دراسات إسلامية
بقلم: العلامة المحدث الشيخ عبد الفتاح أبي غدة – رحمه الله – (1336-1417هـ)
نسعد فيما يلي بنشر تعريف بكتاب «فتح الملهم» شرح صحيح الإمام مسلم – رحمه الله –، الذي وضعه أحد أبناء الجامعة الإسلامية دارالعلوم/ديوبند: العلامة شبير أحمد العثماني الديوبندي ثم الباكستاني – رحمه الله – (1305-1369هـ) وهو ممزوج بتنويه لائق بخدمات وجهود علماء الهند في مجال التأليف في موضوع الحديث وعلومه، قام به العلامة المحدث العالم الصالح الزاهد الأوّاب الشيخ عبد الفتاح أبوغدة الحلبي الشامي – رحمه الله – (1336-1417هـ) في مقدمة كتاب «مبادئ علم الحديث وأصوله» الذي هو في الأصل مقدمة وضعها العلامة شبير أحمد العثماني لكتابه «فتح الملهم» أفردها العلامة أبوغدة – رحمه الله –، وتناوله بالشرح والتعليق، وسمّاها «مبادئ علم الحديث وأصوله» و وضع لها بقلمه مقدمة قيمة عَرَّف فيها بالكتاب وأهميته البالغة، وبصاحبه العلامة شبير أحمد العثماني، وبخدمات العلماء الهنود في مجال الحديث وعلومه. واعتنى بإخراج هذا الكتاب: «مبادئ علم الحديث وأصوله» نجل الشيخ أبي غدة، الشيخ سلمان عبد الفتاح أبوغدة – حفظه الله –.
وقد تكرم بإرسال صورة من مقدمة الشيخ أبي غدة لهذا الكتاب إلى كاتب السطور: نور عالم خليل الأميني عالمُ غجرات الكبير في عصره فضيلة الشيخ عبد الله بتيل الكافودروي – حفظه الله –، فله الشكر الجزيل والجزاء الأوفى من الله. (رئيس التحرير)
ترجمة المؤلِّف(1)
هو الإِمام العلامةُ، ومحقِّقُ العصر، الجِهْبِذُ الحُجَّة، المفسِّر الألمعي، المتكلِّم المِحجاجُ، الفقيهُ البارعُ، البحّاثةُ النظَّارُ، الخطيبُ المِصْقَعُ، شيخُ الإِسلام: الشيخ فضلُ الله، المشهورُ بـ«شَبِّيْر أحمَد» العُثمانيُّ، الهنديُّ الدِّيُوبَنديُّ ثم الباكستانيُّ الكراتشويُّ ابنُ الأديبِ الأريبِ أحدِ أفاضل بلدة دِيْوْبَنْد، وأحَدِ مؤسِّسي (دارالعلوم ديوبند) أزْهَرِ الأقطار الهندية، الشيخِ فضلِ الرحمن العثمانيِّ الهندي الدِّيُوبَنْدي.
مولده ونشأته:
وُلِدَ في 10 من المحرَّم الحرام سنة 1305= 1889، في بلدة بَجْنُور بالهند، حيثُ كان والدُه الشيخُ فضلُ الرحمن رئيسَ دائرة شؤون التعليم، وسمّاه والدُه: فَضْلَ الله، وإن اشْتَهَر بعدُ بـ شَبِّيْرْ أحمد، كما ذكره الشيخُ نفسُه في خاتِمة «تفسيره» للقرآن الكريم، فقال: «… العبدُ الفقيرُ فضلُ الله المدعو بـ شَبِّيْرْ أحمد بن مولانا فضل الرحمن العثماني، كان أبي سمّاني (فَضْلَ الله) وكان يقول: ﴿ذلك فضلُ الله يُؤتيهِ من يشاء﴾، ولو كرِهَ الأعداءُ من كلِّ حاسِد».
وينتهي نسبُه إلى الخليفةِ الثالثِ أميرِ المؤمنين سيِّدنا عثمانَ بنِ عَفَّان رضي الله تعالى عنه، وساق النسبَ بتمامِه تلميذُه الأستاذُ الفاضلُ العلامةُ الشيخ أنوارُ الحَسَن الشِّيْركُوتي في كتابِه «حياتِ عثماني».
ولـمَّا بلغ السابعةَ من عمرِهِ شَرَع في قراءة القرآن الكريم على الحافظ نَامْدَار مدرِّسِ دار العلوم وغيرِه، ثم دَرَس الكتبَ الأرديةَ وغيرَها عند والدِه وغيرِه، وفي سنة 1314 حينما كان في التاسعةِ من عمرِهِ، شَرَع في تلقي الكتب الفارسية وأشياء من الرياضي عند الأستاذ المنشي منظور أحمد، ثم عند الشيخ الجليل مولانا محمد ياسين، وهو والدُ كبير علماءِ باكستان في القرن المنصرم شيخِنا العلامة المفتي محمد شفيع الدِّيُوبَنْدِي ثم الكراتشوي، مؤسِّسِ دارالعلوم الإِسلامية فيها.
بدء دراسته وكبار شيوخه:
ومن عام 1319 بدأ في دراسةِ العلومِ الإِسلاميةِ والعَرَبيةِ، فتَلَقَّاها عن نُبغَاءِ مشايخ الهند أساتـذةِ دارالعلوم ديوبنـد، وجَهَابِذةِ العلومِ النقليةِ والعقليةِ وفُحولِها، الذين جَمَعُوا إلى علومِهم الناضجةِ الشرعية: مَعارفَ الصلحاء والأولياء، وجَمَعُوا إلى دقَّةِ المَدَارِك وإصابة الرأي: رِفْقَ القولِ وصِدْقَ اللهجة، وكانوا أصحابَ هيئةٍ ووقارٍ، وأصحابَ سُنَّة ووَرعٍ وزُهدٍ وتقوى، عُلمَاء عُرفَاء ربَّانيين أصفياء.
وممن تلقى منه المؤلّفُ من بين هؤلاء: شيخُ العالَم، ومُسنِدُ الوقت، الشيخ محمود حَسَن الدِّيُوْبَنْدي، المعروفُ بشيخ الهند، والشيخُ الفقيه النابغة مولانا عزيزالرحمن الديوبندي، أخو المؤلِّف لأبيه، والشيخُ الحكيم محمد حسن، شقيقُ شيخ الهند، والشيخُ محمد ياسين الشِّيْرْكُوْتِي، والشيخ غُلاَم رسول الهَزَارَوِي، والشيخُ العلامةُ النظّار السيِّد مُرْتَضَى حَسَن الصَّاندفوري، والشيخ الحافظ محمد أحمد، نجلُ بحرِ المعارِفِ والعلوم الشيخِ الحجةِ محمد قاسم النَّانُوتَوِي قَدَّس الله رُوحَه، وغيرُهم من الأجلَّة، رحمهم الله تعالى ورضي عنهم.
تلقّى الشيخُ المؤلِّفُ عن هؤلاء: الحديثَ، والتفسيرَ، والفقهَ، وأصولَه، والقراءةَ، والتجويدَ، وعلمَ أصولِ الدين، والمعاني والبيان، والنحوَ والصرفَ والأدبَ، والمنطقَ والفلسفةَ والهيئةَ، وغيرَها، بكلِّ إتقانٍ، وفاز بسَنَدِ الإِتمام والفراغ من الدراسة العليا متميّزًا بمَواهِبِه وخصائصِه على سواه من الطلبةِ النابهين، وحائزًا مرتبةَ الشرفِ الأولى، سنة 1325 و هو ابنُ 20 سنةً، وهي سِنٌّ صغيرةٌ لا يَرْتقي فيها إلى ذِرْوَةِ هذه المنزلةِ العُليا إلَّا الأفذاذُ العباقرةُ النابغون.
تفوقه وشدة ذكائه وتوظفه مدرساً:
وكان من الذكاءِ المُفرِط، والفهم الواسعِ الدقيق، والإِتقانِ النادرِ العجيبِ، بمقامٍ عالٍ جدًّا، بحيث كان يَدرُسُ عنده – في أوانِ تحصيلِه – طلبةُ الصفوفِ النِّهائية – وفيهم من هو أكبرُ منه سِنّاً وطبقة – جميعَ الكتب من الفنون المختلِفة من غيرِ أدنى تحرُّجٍ منهم في ذلك.
ونظرًا لمزيد تفوُّقِه وبالِغ ذكائِه ونبوغِه عُيِّن مدرِّساً في دارالعلوم عام 1326 بعد فراغه مباشرةً، ثم أرسلَه بعد عدة أشهرٍ مديرُ دارالعلوم الشيخُ الأديبُ الأريبُ حبيبُ الرحمن العثماني – أخو المؤلِّف لأبيه – إلى مدرسةِ فَتَحْفُوري بدِهْلي – أكبرِ المدارس بدِهلي وقتئذٍ – صَدْرًا للمدرِّسين هناك، وذلك حينما طَلَب أهلُ تلك المدرسة من المدير المذكور أستاذًا ماهرًا يُدرِّسُ فيها، فأقام المؤلِّف هناك سنتين يُدرِّسُ أمَّهاتِ الكتب من الحديثِ والعلومِ الأخرى.
ولكنَّ أعضاءَ دارالعلوم ديوبند لم يَرْضَوْا بإقامةِ عبقريٍّ مثلِه في غيرِ دارالعلوم، فَأعادوه إلى دارالعلوم في شوّال عام 1328، فجَعَل يدرِّسُ العلوم النقلية والعقلية فيها إلى سنة 1346هـ، واستفاد منه في تلك البُرْهة رجالٌ من الأفاضلِ وأماثلِ العصر، وتَخرَّج به وبإمام العصر السيِّد محمد أنور شاه الكشميري – في تلك الفترة – أكثرُ من ألفَيْ خِرِّيجٍ ممن قرأوا عليهما أمَّهاتِ كتبِ الحديث.
تدريسه صحيح مسلم ثم البخاري:
وكان الشيخ قد تولَّى تدريسَ «صحيح مسلم» و«سنن أبي داود» من عام 1328هـ في حياةِ شيوخِهِ الأجلَّة، وأفادَ الكبارَ والصغارَ في الفنون كلِّها، وأجاد في كلِّ ذلك وأبدعَ، وأخيرًا قد قَصَر هِمَّتَه على علمَيْ الكتاب والسنَّة، فأفاد ما شاء الله.
ولمّا استقال من منصبِ دَرْسِه في ديوبند سنة 1346هـ رَحَلَ في شهر ذي الحجة من خاتمة تلك السنة إلى مدرسةِ دابهيل في سُوْرَتْ الهند، مع إمام العصر الشيخ السيِّد محمد أنور شاه الكشميري، فأصبَحتْ تلك المدرسةُ بوجودهما جامعةً كبيرةً تُشدُّ إليها الرحال.
وتولّى الشيخُ هناك تدريسَ «صحيح مسلم» و«تفسير البيضاوي» وغيرهِما من الكتب الجليلة، ولما تُوفِّي الشيخُ محمد أنور الكشميري سنة 1352هـ تولّى الشيخُ المؤلِّف تدريس «الجامع الصحيح» للإِمام البخاري، وعُيِّن صدرًا للمدرِّسين بها، وأفادَ الطلبة والشيوخ هناك إلى عام 1361.
وفي أيامِ قيامِه بجامعةِ دَابهيل عَيَّنَه أعضاءُ دارالعلوم ديوبند الرئيسَ الأوَّلَ لها مع قيامه في دابهيل وذلك عام 1354هـ، فأدَّى واجب المَنْصِبَينِ: صدارةِ التدريس في جامعة دابهيل، ورئاسةِ شؤونِ دارالعلوم ديوبند بكلِّ إحسانٍ وإخلاصٍ.
وفي عام 1361هـ تفرَّغ لدارالعلوم على طلبٍ من أعضائِها واعتزلَ عن جامعة دابهيل، ثم استَقَالَ من منصبِه بدارِ العلوم في أواخر تلك السنة ورَجَع إلى جامعة دابهيل في ربيع الأول سنة 1362هـ بطلب من أهلِها صَدْرًا للمدرِّسين فيها، واشتغل ثانياً بتدريسِ «صحيح البخاري» هناك، وبقي كذلك إلى شعبان سنة 1363هـ، ثم رَجَع إلى بيته بديوبند في العطلة السنوية، ولَحِقه مرضُ وجعِ المفاصِل في ذي القَعْدَة من تلك السنة، وامتدَّ هذا المرضُ إلى آخر سنة 1364هـ، وبعد أن عافاه الله تعالى منه لم يرجع إلى جامعة دابهيل، ولم يتمكَّن أيضاً من القيام بالتدريسِ وغيرِه في جامعةٍ أخرى، وذلك لاشتغالِه بالأعمال السياسية التي كانت الأمةُ المسلمةُ في الهند بحاجةٍ شديدةٍ إليها وقتئذٍ.
مشاركته في السياسة:
وكانت له رحمه الله تعالى خَدَماتٌ مشكورةٌ وأعمالٌ مَجِيدةٌ في ميادين السياسة الإِسلامية بدءًا من سنة 1330 إلى أواخر حياتِه، وخاصة في السنوات الخمسة الأخيرة من عمره الشريف من سنة 1364هـ إلى سنة 1369هـ عامِ وفاتِه. وله رحمه الله تعالى جهودٌ عظيمة مشكورةٌ في تحرير الهند من سلطة الإنجليز وفي تأسيس دولة باكستان، ولما تأسَّسَتْ باكستان سنةَ 1366-1947 التَمَسَ منه رئيسُها محمد علي جَنَاح أن يكون هو أولَ من يرفَعُ رايةَ باكستان التي كانت أنشِئَتْ باسم الإِسلام وللإِسلام، اعترافاً منه بجهودِهِ البَنَّاءةِ في تحرير باكستان، فرفَعَها، رحمه الله تعالى.
وكان الشيخ هاجر إلى باكستان سنة 1366هـ، ثم لم يعش إلاَّ نحوَ سنةٍ أو أكثر يَبذُلُ جهودَه في تشيد نظامِ الدولة وحَضِّ أصحابِها على تنفيذ الأحكامِ الإِسلاميةِ في جميع شؤونِها وعلى أن يتخذوا أساسَ قانونها الكتابَ والسنَّة.
خدماته في الدعوة والإِرشاد:
وهذا سوى خدماتِه العظيمة ومساعيه الجميلة في ميادين الدعوةِ والتبليغِ، والوعظِ والإِرشاد، والجَدَلِ مع الكفرةِ وأهل الأهواء والعِناد، فقد أحقَّ الحقَّ وأبطل الباطلَ بالحُجَج الدامغةِ والبراهينِ المُتْقَنَةِ، وأنارَ سُبُلَ الرُّشدِ والهِداية لعامَّةِ المسلمين وخاصتِهم بخِطابته البليغة البديعة، الجاذبةِ للقلوبِ والنافخةِ فيها رُوحَ اليَقَظة، والمُوْقِظَةِ للرُّقودِ وأولي الهِمَم المُتوانية؟!
وكانت له ملكةٌ خاصة في تفيهم وإيضاح علوم الشيخ بحر المعارف العلامة المتكلِّم حجة الإِسلام الشيخ محمد قاسم النانُوتَوِي، المعروفِ بدقةِ تصانيفِه العلمية وإفاداتِه الخاصة، فجَعَل رحمه الله تعالى تلك العلوم في متناول المحصِّلين قريبةً إلى الأذهان، بعد أن كانت صعبةَ المنال ومستعصيةً على الأفهام.
وكان – رحمه الله تعالى إلى جانب ذلك – بمكانٍ رفيع من السلوك والإِحسان، متصفاً بالتقوى والزهد والورع، والخُلُقِ الحَسَنِ والشَّفَقَةِ على الخلق، والتواضعِ، مع الحِفَاظ على عِزّ العلم ووقاره.
وكان في صفاءِ الباطنِ والبعدِ عن التكلُّف والتصنُّع بمقامٍ عالٍ جدًّا، وكان شديدَ التجنّب والابتعاد عن المداهنةِ في الأمور الدينية لأغراضٍ دنيوية أو مصالحَ سياسيةٍ، لا تأخذُه في الله لومةُ لائم، يقولُ الحقَّ ولو كان مُرًّا، حتى في أقربِ الناس إليه مودَّةً وقرابةً.
* * *
الهوامش:
مُستفادٌ جُلُّها مما كُتِبَ عنه بالأردية: «حيات عثماني» للأستاذ الشيخ أنوار الحسن الشِّيْرْكوتي، ومما كُتِبَ عنه بالعربية في فاتحة «مقدِّمة فتح الملهم» في الطبعة الثانية المستقلّة، بقلم الشيخ الأستاذ الجليل محمد عاشق إلهي البرني حفظه الله تعالى ورعاه (توفي إلى رحمة الله في 13 من رمضان 1422 بطيبة المنورة رحمه الله وغفر له. س)، وفي بداية «فتح الملهم» في طبعة دارالعلوم كراتشي، بقلم الأستاذ نُورُ البَشَر سلّمه المولى.
وقد استعنتُ ببعض عارفي الأردية في نقل جملةٍ من هذه الترجمةِ إلى العربية، فجزاه الله تعالى خيرًا.
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، ربيع الأول 1434 هـ = يناير ، فبراير 2013م ، العدد : 3 ، السنة : 37