه طبيعته، ويغلبه دينه، ويُرجِّع ذهنه صدى كلمات أبي بكر – رضي الله عنه – فكل ما مر بنا من نصوص، وقصص، يمكن أن نجلسه على مفرشة هذه الأقوال والنصائح.

       عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – نجمة مضيئة لمعت بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعد أبي بكر الصديق، في جو البلد الإسلامي هدت، وأرست تحت هدي الإسلام الذي تحمله أسساً وقواعد، بقيت مثالاً لمن يريد أن يحتذي، إلى وقت تغير فيه أهل الزمان، وأصبح لابد مما يوائمهم، ويتماشى مع ما هم عليه من درجة دين، ودرجة خلق، وما قبلوه من عادات، وما بلوروه من سجايا.

       رحم الله عمر بن الخطاب، ورضي عنه، فقد أدى الأمانة على خير وجه، وقام بالخلافة على أسهل طريق، وأنبل مسلك، وأصدق نية، وأشد جهد، بَحَثَ، ونقَّب، وتتبَّع وسهر وركض، وقلق، وتوجس، وأصغى وأسمع، وسأل وأجاب، وأعطى، وأدنى، وأبعد، كل هذا في صالح المؤمنين الذين وضعت أمورهم في رقبته، فكان خير مؤتمن، رحمه الله رحمة الأبرار.

*  *  *

الهوامش:

ربيع الأبرار: 3/579.

ربيع الأبرار: 3/93.

سراج الملوك: 394.

الكامل في التاريخ: 2/291.

*  *  *

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم  ديوبند ، جمادى الثانية – رجب 1434 هـ = أبريل – يونيو 2013م ، العدد : 6-7 ، السنة : 37

Related Posts