الفكر الإسلامي
بقلم: الكاتب الإسلامي العربي أ. د. عبد الحليم عويس رحمه الله
في هذه الأيام – من كل عام – يحتفل الناس بنبيهم محمد صلى الله عليه وسلم بطرق من الأحفال مختلفة، دون أن يتذكروا أن نبي الرحمة يجب أن يكون ماثلاً في وجدانهم في كل يوم. وعلى امتداد العام. ودون أن يتذكروا أيضاً – أن الاحتفال بنبيّهم – يفرض عليهم أن يعيشوا سيرته، وأن يتدبروا صفحاتها – مواقف وأفعالاً وردود أفعال.. في المنشط والمكره.. في السلم وفي الحرب.. في السراء والضراء. في المنزل. وفي المسجد، مع صناديد الكفر، ومع الأحباب من الأصحاب والأزواج والخدم والفقراء والأثرياء – بميزان الحق والعدل – وعلى قدم سواء!!
وعندما يعيشون السيرة وينفعلون بها – ومع أحداثها – عليهم أن يتذكروا أن سيرة هذا النبي قدّمت لنا كنزا لا ينضب معينه اسمه (السنة النبوية) أي طريقة الحياة. فالسنّة هي الطريقة. وهي المنهج. وهي العلاج الواقعي الحيّ لكل ظروف الفرد والمجتمع وأحوال الحياة. ولا مجال للفصل بين سيرته وسنته، كما لا مجال للفصل بين أشكال السنة المخلفة المتكاملة، سواء كانت قولاً أم فعلاً أم تقريراً. فالمهم أن تكون هذه التطبيقات في حدود الشريعة. ومن منبع العقيدة. وأن تكونا معاً – العقيدة والشريعة – من نص القرآن ومن روح القرآن وفقه القرآن. ومن حياة الرسول الواقعية المستوحاة – بل والمأخوذة والمقتبسة – من القرآن.
لقد كان النبيّ الأعظم هو التطبيق الواقعي البشري الحيّ للقرآن، حتى يؤمن الناس – إيمان اليقين بعين اليقين – أن هذا القرآن ليس نظريات وأفكاراً مثالية لا تصلح لدنيا الناس، وإنما هو المنهاجية الربانية الواقعية التي تنزلت على محمد الإنسان. ليعيش بها الإنسان – كل إنسان على خطى أعظم نبي وأعظم إنسان – ليعيشوا بها جميعا. قرآنا حياً يمشي على الأرض.
خُلقهم القرآن. وعواطفهم من القرآن. وبواعثهم محكومة بالقرآن. وآلياتهم ووسائلهم وغاياتهم دائرة – بإحكام – في فلك القرآن. إن إيمان المسلم بالله – وكذلك أركان عقيدته – نابعة من القرآن الذي يقدر الله حق قدره من بين كل التيارات الفلسفية. والديانات والمذاهب.
وأما الشريعة التي تحكم المسلم عمليا في دائرة نفسه وأسرته وأرحامه ومجتمعه. فمن القرآن.
وقل مثل ذلك في أخلاقه التي لا تنفصم عن الشريعة. فهي رشح من القرآن. كما جاء في وصف عائشة رضي الله عنها له عندما قالت: «كان خلقه القرآن».
فيامن: تنتظرون شهر ربيع الأول لتحتفلوا بطريقة خاصة بمولد رسول الله صلى الله عليه وسلم … لماذا لا تحتفلون به – في داخلكم وفي حياتكم – كل العام؟
لماذا لا تجمعون بين فضلي ربيع الأول. ورمضان؟! ولماذا لا تتذكرون ايام وداعه التي نزل قبيلها قوله تعالى: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلاَمَ دِيناً﴾ (المائدة:3) فقال فيها أحد اليهود لعمر رضي الله عنه: إن في كتابكم آية لو نزلت علينا نحن معشرَ اليهود لاتخذنا ذلك اليوم عيدًا، فسأله عنها عمر، فقال اليهودي: «اليوم أكملت لكم دينكم… الآية، فقال عمر: والله إني لأعلم متى أُنزلت وأين أنزلت.. نزلت في حجة الوداع، وهو يوم عيد، أو كما قال رضي الله عنه» (رواه البخاري).
وهل يمكن الفصل بين محمد ونبوته وهجرته ومراحل جهاده وانتصاراته؟ قد تقولون – وقولكم حق – بأن يوم المولد في ربيع الأول هو فاتحة الخير كله، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يصوم كل يوم اثنين، ولما سُئل عن سبب ذلك قال: «ذاك يوم ولدت فيه وبُعثت فيه»( رواه مسلم).
ألم تلحظوا مزج الرسول بين ميلاده في ربيع الأول ومبعثه في رمضان فكأنهما ميلاد واحد؛ فأما يوم مولده يعني مولد إنسان واحد. أما مبعثه فميلاد دين وأمة وحضارة. بل وميلاد إنسانية جديدة مهيأة لبناء عالم جديد، فهكذا يتعانق ربيع الأول مع رمضان، فهما زمانان لا ينفصلان.
ومع ذلك كان احتفال الرسول صياماً وذكرًا وشكرًا وفكرًا. فلماذا لا تحتفلون بيومي (المولد والمبعث) معاً يوم الاثنين، بطريقة الرسول نفسها. طريقته التي هي سنته المستقاة من كتاب الله ومن سنته في العبادة والفكر والذكر والشكر!!
وما أجمل أن نسمّى يوم الاحتفال باسم مزدوج، هو مولد (النبي والوحي) أو مولد (الرسول والرسالة)!!
إنهما معاً – الرسول والرسالة – موضوع واحد. وقضية واحدة. ولا يجوز – أبداً – الفصل بينهما، والاحتفاء بأحدهما وإهمال الآخر!!
* * *
ولئن كانت النِّحل والأديان التي سبقت الإسلام – تحتفل بمولد القديس أو الرسول وحده، مثلما يحتفل النصارى بعيد ميلاد المسيح ويؤرخون به. وكما يحتفلون بأعياد القديسين – كأشخاص – دون مزج بين الرسول والرسالة، أو الشخص والموضوع – فإن المسلمين الأسلاف – و على رأسهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه – قد فطنوا إلى ضرورة المزج بين الرسول والرسالة ودولة الإسلام. فجعلوا التقويم الهجري مرتبطاً بعام الهجرة. عام الانطلاق العالمي للإسلام. عامَ وضع حجر الأساس لدولة العقيدة والدعوة. إنه العام الذي دخل فيه الرسول يثرب. نبياً ورئيساً وقاضياً. يهرول الناس للترحيب به، يعرضون عليه كل ما يملكون من مال وعقار. ويعرضون على أصحابه المهاجرين إلى بلدهم معه مشاركتهم في حياتهم: ﴿يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ﴾ (الحشر:9).
إنه العالم الذي مكن الله فيه (للوحي) أن يكون دستور الحياة ومنهج الحياة. في دولة صغيرة مكرمة عزيزة. بعد أن كان المسلمون يعيشون في مكة معذبين مقهورين.
لقد كانت لحظات ميلاد (الرسول والرسالة ودولة الرسالة) – بهذا المزج الذي لا ينفك – هي لحظات المولد الأخير للبشرية المؤمنة. بعد الطوفان الوثني والجاهلي الذي ملأ الأرض كفرًا وظلماً واحتكاماً إلى القوة والطغيان، وانحرافاً عن الدين الحق.
* * *
إن الرسول عليه الصلاة والسلام هو والبعثة قضية واحدة، كما أن (ربيع الأول) لا يقوم بغير (رمضان) شهر نزول القرآن.
فهما متكاملان. والرسول عليه الصلاة والسلام بشر، لكنه معصوم يوحي إليه «إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي»، فالتكامل ضروري بين بشريّته والوحي الإلهي، وهذا الوحي هو الذي ميّزه وفضله على العالمين، لأنه عليه السلام كان المثل الأعلى في تطبيق الوحي والتخلق بأخلاقه وتطبيقه لأوامره ونواهيه.
ومرة أخرى نقول: إن يوم ميلاد الرسول صلى الله عليه وسلم ويوم نزول «اقرأ باسم ربك» لا ينفصلان.
وكذلك يتعانق ربيع الأول ورمضان، وكما أن الرسول والرسالة، والذات والموضوع مترابطان – فيجب أن يكون الاحتفاء بهما، واستعادة رحلتهما في تكوين خير أمة أخرجت للناس منذ المولد والمبعث – في مستوى واحد.. وفي مسيرة واحدة.. وعلى القدر نفسه من الاهتمام.
إنه لا يجوز لنا أن نؤثر الشكل على المضمون، ولا أن نفرِّق بين الحب والاتباع، ولا القول على العمل. إن جهودنا يجب أن تتجه إلى تغيير الواقع – بالقرآن والسيرة والسنة معاً – وليست القضية الأساس التي يجب أن نجاهد فيها عبر العصور – إلا قضية تحقيق التطابق في حياتنا بين القرآن والسنة – ومقتضيات الواقع.
والقرآن هو قلب القضية وجوهرها. فإذا صُغنا على أساسه فكرنا، وعلى قيمه سلوكياتنا. حققنا للأمة النهضة الحضارية المنشودة، ولأنفسنا ومجتمعاتنا الانسجام والحياة الكريمة الإنسانية الربانية.
ويعلمنا التاريخ أننا ما طلبنا العزّة في غير الإسلام إلا أذلنا الله. كما يعلمنا أن حضارتنا قامت على التأخى والتكامل بين الوحي والعقل والدين والعلم. ويعلمنا ديننا والعلوم كلها – عندنا – علوم شرعية إذا صلحت فيها البواعث والوسائل والغايات. فالعلوم الشرعية والإنسانية والتطبيقية كلها علوم يُتعبَّد بها ويثاب عليها صاحبها إن استخدمها في إصلاح الحياة ويعاقب عليها إن اسخدمها في إفساد.
وإذا كان القرآن هو منهج حياتنا، فإن الرسول – عليه الصلاة والسلام – هو قائد حضارتنا، وهو المطبق الأعظم للمنهج بسيرته التي قدمت لنا النموذج والقدوة النبوية للتطبيق والعمل. في شتى المجالات!!
فيا من نسيتم كل هذا.. وركزتم على الشكل والظاهر. وحصرتم اهتمامكم في مناسبات معينة. وأضعْتُم من حيث لا تشعرون، طبيعة الرسالة، وشموليتها في المبادئ. وشموليتها في خطابها لكل الناس وتناسيتم الغارات العالمية التي تشنّ عليها.. وعلى مجموع المسلمين بلا تفرقة. وأهملتم أو أهمل كثير منكم الروح في أداء واجبات الأمة – كلها – بكل شرائحها. في عبور التخلف وتطبيق الرسالة في دنيا الواقع، وتحقيق النهضة. النهضة الشاملة تحت راية القرآن والسنة.
إن القرآن الذي أنزل على النبي الكريم ليشقّ لنا دروب الحياة، ويعلمنا كيف نحيا، وكيف نختار الحياة التي نريدها، أضحى مصدرا للاستسلام والموت.
إن الكتاب الذي هو مصدر حياتك ومنبع قوتك، لا اتصال لك به إلا إذا حضرتك الوفاة، فتُقرأ عليك سورة «يس» لتموت بسهولة. فواعجباً. قد أصبح الكتاب الذي أنزل ليمنحك الحياة والقوة يُتلى الآن لتموت براحة وسهولة!!
لقد غيبنا دور القرآن (المنهج) ودور السنة والرسول (القائد)؛ فسقطنا في حفرة التخلف منذ عدة قرون.
ولا عودة إلى طريق المجد الحضاري.. والشهادة على الناس. والخيرية التي منحنا الله إياها – إلا يوم نعود إلى القرآن (المنهج) الذي يهدي للتي هي أقوم.. وإلى الرسول (القائد) المعلم والقدوة. دون أن نسقط في هاوية الفصل بين الرسول والرسالة، والقرآن والسنة والسيرة. والشكل والمضمون!!
وعليك ألف صلاة وسلام… يا أعظم البشر. ويا أفضل الرسل… ويا إمام الأنبياء.
وإنا لعائدون إليك وإلى رسالتك الخالدة يا أفضل خلق الله لتصْنع منا – من جديد – خير أمة … أمة الوسطية، والشهادة على الناس.. بالعدل والرحمة بكل المخلوقات.. وبكل الإنسانية.
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، ربيع الأول 1434 هـ = يناير ، فبراير 2013م ، العدد : 3 ، السنة : 37