كلمة العدد

          في نحو الساعة التاسعة والنصف من الليلة المُتَخَلِّلَة بين الأحد والإثنين: 2-3/صفر 1434هـ = 16-17/ديسمبر 2012م حَصَلَ في دهلي العاصمة الاغتصابُ الجماعيّ لفتاة (23 عاماً) طالبة في كليّة طبٍّ في حافلة فارهة رَكِبَتْها مع صديقها. وذلك من قِبَل ستّة رجال سكاري من الخمر بمن فيهم سائقُها الذي ظَلَّ يسوقها خلالَ الاغتصاب الذي تَنَاوَبَ هؤلاء الأشرارُ ارتكابَه. ولم يَكْتَفُوا بهذه الجريمة معها، وإنما تَنَاوَلُوهما بضرب مُبَرِّح، وجَرَّدُوهما من الملابس في الليلة الشاتية الشديدة البرودة، وقذفوهما خارجَ الحافلة في قساوة و وقاحة بالغتين أَكَّدَتَا تجرُّدَهم من كلِّ معنى من معاني الإنسانيّة.

       وما إن عَمَّ الخبرُ في الصباح عَبْرَ الصحف و وسائل الإعلام حتى اشتدّت وتكاثرت واتصلت المظاهراتُ والاحتجاجاتُ والاستنكارات والتنديدات والاعتصامات في شتى أنحاء البلاد، ولاسيّما المدن والقرى الجامعة عموماً وفي دهلي خصوصاً، وتَسَلْسَلَ ذلك لأسابيع، حتى أَدَّتْ مسيرةُ احتجاج متشددة إلى مقتل شرطيين وإصابة عدد من قوات الشرطة في الساحة المترامية الأطراف بين القصر الجمهوريّ و«بوابة الهند» في العاصمة.

       ونشرت الصحفُ بيانات استنكار أَدْلَىٰ بها شتى قطاعات الشعب بمن فيهم الزعماء والقادة والساسة والمحامون، والقضاة والمفكرون، والمثقفون والأدباء، والشعراء والأساتذة، والطلاب والممثلون، ونجوم الأفلام ومنتجوها، والفنانون وغيرهم.

       واحْتَدَمَ النقاشُ بين الساسة وأعضاء البرلمان الهندي، حتى إن بعض السيّدات من أعضائه انتحبن داخل البرلمان خلال المساهمة في النقاش وطرح الآراء. وطَالَبَ الكلُّ بالإدانة العاجلة للمجرمين عَبْرَ المحاكمة السريعة وإنزال العقاب الصارم عليهم؛ حتى يكون رادعاً لأمثالهم؛ حتى إن البعض طَالَبَ بتناولهم بالعقاب الإسلاميّ، وبتشريع قوانين تُمَاثِل القوانينَ الإسلامية المُتَّبَعَة في البلاد العربيّة التي تحكم ببعض الأحكام التي شَرَعَها الكتابُ والسنّةُ.

       فيما يجري علاجُ الفتاة المُغْتَصَبَة في بعض المُسْتَشْفَيَات في دهلي على نفقات رسميّة، وتحت عناية مُرَكَّزَة؛ حيث لاتزال حالتُها سَيِّئَةً للغاية؛ بل خَطِرَةً جدًّا، ولازال الأطبَّاءُ الساهرون على علاجها غير مرتاحين إلى حالتها، وإنما يَتَشَبَّثُون بالأمل الذي ظَلَّ وسيظلّ آخرَ ملاذٍ لكلِّ من يلاحقه اليأسُ والإحباطُ، والحقُّ أنّ الفتاة المنكوبة لازالت تصارع الموتَ الذي يقف أمامها فاغرًا فاه. وفعلاً قد ماتت خلال علاجها بـ«سنغافوره» خلال وضع اللمسة الأخيرة على هذه السطور. وذلك في الصباح الباكر من يوم السبت: 15/صفر = 29/ديسمبر، ونقل جثمانها إلى دهلي في نحو الساعة الثالثة والنصف في الهزيع الأخير من الليلة المتخللة بين السبت والأحد: 15-16/صفر = 29-30/ديسمبر حيث تمّ إحراقُه، حسب ما تصنعه الهندوس مع جثثهم.

       لماذا تَحْدُثُ حوادثُ التعرّض للسيّدات والفتيات بالتحرشات الجنسيّة والاغتصابات في كل مكان: في الشوارع وفي الحدائق، في المواقف والمحطات، في المدارس والجامعات، حتى في القُطُر والحافلات، فضلاً عن الأمكنة الخالية، وفي ضوء النهار، فضلاً عن هَدَءَات اللّيل و وحشات الظلام؟.

       كلٌّ يُفَسِّر الأسبابَ على طريقته ورغبته وهواه. بعضُهم يُحَمِّلُون المسؤوليّةَ بكاملها السيداتِ والفتيـاتِ؛ حيث صِـرْنَ كاسياتٍ عـارياتٍ، مائلاتٍ مُمِيلاتٍ، يَتَجَمَّلْن بكل نوع من مُسْتَحْضَرَات التجميل ويَتَطَيَّبْنَ بعطـور قويّة الرائحة مُسْتَرْعِيَـة لانتباه المارّة، ويخرجن وَحْدَهُنّ إلى حيث شِئْنَ، وفي أيِّ وقت شئن من أوقات الليل والنهار، ويُصَادِقْن مِن شئن من الفِتْيَان وزُمَلاَء العمل والدراسة، وكأنّهن يُحْبِبْن بدورهن أن يَتَعَرَّضْن لما يُؤْذِيهنّ في الجسم أو العِرْض، ويُسِيء سُمْعَتَهنّ في المجتمع، أو يُعَرِّض أنفسَهن للهلاك أو لمرضٍ مُلاَزِمٍ نفسيّ أو عقليّ أو جسميّ، أو يُدَمِّر مستقبلهنّ في الوظيفة أو المهنة، أو عمل من العمال المرغوب فيها لديهنّ كنّ يَحْلُمْنَ بمزاولتها لكسب لقمة العيش، أو لترفيه حالة عائلتهن، أو لتلميع شخصياتهن أو كسب شهرة واسعة في المجتمع الإقليميّ أو العالميّ.

       ففي الشتاء الماضية أيضاً تَعَرَّضَتْ كثيرٌ من السيدات في دهلي العاصمة – التي من سوء الحظّ حسب ما يقول بعض الصحفيين صارت «عاصمةً» للتحرشات الجنسية والاغتصابات، وكان المرجو أن تكون أكثر أمناً وسلاماً بالنسبة للسيدات والرجال معاً من المدن الأخرى في البلاد؛ لأنها هي التي تحكم البلادَ، فهي تحتضن البـرلمانَ وإدارات الحكم المركزية للبلاد؛ فهي كالقلب النابض في جسم البلاد – للعنف الجنسيّ فعَقَدَتْ حكومةُ دهلي اجتماعاً لدراسة الموضوع وبحث سُبُل مكافحة العنف الجنسـيّ ضــدَّ السيّـدات. وكان الاجتماعُ قد شَهِدَ نقاشاً حادًّا بين كبيرة وزراء دهلي ورئيسة لجنة السيدات ومسؤول كبير في مصلحة الشرطة. وكان مسؤولُ الشرطة قد صَرَّح في الاجتماع دونما مجاملة قائلاً: إنّه يتعيّن على الفتيات هن الأخريات أن يجعلن ملابسهنّ وتفصيلَها حسبما تسمح القيم، وأن يجتنبن التجوّل في الوقت المتأخر من الليل، وأن لا يَرْتَدْنَ أمكنةَ النزهة والترفية إلاّ بصحبة الوالدين؛ ولكن المسؤول قُوبِلَ بمعارضةٍ وانتقادٍ لاذعين بشأن الاقتراح الذي طَرَحَه عطفاً على الفتيات.

       وبعضُهم قالوا: إنّ الثغرات القانونيّة هي السبب الوحيد في حوادث العنف الجنسيّ التي تتعرض لها الفتياتُ والسيداتُ كلَّ يوم في بلادنا؛ لأنّها شَجَّعَتِ الأشرارَ والمفسدين من الرجال والفِتْيَـان على أن يـرتكبوا أشنعَ الجرائم الجنسيّة حتى في وضح النهار، وخلقت لديهم نفسيّةً إجراميّـةً عجيبـةً غـريبةً لاعهـدَ بها لبلادنا في الماضي جَرَّأَتهم حتى على اقتحام البيوت وهتك حرمــة العفيفات مـن السيــدات والفتيات اللاتي لم يخرجن قط من بيوتهن، ولم يرتدين ملابسَ مُنَافِيةً للحشمة والقيم الأنثوية.

       وبعضهُم قالوا: إن ثقافةَ الوقاحة والفجور والمجون والسفور التي رَوَّجَتْها الأفلامُ والسينما؛ والفنونُ الجميلةُ المتمثلةُ في الرقص والغناء؛ والقصص الغراميّة والروايات الفاحشة التي تُدَغْدِغ الغرائز الجنسيّة؛ والتعليم المختلط؛ وتحرّر المرأة الزائد؛ والخمور والمُخَدِّرَات؛ كلُّ ذلك وغيره سببٌ رئيسٌ مُبَاشِرٌ وراءَ ما جَلَبَ ويجلب للسيّدات من المصائب بما فيها تعرّضهن اليوميّ للعنف الجنسيّ والاغتصاب الجماعيّ أوالفرديّ والخطف المُفَاجِئ، وما إلى ذلك مما تطول قائمتُه.

       فالفتاة التي تعرّضت للعنف الجنسيّ في حافلة سيَّارة وفي منطقة «متطورة» «متنورة» في دهلي، ما الذي حَمَلَها على التسكّع فيها في هذا الوقت الهادئ من ليالي الشتاء في ذروة البرودة مع صديقها الأجنبيّ الذي لم يكن قريباً لها ولا من محارمها؟!.

       ولكن المجتمع الهنديّ الذي صار نسخةً طبق الأصل من المجتمع الغربي الفاسد المُتَعَفِّن الغارق إلى الآذان في جميع أنواع المفاسد التي يئن منها، وينادي من ينجيه منها؛ بل يودّ – المجتمع الهندي – أن يفوقة في مفاسده المهلكة، حتى يُعَدَّ «متطورًا» «متنورًا» «مُهَذَّبا» «متحضرًا» مثلَه، لا يُعْجِبُه؛ بل لايكاد يحتمل أن تُوَجَّه إليه نصائح تبدو أنها «نصائح إسلاميّة» تَمُتُّ بصلة أو بأخرى إلى تعليمات أَلْزَمَ بها الإسلامُ أبناءَه؛ ليكونوا إنساناً في معنى الكلمة، يرضاه ربُّه ويعيش هو آمناً مطمئنًّا، وينعم به جميعُ أعضاء المجتمع.

       فمسيراتُ احتجاج كثيرة متسلسلة قام بها شتى قطاعات المجتمع شارك فيها السيدات إلى جنب الرجال. والسيداتُ مُعْظَمُهُنَّ كنّ من الطبقات التي تُصَنَّف متحضرةً متنورةً بل أرستقراطيّةً، وأغلبهنّ كنّ ممن لا يمكن أن يُصَنَّفْن إلاّ ضمن «كاسيات عاريات» وكنّ يحملن لافتات ويافطات مكتوب عليها: «لا لاحتجابنا، وقَدْ سَاءَتْ نظراتُكم» و «لا لملامستكم إيّانا نحن السيّدات بدون رضاً منّا» وقد أشرنا أنّ مسؤولاً كبيرًا في شرطة دهلي أشار على السيّدات بالاحتشام الذي تقتضيه الأنوثة، فسخطت عليه جميعُ السيدات المسؤولات عن الإدارات الحكوميّة أو لجان النساء. ولم يقتصر الأمر على ذلك، بل خرجت السيدات «المهذبات» «المُتَنَوِّرَات» في مسيراتِ احتجاجٍ غاضبٍ ضدَّه، يمسكن بأيديهن يا فطات مكتوب فيها: «لا للمشاور الطالبانيّة، لا للمشاور الطالبانية». وكذلك نظمت السيّداتُ مظاهرةً صاخبةً بـ«بوابة الهند» بدهلي تعمدن فيها التجرّدَ عن الملابس، وعَمِلن به عن إعلان بذلك، فلم يكن على أجسامهنّ إلاّ خِرَقٌ متوزعةٌ على شتى أعضائهن التي قَصَدْنَ أن تبدو عاريةً لحدٍّ ممكن. وذلك احتجاجاً صارخاً منهنّ ضدَّ الاقتراح بالاحتشام الذي أسداه إليهنّ ضابطٌ شرطيٌّ كبيرٌ. وكنّ قد حملن في المظاهرة يافطات مكتوب عليها بخطّ عريض: «أَصْلِحُوا نظراتِكم، ولا تَنْظُرُنَّ إلينا».

       إنّ البنات في بلادنا لم يَتَعَرَّيْنَ لهذا الحدِّ، ولم يَتَجَرَّأْنَ على تحدّي الرجال حتى المسؤولين و أولياء الأمر في طفولتنا، أي فيما قبل خمسين أو أربعين عاماً؛ حيث إنّ الحضارة الغربية لم يَغْزُ أنذاك ربوعَنا لهذا الحدّ، ولم تحقق انتصاراتها بالشكل الرهيب الذي حقّقها به الآن، بعد ما صار العالمُ كلُّه قريةً كونيّةً، بل أصبح وكأنّه بيتٌ و فناؤه، بل بيتٌ و رواقه، فتقلّصت المسافاتُ بين نواحي الدنيا، وأصبحت المفاسدُ تطير من مكان إلى آخر، وكانت من ذي قبل تسير وتمشي على الأقدام فتصل من مكان النشوء إلى أمكنة أخرى خلال أعوام طويلة، وكانت تنزل رَذَاذًا، فصارت اليوم تنزل وابلاً كأفواه القرب، وغدتِ الحضارةُ الغربيّة منتصرة انتصارًا باهرًا على الحضارة الشرقيّة، وعادت تُؤْتِي أُكُلَها المُرَّ الخبيثَ الذي لو وَقَعَتْ قطرةٌ من عصارته في البحر لما شُرِبَ – في تعبير شاعر العربية العبقري الحكيم «المتنبئ».

       أسباب كثيرة اِحْتَشَدَتْ وتَفَاعَلَتْ واخْتَمَرَتْ، فتَمَخَّضَتْ عن هذه المفسدة الاجتماعيّة، التي أَقَضَّتْ مَضَاجِعَنا، وجَعَلَتْنا نَتَقَلَّبُ على أحرَّ من الجمر، وسَلَبَتْنا كلَّ راحة وطمأنينة، ومكمنُ الداء أننا لا ننتبه لرأس المفسدة، وأصلِ الداء، وننظر للقشور، ولا نتعمق في الجذور.

       الحقيقةُ أن العقلاء اليوم في المجتمع البشري يَتَخَبَّطُون خَبْطَ عشواءَ في إصلاح المجتمع، الذي يريدون أن يقوموا به في غنى عن كلّ ما أمر به الإسلام لإصلاح الإنسان، وتقويم المجتمع، وتصحيح مسار الإنسانيّة، وضبط أخلاق الجنسين من النساء والرجال والفتيان والفتيات، وتقييد كل فرد من البشر بالقِيَم الإنسانيّة والمُثُل الدينيّة.

       كيف يصلح الشباب والشابّات وقد فتح كلٌّ منهما ناشئًا عينيه على مناظر من الغرام الحُرّ المُطْلَق من كلّ قيد بين أبيه وفتاة أجنبية، وبين أمه وفتى من غير محارمها وغير قرابتها القريبة أو آصرتها الوشيجة. ورأى أبويه يشاهدان أفلاماً ماجنةً ومسرحيّات مُسْتَهْتِرَةً في دور السينما أو في أجهزة التلفاز الموجودة في البيت، ورآهما لايُبَالِيَانِ بالاحتشام وبالحجاب، ولا يقيمان لهما قيمةً. و وجدهما يُرَبِّيَانِه على الحرّية، وعلى الوقاحة، وعلى السفور، وعلى مُزَامَلَة الفتى والفتاة، ومُغَارَمَة أيّ فتاة أو فتى، ومعانقة أي رجل أو امرأة. و وَجَدهما يَسْمَحَان له أن يتعلّم في المدرسة والكلية والجامعة مختلطاً مع الفتيان والفتيات، والعيش مع أيّ بنت أو ابن كأنه زوجها أو زوجته، و وجدهما يعاقران الخمر، ويرتادان النواديَ الليليّة التي يجوز فيها كلُّ شيء، ويُسْتَبَاح فيها كلُّ نوع من الحرام، ويُمَارَسُ فيها كلُّ صنف من الغرام، و وجد مجتمعه يسمح بالزواج المثلي بين الفَتَاتَيْنِ أو بين الفَتَيَيْنِ أو تعايشهما معاً على مدى الحياة خارج إطار الزواج.

       إنّ أيّ قانون أو تشريع لا يُنْهِي الفسادَ الشاملَ المستشرىَ في المجتمع ما لم يتمّ سدُّ مصدره الذي ينبع منه. إن العلاج يجب أن يكون باستئصال أسباب المرض واقتلاع جذوره. أمّا بدون ذلك فلا يعنى تصرّفُنا إلاّ تصرّفَ من يُلقي أحدًا في البحر ويُؤَكِّد عليه أن يَحْذَرَ كلَّ الحذر أن يبتلّ بالماء هو أو ملابسه:

أَلْقَاه فِي الْبَحْرِ مَكْتُوفاً وَقَالَ لَهُ:

إِيَّـاكَ إِيَّــاكَ أَنْ تَبْتَـــلَّ بِالْـمَاءِ

       إذا سَمَحْنا لأسباب الفساد أن تنتشر وتروج وتغزو كلَّ مكان في المجتمع بل نزرعها ونَتَعَهَّدها بالسقي والريّ والتسميد في بيوتنا، وفي مدارسنا، وفي شوارعنا، وفي أسواقنا، فضلاً عن حدائقنا ومُنْتَزَهَاتِنا، وأمكنة الترفية والسياحة لدينا، ثم أَمَرْنَا فتياننا وفتياتنا بأن يجتنبوا التفاعلَ معه، والتورّطَ فيه، والإصابة بة، وأن يظلّوا زاهدين فيه ممتنعين عنه، فمعنى ذلك أننا نُرْكِبُهم عربةً يَجُرُّها حصانان، في جهتين مختلفتين، هذا إلى الأمام وهذا إلى الخلف. إننا في هذه الحالة نتعامل بالمتناقضات التي لم ولا ولن تتحقق في مكان واحد، في وقت واحد، من جهة واحدة.

       الفتى والفتاة إنسانان حَيَوَانَانِ، يَتَأَثَّرانِ ويُؤَثِّرَانِ، وليسا جمادًا لايتحرك ولايسمع ولايبصر، فيبقى على ما خَلَقَه الله عليه من الجمود والانغلاق والثبات وعدم التأثّر والتأثير.

       ولا قانونَ أقوى وأفعلُ وأنفعُ وأصلحُ من القانون الإلهيّ الإسلاميّ الذي عَرَّفه الله – خالق الإنسان والجن والكون بما فيه – إلى الإنسان عن طريق نبيّه الأعظم الخاتم – محمد صلى الله عليه وسلم – في كتابه الذي أنزله عليه مُهَيْمِناً على الكتب السماويّة كلِّها وفي الحديث الذي شرحه به ما جاء في الكتاب.

       إنّ الشرق والغرب مهما تنكّرا للإسلام ولتعاليمه، ونَشَدَا الصلاحَ في غنى عن الهدى الربانيّ والتعليم النبويّ، اللذين سبق أن أصلحا من البشر ما فَسَدَ، وأسعداه بعد شقاء طويل، وأناراه بعد ظلام دَامِسٍ، وأقاما مجتمعاً لم تعرف الإنسانيةُ مجتمعاً أسعدَ وأصلحَ وآمنَ منه منذ وُجِدَتِ الخليقةُ، ولن تعرف ليوم يرث الله الأرضَ ومن عليها؛ فإنهما لامعدى لهما عنها – التعاليم الإسلاميّة –؛ لأنها وحدها سفينةُ نجاةٍ للإنسانيّة، من رَكِبَها نجا ومن تَخَلَّفَ عنها غَرِقَ، مهما تشبّث بعود من أعواده الصناعيّة أو أَوَىٰ إلى «جبل» من جباله الخياليّة..

       لقد نصّ كتابُ الله عزّ وجلّ على النهي عن المفاسد التي دَمَّرت المجتعاتِ البشريّةِ اليومَ وأَكَّد على الانتهاء منها سيّدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم، ولقد تمتع المجتمع الإسلامي بالأمن والسلام والصلاح الشامل الكامل في ظلّ القوانين الإسلاميّة التي حَظَرَتِ السفورَ والاختلاطَ بين الجنسين والاختلاءَ بالأجنبيات، والخمرَ والميسرَ والأنصابَ والأزلامَ التي عَدَّتْها من عمل الشيطان. إنّها فَرَضَتِ الحظر الكاملَ على جميع دواعي الفاحشة والزنا، وأقامت السياجَ الحديديَّ حولَ حرمة كلٍّ من الرجل والمرأة، وحَصَّنَتْهُمَا بقوانين صارمة وعقابات رادعة.

       وطالما اسْتَهْزَأَتِ الدولُ والأممُ بقوانين الحدود والقصاص في الإسلام؛ ولكنّه كلما اشتدّت بها البلوى، وانسدَّت في وجهها طُرُقُ الخلاص، وعَمِيَتْ عليها وجوهُ النجاة، نَظَرَتْ إليها – القوانين الإسلامية – نظرةَ الاغتباطِ؛ ولكنّه ظلّ يحول بينها – الدول والأمم – وبينها – القوانين الإسلامية – ما يحول بين الإنسان وبين كثير من الخير، من النخوة الكاذبة، والغيرة القوميّة المُصْطَنَعَة، والحياء الشيطاني السَّرَابِيّ، والحاجز النفسيّ المُعَقَّد ذي أبعاد كثيرة، والانحياز الأَخْرَق لعاداتٍ أو منهجِ حياةٍ، أو أهواءٍ يتبنّاها الإنسانُ مُتَفَاعِلاً مع حضارة أو ثقافة تُلَبِّيَانِ إملاءاتِه الشيطانيَّةَ.

       وعلى ذلك يمكن أن يُحمل مواقفُ الفَتيَات المتظاهرات اللَّاتِي أَبْدَيْنَ في تظاهرهن غايةَ الكراهية نحو القوانين والتعليمات الصالحة التي شَمَمْنَ منها رائحةَ الإسلام، وكذلك مواقفُ بعض القضاة في بعض المحاكم الهنديّة، الذين رفضو الاستنادَ إلى اقوانين والشرائع الإسلاميّة والاهتداءَ بها، قائلين: إنّنا نحن الهنود لسنا بحاجة إلى توريد قوانينَ من بلاد أخرى، ولاسيّما البلاد العربيّة. وذلك عندما وَصَّت محكمةٌ فرعيَّةٌ في الهند خلالَ نظرها في قضيّة مرفوعة إليها خلال الأيام الماضية في مثل هذا الحادث المؤلم، بأنّه يتعيّن وضعُ قوانينَ جديدة للتغلّب على أمثال هذه الحوادث، من خلال دراسة قوانين جزاء مُتَّبَعَة في بلاد عربيّة.

       على كلٍّ فما يعيشه مجتمعُنا من دمار، إنما يعيشه لأنّنا قَلَّدْنَا الحضارةَ الغربيةَ ومُعْطَيَاتها المهلكة من ظواهر العري والعار، والفجور والخمور والسفور، واختلاط الجنسين دونما قيد، ومصادقة الفتيان للفتيات والفتيات للفتيان، وتبني جميع دواعي الفاحشة والزنا والغرام الحرام، من الأفلام الماجنة، والقصص والروايات والمسرحيّات المُدَغْذِغَة للغرائز الجنسيّة، والملابس الضيقة والعارية التي تُبْرِزُ فروجَ الفتى والفتاة والأعضاءَ التي يجب سترُها وعدمُ كشفها، والدراسة المختلطة في كلٍّ من المدارس والكليّات والجامعات بحجة العمل بحرية الإنسان، على حين إن الحريّة بدورها لها حدودٌ وضوابطُ، وإلاّ فإنها هي الأخرى تعود بلاءً لانهايةَ له للأحرار والمُتَمَتِّعِين بالحريّة أنفسهم.

       إنّه اليوم قد بَلَغَ السيلُ الرُّبَىٰ، وعادت المُتَحَرِّرَات والمتحررون من الفتيان والفتيات لايلتزمون بقيد، ولا يقفون على حدّ، وتَجَرَّأُوا على كلِّ قانون، حتى تَجَرَّؤُوا على قتل رجال التشريع والإدارة والتنفيذ. وأَحْدَثُ مثال لذلك أن المتظاهرين من الفتيان والفتيات بشأن حادث الاغتصاب الجماعي الذي نحن بصدد الحديث عنه، قتلوا في دهلي قبالة البرلمان الهندي والقصر الجمهوري اللذين هما رمز التشريع والإدارة في البلاد كلِّها، مسؤولَيْنِ شرطيينِ منعاهم عن تخطّي المتاريس التي أقامتها قوات الشرطة للحيلولة دون اقتحام القصر الجمهوري.

       وأيضاً أَحْدَثُ مثال لذلك أنّ كُلِّيَّةً بولاية «هاريانا» المجاورة لدهلي فرضت الحظرَ مؤخرًا على ارتداء الطالبات ملابس «الجينس» الذي صار موضةً طاغيةً اليوم، فصِرْنَ احتجاجاً صارخاً عنيفاً في وجه عميدةِ الكليّة وأَرْغَمْنَها على سحب أمرها بذلك.

       أمثالُ هذه الحوادث تُشَكِّل مُؤَشِّرًا خطيرًا، وتدلّ واضحاً على أن المجتمع فَسَدَ لحدّ التعفّن، مما يُحْوِجُ إلى اتّخاذ خطوات عاجلة جادة مُتَّصِلَة مُكَثّفَة نحو استئصال جذور الداء. الأمرُ الذي لايقدر عليه إلاّ القوانين الإسلاميّةُ أو التي تصاغ استنارةً بها واستقاءً منها. وكلّما أسرعت الدنيا المجنونة إلى ذلك كانت أسرَع خطىً إلى الأمن والسلام اللذين تَعِبَتْ في البحث عنهما في غير الإسلام، وعَادَتْ مجهودةً مكدودةً، مُصَابَةً بالإحباط والخسارة.

(تحريرًا في الساعة 10 من الليلة المتخللة بين الخميس والجمعة: 13-14/صفر 1434هـ = 27-28/ديسمبر 2012م)

نور عالم خليل الأميني

nooralamamini@gmail.com

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم  ديوبند ، ربيع الأول 1434 هـ = يناير ، فبراير 2013م ، العدد : 3 ، السنة : 37

Related Posts