دراسات إسلامية

بقلم: الإمام محمد قاسم النانوتوي المتوفى 1297هـ /1880م

تعريب : الأستاذ محمد ساجد القاسمي (*)

التاسع: بين أنه لايمكن أن يكون الإنسان مكلفًا فوق طاقته الإنسانية، وبين أنه لايكون مكلفًا فوق طاقته الإنسانية كبيرُ فرقٍ. لا شك أنه لايكون مكلفًا فوق طاقته. غيرأنه مما يدعو إلى العجب أن لا يكون الإيمان وما تتوقف عليه النجاة في الآخرة من الأحكام غيرَموافقٍ للعقل.

       أيها الشيخ! إن السبب في عدم تكليف الإنسان مالايطيقه هو أن الغرض من وراء التكليف هو الأعمال المكلف بها، لا التكليف بذاته، حتى يقال: إن الله تعالى كلَّف عباده بالعمل فحسب، وأما عباده فسواء استطاعوا العمل أو لم يستطيعوه. فلو كان الأمر كذلك لقلنا: إن هذا النوع من التكليف كان ممكنًا، فأي عيب لو كلَّفنا الله هذا التكليفَ. إنَّ الهدف المنشود من التكليف هو العمل بدوره، ومن الواضح أن العمل يحتاج إلى القوة العاملة لا إلى القوة العاقلة، حتى يحول عدم الاطلاع على الأسرار والمصالح للأعمال دون التكليف بها.نعم لابد في التكليف من  العلم بغرض العمل.

       فإن كان معنى عدم موافقة العقل أن يدرك عقل العامل أسرارعمله ومصالحه ومنافعه وعلله فهذا خطأ واضح. وإن كان معناه أن عقله يرى خلافه فهذا ممكن، لاسيما وفق من يرون أن علة الحسن والقبح صفة ذاتية للأحكام  بالإضافة إلى الأمرو النهي، غيرأنه لايكون من الله كذلك. هنا يجب أن يوضع في الاعتبار أنه لاعبرة بعقولنا في هذا الشأن؛ فالعقول التي فسدت لإصابتها بالمرض الروحي وفقًا لقوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ﴾ (الأحزاب، الآية: 12) فسادَ الحاسة الذائقة للمصاب بمرض اليرقان. وإنما يدرك ذلك عقول من هم أصحاء معافون من الأمراض الروحية حسب ما قال تعالى: ﴿إِلا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾ (الشعراء، الآية: 89) صحةَ ومعافاةَ من هم بنجوة من مرض اليرقان.

       العاشر: إن كان معنى حسن الأفعال المأمور بها في نفسها وقبح الأفعال المنهي عنها في نفسها هو أنَّ حسنها وقبحها صفة ذاتية لها- كما يتبادرالذهن من اللفظ إلى هذا المعنى- فهذا ليس بصواب؛ لأن الصلاة وقتَ غروب الشمس وطلوعها وصوم العيدين وصوم أيام التشريق حسن لذاتها، وقبيح لاقترانها بالوقت، وكذلك قتال بني آدم والخدعة في الحرب – مما لاغنى عن الاعتقاد بصحته لمن يؤمن بالكتاب والسنة – قبيح لذاته وحسن لاقترانه بإعلاء كلمة الله.

       وإن كان معنى حسن الأفعال وقبحها هو أن الأفعال المأمور بها و المنهي عنها تتمتع بالحسن والقبح في قليل أو كثير، فنحن نسلم بذلك، غير أنه يلزمنا أن نسلم أنه من الأفعال المأموربها ما هو حسن لذاته، مما إذا عرضَ يجعل الأمور القابلة للحسن حسنَةً. كذلك من الأفعال المنهي عنها ما هو قبيح لذاته مما إذا عرض الأمور الأخرى يجعلها قبيحة لغيرها.

       ثم يُوسَّع هذا المبدأ إلى مابعد عصر الرسولﷺ، بأنه إن عرض شيئا حسن أوقبح كان من الأعمال المأمور بها أو من المنهي عنها، غير أن هذا المامور به أو المنهي عنه كان أحطَّ درجة من الأعمال المأمور بها والمنهي عنها في عصره ﷺ ، مثل جمع القرآن وتدوين الكتب ومعرفة أحوال الرواة ومراتب الحديث من الأعمال المأموربها بعد عصره ﷺ، ومنع النساء عن المساجد من الأعمال المنهي عنها بعد عصرهﷺ. وقس على هذا استخدام الأسلحة الجديدة والاشتغال بما يأمره رجال التزكية والإحسان من الأعمال. كذلك من الممكن أن يكون عمل- بسبب اقترانه بالحسن- مأمورًا به أومنهيًا عنه في بلد ولا يكون كذلك في بلد آخر، أو يكون مأمورًا به أو منهيًا عنه بأقل مرتبة منه.

       ثم ما قال من أنَّ»الرسل إنما يكشفون عن حسن الأفعال وقبحها« إن كان معناه هو أن الأنبياء كالأطباء يصفون منافع الأدوية ومضارها، وليسوا آمرين فهذا ليس بصواب. وإلا فماذا معنى الثواب والعقاب؟ أي إن كان الثواب والعقاب لازمًا للأعمال الحسنة والقبيحة لزومَ لوازم الذات لملزوماتها، فحينئذ يمكن لنا أن نقول: كل هذا يتم بشكل آلي. وإن كان المعنى أنهم آمرون وواصفون فنسلم به، إذًا فيجب على كل أحد معرفة حسن وقبح المأمور به المنصوص عليه. وأما حسن وقبح المأموربه غير المنصوص عليه- بسبب الاقتران الذي سبق ذكره- فلا يكون كل من هبَّ ودبَّ من الناس مسموحًا بوصفه أو معرفته. لابدَّ لمعرفة ذلك من العقل والذكاء بقدر ما يتمع به أصحاب مرتبة الحكمة؛ لأنه لايعرف عرضَ الأمور المقترنة واقترانَها وكميتَها وكيفيتَها إلا من يعرف النسبة الحكمية الحقيقية من النسبة الحكمية غير الحقيقية.

       الحادي عشر: لا تقل: إنَّ »أحكام الدين الإسلامي كلها توافق الفطرة«. نعم إنَّ حسن الأحكام التي هي حسنة لذاتها أوقبح الأعمال التي هي قبيحة لذاتها فطري. وأما الأحكام الحسنة أو القبيحة لغيرها فهي لاتكون مستحبة دائمًا ولا مكروهة دائمًا. فهي ليست مستحبة ولا مكروهة لذاتها وإنما هي مستحبة أو مكروهة لغيرها.فإذا زال ذلك الغيرتبدّل استحبابه أو كراهته غيرهما. فإ ن جاز تناول الأغذية والأشربة المحرمة للجوع أوالعطش الذي يخاف منه على النفس، فهذا الحكم مقصور على المخمصة، ولايكون هذا الحكم فطريًا، نعم يمكن لنا أن نصفه فطريًا حالة المخمصة.

       ثم إن فطرتنا ليست في عداد أي شيء، فنحن مفقودو الفطرة، لأن الفطرة هي من الروح كالصحة من الجسم، والصحة عبارة عن حالة للجسم قبل تعرضه للمرض، فإذا تعرض الجسم للمرض فُقِدت الصحة. فإن تسترت صحة الجسم بعد تعرضه للمرض ولم تفقد فماذا يجدي نفعًا، لأن التستر والفقدان سواء. فإن تسترت الفطرة ولم تفقد فالتستر والفقدان سواء. على هذا فالكفرة والفجرة يكرهون الإيمان والتقوى دائمًا.

       فإن كان هنا من يكره المعصية ويتأذى بها كما جاء في الحديث الشريف:»إذا سرتك حسنتك وساءتك سيئتك طاعة«فهم من أصحاب الفطرة. غيرأنه ليس قلب أحدٍ سوى قلب النبي ﷺمقياسًا لمعرفة الصحيح والخطأ من معاني القرآن والحديث. نعم إن القرآن والأحاديث الصحيحة يكون مقياساً لمعرفة  صحة وسقم الوجدان والفطرة. فإن كان وجدان وفِطَر أهل الوجدان والفطرة يوافق هذا المقياس فهم أصحاء وجدانًا وفطرة، وإن لم يوافقه فهم مرضى وجدانًا وفطرة. وأما القرآن والحديث فلايكون خاطئًا لعدم الموافقة؛ لأن القلوب السليمة-كالأجسام الصحيحة- معرَّضة للأمراض دائمًا. وأما القرآن والحديث فهما ليسا موردًا للصحة والخطأ بحيث يصحان حينًا ويخطئان حينًا آخر. فالأحاديث الصحيحة صحيحة دائمًا، والأحاديث الموضوعة موضوعة دائمًا. ومن الواضح أن القرآن والأحاديث المتواترة لايحتمل الوضع والخطأ أصلا. وأما الأحاديث الصحيحة غيرالمتواترة فهي – ولاشك- تحتمل الخطأ ومخالفة الواقع؛ لأن صحتها – حسب مصطلح المحدثين- ليست بمعنى مطا بقة الواقع.

       هذا- كرجل صادق قد يخطئ في حديثه لسوء الفهم- نادر قليل الوقوع، وليس- كعرض الأمراض لاسيما الأمراض الروحية- كثير الوقوع وعديم الزوال حتى ينقلب الأمر أو يكون مثله.

       ولايصح على العموم ما قال:» لولا الأمر كذلك لكان عدم الرؤية بالنسبة إلى الأعمى والرؤية بالنسبة إلى البصير معصية من المعاصي« فهذا لايليق بهذا الموضع؛ لأن استطاعة البصارة ليست فطرة ولاعدم استطاعة البصارة  غيرموافق للفطرة، نعم صحيح بما قدمت من التعبير.

       الثاني عشر: رزق الإنسان اختيارًا مستعارًا آخر، وهذا الاختيارالإنساني له علاقة باختيار الله تعالى علاقةَ القلم بأيدينا أوعلاقة أمس الدابر بالغد المقبل، ولولا الأمر كذلك لما صح إطلاق العطاء الإلهي على الاختيار الإنساني؛ لأن كل موصوف بالعرض يكون له موصوف بالذات، وإلا لم تكن حرارة الماء ونور الشمس محتاجة إلى النار والشمس. فكما أن كل موصوف بالعرض يكون له موصوف بالذات كذلك يجب التجانس بينهما. فكيفما يكون الوصف العرضي يكون الوصف الذاتي. فالنورالمنتشر على الأرض يتولد من الشمس لا من حرارة الشمس ولا من برودة الماء. فيلزم من ذلك أن الإرادة الإنسانية هي انعكاس لإرادة الله، فكما أن حركة النور المنتشرعلى الأرض تتوقف على حركة الشمس وأشعة نورها، وليست مستقلة بذاتها كذلك حركة الإرادة الإنسانية تتوقف على حركة الإرادة الإلهية، فقد قال تعالى: ﴿وَمَا تَشَاءُونَ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِين (التكوير، الآية: 92)

       فإن كان الإكراه عبارة عن هذا التوقف، فإنكارالإكراه في هذا المعنى خطأ كبير وزلة عظيمة لايتصورغفرانها إلا بالتوبة. وإن كان المعنى أن العبد صاحب إرادة واختيار- لا كالخشب والحجر الذي ليس من ذوي العقول والذي لايتمتع بالإرادة- فهذا أمر بدهي. غير أن هذا المعنى لا يستنبط  بسهولة من سياق وسباق نص الرسالة الذي ذكرقبل الاستثناء وهو »غير أن الإنسان ليس مجبرًا على استخدام تلك القوى أو تركها«. وإن كان المعنى أن الإنسان منح الإرادة، وعلاقة إرادته بإرادة الله كالعلاقة التي ذكرتها، وليس مجبرًا كالأحجار والأشجار حتى لاينسب إليه الفعل سوى الانفعال فمعترف به. إذًا فإنكار جواز التكليف، وفكرة عدم جواز الثواب والعقاب – كما يتوهم فيمايبدو- كان خرافة؛ لأن التكليف -إذًا- كان كصقل المرآة وغيرها، فالمرآة بعد صقلها قابلة للانعكاس، وغير المرآة بعد صقله غير قابل للانعكاس، مما يفحم المعارضين للدعوى.

       فكما أن الصيرفي ينقد الذهب ويظهر جودته ورداءته إقناعًا للمشتري وإفحامًا له، لالنفسه. كذلك فالتكليف من الله تعالى إيضاحًا للتفاوت في مراتب الانفعال والامتحان منه تعالى إقامة للحجة ﴿لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَملاَ﴾ ( الملك، الآية:2) أو استخبارًا أواستفسارًا وثوابًا وعقابًا. فكما أن المرآة توضع أمام العين، والأحجارو الأشجار تُنَحَّى جانبًا، ففي وضع المرآة أمام الوجه تكريم لها، وتنحية الأشجار والأحجار من الأمام إهانة لها، كذلك اعتبروا الثواب والعقاب من الله لبيان مراتب ظهور الفعل، فكما أن المرآة- بعد ما ينعكس عليها نورالشمس وتنفعل هي به- تُصدرنورًا وتصح نسبة الفاعلية  إليها، كذلك تنعكس الإرادة – بعد قبولها-  على المرادات البشرية انعكاسَ النور المنعكس في المرآة على ما حوله من الأبواب والجدران. فهذا التكريم نتيجة الفاعلية.

       الثالث عشر: ينبغي أن يُعبَّر أن ما يتصل من الدين بالأحكام اليقينية يقيني، وما يتصل من الدين بالأحكام الظنية ظني. فالأحكام اليقينية من الدين يقينًا، والأحكام الظنية من الدين ظنًا. على كل فالدين عبارة عن كليهما، لا تفاوت بينهما إلا ظنًا ويقينًا.

       الرابع عشر: ينبغي أن تقسم الأحكام- وفقًا للمبدأ- إلى قسمين. ثم يقسم القسم الأول منهما إلى قسمين. الأول: الحسن أو القبيح لذاته من الأمر والنهي، والثاني: الحسن والقبيح لغيره من الأمرو النهي. فالقسم الأول- الحسن والقبيح لذاته من الأمر والنهي- يوافق الفطرة ولاريب، وأما غيره فلا. اللهم إلا أن نؤوِّل القسم الثاني حيث نقول: إنه يوافق الفطرة بالعرض لا بالذات. إذًا فتقسيم القسم الأول لغو، بل التقسيم الأول بدوره ألغى وأعقم؛ لأن تقسيم القسم الأول محتاج إليه لمعرفة الذات والعرض، وأما التقسيم الأول الذي قام به هو فلا حاجة إليه.

       على كل فما قال:» أنَّ كلا النوعين يتساويان في العمل والطاعة« فإن كان معنى ذلك أنَّ كلا النوعين في مراتب الحسن والقبح سواء فهذا خطأ؛ لأنه قد سبق أن ذكرت أن الحسن والقبح يتفاوتان، فالموصوف بالذات يكون أكمل من الموصوف بالعرض دائمًا، والشمس أكثرنورانية من المرآة، مما على الأبواب والجدران من النور.

       ومن هنا ينبغي أن تتفاوت مراتب الأمر والنهي بتفاوت الحسن والقبح، فتفاوت الفرضية والوجوب والسنية والاستحباب والحرمة والكراهة تحريمًا وتنزيهًا والإباحة تتفرع من مراتب الحسن والقبح؛ لأن الله هو الحاكم، والمحكوم به هو العبد، ونص الحكم هو صيغة الأمر أوالنهي، فمن أين جاء هذا التفاوت في الأحكام؟ فإن ثبت التفاوت في موضع أو موضعين بالكلمات والتعبيرات فما السبيل إلى معرفة الفروق المعلومة الباقية؟ على كل فالتعبيرات والكلمات تكون مخبرة بالمطالب والمفاهيم لا عللا للحوادث، والحوادث كلها تحتاج إلى العلل. وإن كان المعنى أن الأحكام كلها واجبة الامتثال مهما كانت مرتبتها عند الله فهذا أمر صحيح. ومعنى ذلك أن الوجوب والاستحباب يتفاوتان مرتبة ويتشابهان صورة، فأربع ركعات من المكتوبة تشبه أربع ركعات من التطوع في الأداء، وكذلك ثلاث ركعات من المكتوبة تشبه ثلاث ركعات من الوترفيه.

       وهنا لابد من تحقيق وهوما هو أمارة الأحكام الأصلية، وماهو الأحكام التي شرعت حفاظًا على الأحكام الأصلية؟ فأقول: تحقيق ذلك -حسب ما يليق بهذا المقام- أن الطاعات والمعاصي لها أنواع كثيرة، وفي كل نوع أمر مقصود بالذات، وأمر مقصود بالعرض،  فمثلا من الطاعات أوامر أبواب الصلاة نوع، وأوامر أبواب الزكاة نوع آخر، وأوامر أبواب الصوم نوع ثالث، وأوامرأبواب الحج نوع رابع. ثم في الأوامر المتصلة بالصلاة أن الصلاة هي مأمور بها بالذات، وأن الطهارة وحضور الجماعة والوقوف في الصف الأول وموافقة تكبيرة الإحرام والوقوف بالقرب من الإمام وانتظار الجماعة في المسجد والوضوء قبل موعد الصلاة كلها مأمور بها بالعرض، وأما الو قوف في الصف الأول هو عرض العرض؛لأن الغرض الأكبر من وراء هذه الأمور كلها هو المحافظة على الجماعة في المسجد، والفرق بينهما ظاهر. فمن لا يعرف أن الجماعة – بصرف النظرعن الصلاة- لا ثواب  فيها، وإلا فالوقوف في التدريبات العسكرية بشكل منظم كا ن من الطاعات. وقس على هذا الأمور الأخرى. وإن كانت الطهارة مقصودة بذاتها فلا شك أن الطهارة التي تمت المطالبة بها في قوله تعالى: ﴿إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ﴾ (المائدة، الآية:2) هي للصلاة، وليست مقصودة بذاتها.

       وأما المعاصي فهي أنواع وأشكال كذلك، مثل الزنا، وشرب الخمر، وأكل الربا، وما إلى ذلك، فالزنا منهي عنه بذاته، فيحرم من الأقارب وغيرهم، وأما التقبيل والعناق فهو منهي عنه بالعرض، وذلك لئلا يؤدي إلى الزنا. وأما التقبيل والعناق فهو ليس منهي عنه بالذات، وإلا لماجاز تقبيل البنت والأخت والأم وعناقهن، بل كان التقبيل والعناق منهن أشد نهيًا من غيرهن. على هذا فيمكن أن نسمي المأموربه والمنهي عنه بالذات مقاصد، والمأمور به والمنهي عنه بالعرض وسائل ودواعي.العلاقة بين هذين القسمين هي علاقة المصباح بالمرآة وقت انعكاسها.

       وهناك قسم آخرمن الأحكام التي ليس الغرض من ورائها هو التعبد والتذلل، غيرأنها تتضمنهما لإطاعتها، وإنما الغرض من ورائها هو صيانة حدود الأحكام من التغييربمرالعصور والدهور، مثلا: إن الصلوات التي بعدها صلوات تطوع ينبغي الفصلُ بينهما بالزمان كالدعاء وقراء ة الأدعية المأثورة أوسورة من السور أوالتسبيحات أو التحميدات أوالتكبيرات، وبالمكان كالتنحي ذات اليمين أوذات الشمال.

       وهكذا فقد جاء النهي عن الصوم قبل رمضان وبعده توًا، وورد الأمر بتأخير السحور وتعجيل الإفطار، وذلك أن الغرض من هذه الأحكام هو أن لا يتعدى حدود الله شيئًا فشئيًا وتتطرق مفسدة إلي جمال أحكام الإسلام وتعاليمه، كما تتطرق المفسدة إلى الرز إذا أضيف إليه السمن والسكر أكثر مما يجب لدى طبخه، أوكبرفي شخص عضوأو طال أكثر من أعضائه المتناسبة الأخرى، أوطال جزء في قميص أكثر من أجزائه الأخرى.

       قد عرفنا – مما تقدم – أن العبرة في هذا الباب بمن له حاسة إدراك الجمال، فالأعمى لا رأي له في جمال بني آدم، ومقطوع اللسان لا عبرة برأيه في لذة الأطعمة.

       ومن الواضح البين أن الأنبياء يتمتعون بهذا النوع من البصيرة التي يمكن بها إدراك جمال وجه الإسلام كما يمكن لنا بالعين إدراك العين والأذن والأنف والخد في الشخص ، ولم نرزق تلك البصيرة، فنحن غارقون في الأسباب.

       كما عرف – مما قلت- أن موطن هذه الأحكام هي الأحكام التي لها صورمراعية. وأما الأحكام التي ليس الغرض منها صورة وإنما الغرض منها هوالمعنى لاغير، كالجهاد غرضه الأساسي إعلاء كلمة الله في النهار والليل وفي الشرق والغرب وبالسهام والبنادق وبالركوب وبالمشي على الأقدام. فهذه الأحكام مطلقة بالنسبة إلى الاحكام السابقة، فينبغي أن نسمي هذه الأحكام مطلقة وتلك مقيدة. وأما أحكام المحافظة فلا دخل لها.

       فلما تقرر ذلك فنستطيع أن نسمي أحكام المحافظة الأحكامَ التنظيميةَ ونقول: إن علاقة هذه الأحكام بالمقاصد والوسائل علاقة المصباح بالمشكاة أوعلاقة المرآة بالمربع الذي يحيط بها. وليس الغرض أن جميع ماسوى الأحكام التنظيمية هي الاحكام الموافقة للفطرة، بل إن بعض الوسائل- لبعدها عن المقاصد رتبة أو خفاء عروضها بالعرض-  ليست مرغوبًا فيها ولا غير مرغوب فيها. وإن نعد الوسائل من الأحكام التنظيمية ونسميها باسمين آخرين كان صوابًا، ثم لا بد من مراعاة  ما في المتفرع عليه من الأمور في التفريعات.

*  *  *


(*)                                    أستاذ الأدب العربي بالجامعة الإسلامية دارالعلوم ديوبند، الهند.

                                Email- sajidqasmideoband@gmail.com

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم  ديوبند ، ربيع الأول 1434 هـ = يناير ، فبراير 2013م ، العدد : 3 ، السنة : 37

Related Posts