دراسات إسلامية

بقلم:  محمد رضي الرحمن القاسمي(*)

إن الإنسان اُلهِم الفجور والتقوى، قال الله تعالى: «فَأَلْـهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا» (الشمس: 8) وجُبِل على الميل إلى الشر والمعصية، فقال الله عزو جل على لسان «كريم بن كريم بن كريم» يوسف بن يعقوب بن إسحاق عليهم الصلاة والسلام: «وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي، إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ».(يوسف: 53). وكثير من الخطايا يجلب إليها بعض مراحل العمر للإنسان، فليس من الغريب أن تصدر خطايامن طلبة العلم ولا سيما الصغار منهم، ولكن لا بد لهم من الإصلاح والتأديب والتربية الأخلاقية والفكرية. ولتربيتهم وتأديبهم وسائل وطرق، ينبغي أن يلاحظ في إجرائها مراعاة ظروفهم العامة والخاصة، والفطرة التي خُلقوا عليها.

الأمور المعينة للتربية والتأديب:

       ومن أهم الأمور المعينة لتربية الطلبة وتأديبهم ما يلي: الف: أن يُقرَبهم المعلم إلى نفسه، ويبعد عنهم الوحشة ويؤانسهم، ويقابلهم ببساطة القلب والوجه، ويتكلم معهم بلين، ويعاملهم برفق، حتى يحدُث ود صاف في أعماق قلوبهم للمعلم.

       ويجتنب المعلم أشد الإجتناب أن يشدد للتربية والتأديب في أمر ما قبل أن يصبحوا مألوفين له، ويرشدنا فيه منهج الرسول المعلم صلى الله عليه وسلم أنه أمر بتنزيه المساجد عن الأ قذار ، ونهى عن البصاق فيها. (صحيح البخاري، باب كفارة البزاق في المسجد، رقم الحديث:415) وهدد و وعد وعيدًا من يقذرها ويلوثها، مع ذلك كله ما عاتب النبي -صلى الله عليه وسلم- الأعرابي الذي بال في المسجد في حضرته -صلى الله عليه وسلم-، ولاانتهره ولا ضربه، وتعامل معه بالرفق واللين والحكمة، لأنه كان حديث عهد بالإسلام، جاهلاً بالأحكام، وغير مالوف له، فروى الإمام مسلم في صحيحه: أتى أعرابي ، فقام يبول في المسجد، فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: مَهْ مَهْ، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: لا تزرموه دعوه، فتركوه، حتى بال، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعاه، فقال له: إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول ولا القذر، إنما هي لذكر الله وقراءة القرآن، فأمر رجلاً من القوم، فجاء بدلو من ماء، فشنّه. (باب وجوب غسل البول وغيره من النجاسات……، رقم الحديث: 285)

       ب : أن يستخبر المعلم و يستطلع على أحوالهم الشخصية، فإدا مرض أحد منهم يعوده، أو اُ صيب بحادثة وخطر، يعزيه ويسليه، العمل بذلك سهل، ولكنه يُحدِث أثرًا بالغاً في نفوس الطلبة، وينبت الحب، ويغرس غرس الاحترام، ويتمكن المعلم به من قلوبهم، ويستطيع أن يؤدب ويشدد في التأديب إذا اقتضت إليه مصلحتهم.

       ج : ومنها تسامح المعلم وإغماضه في بعض الأخطاء الصادرة منهم، إن كانوا جددًا أو غير متعودين عليه، وليكن كأنَه لم يطلع عليه، ولايعرف ذلك، لئلا يشعروا بالقيود المرهقة و الضيق المحرج، وليتح لهم فرصة لتُقِيم خطأهم البيئةُ التربوية العامة للمؤسسة العلمية ،ونحن نجد في تربية الرسول المعلم -صلى الله عليه وسلم- لأصحابه نظيراً لذلك، فقد روي عن إبن عباس رضي الله عنهما أن رجلاً شرب فسكر، فلقي يميل في الفج، فانطلق به إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-، فلما حاذى بدار العباس انفلت، فدخل على العباس فا لتزمه، فذكر ذلك للنبي – عليه الصلاة والسلام-، فضحك، وقال: أفعلها؟ ولم يأمر فيه بشيء. ( سنن أبي داود، باب الحد في الخمر، رقم الحديث:4476)

       د: منها بذل المعلم جهده لتغيير وجهتهم الذهنية من فساد إلى صلاح؛ لأن الإنسان لاتتغير جبلته وطبيعته التي جبل عليها، ولكن تُغيَر وجهته من فساد إلى صلاح، فالرسول المعلم -صلى الله عليه وسلم- ما غيَر من طبائع العرب التي كانوا يتميزون بها كالشجاعة والكرم وغيرهما، بل وجهها إلى طريق مستقيم. فالمعلم قد يجد بعض الطلاب يعد زملائه أعدائه، ولايزال يتمنى بغلبته عليهم وتفوقه إياهم، هذا يشير إلى أن عاطفته قوية للتنافس، فعندئذ على الأستاذ أن يوجه هذه العاطفة من شر إلى خير، كحفظ الدروس، وحفظ القرآن والحديث والمقاطع الأدبية، و تحسين الكتابة، والتمرن على الخطابة وغيرها.

طرق التأديب:

       أما طرق التأديب وأسا ليبها، فهي مايلي:

الف : الوعظ والنصيحة:

       إذا صدر من طالب خطأ، فليبدأ المعلم بالعظة والنصيحة، والتوجيه والإرشاد، وليسلك أحد الطريقين: الأول: أن يعظه سرًّا، وينصحه في انفراده، فيشير عليه إلى خطائه، ويرشده إلى تقويمه وإصلاحه، فالعظة سرًّا ينفعه – بإذن الله – ويفيده، أما العظة علانيةً فيفضحه ويضره، ولا بد للأستاذ من أن يدرك أوّلاً أسباب الخطأ وجذوره، ثم يركز في استئصاله من جذوره، على سبيل المثال: طالب يبدو أنه فهيم وذكي، ولكنه لا يفهم الدروس ولا يحفظها، يبدو من صنيعه أنه متكاسل، يفرّ من الجد والجهد، ينصحه المعلم لبذل الجهد والانتفاع من وقته.

       الثاني: التوجيه غير المباشر، وهو إذا رأى المعلم طالباً وقع في تقصير، ورأى المعلم أن هذا الخطأ كثير الوقوع، وينبغي لكل طالب الانتباه منه، فينصحهم جميعاً، ولا يوجه الخطاب إلى المخطئ، ولا يصرح باسمه، لئلا يفضحه ولا يؤذيه، فيحصل من هذا المنهج إصلاح المخطئ وتقويم خطئه، وانتباه الآخرين للحذر منه.

       وقد مارس النبي -صلى الله عليه وسلم- كلا المنهجين للتربية والإصلاح، فدعا الناس إلى الإسلام والعمل الصالح سرًّا كما دعاهم علانيةً، بينما قد نصح – إذا رأى معصيةً أو خطأ صدر من فرد أو أفراد – مخاطباً جميع الناس، قائلاً: «ما بال أقوام! يفعلون كذا وكذا؟» (مسند الإمام أحمد، رقم الحديث:11591، صحيح الإمام مسلم: باب علمه -صلى الله عليه وسلم- بالله تعالى…. رقم الحديث: 2356)

ب : الزجر والتوبيخ:

       قد لاينفع الوعظُ الطالب المخطئ، ولا يحصل المعلم منه ما يرجوه من تقويم خطئه، وقد يعود الطالب إليه غير مرة، فيُزجر ويُوبخ، لعله يفيده، فيردعه عن خطئه، وقد بعث الله نبيه مبشرًا ونذيرًا، لأن بعض الناس ينفعه الإنذار أكثر من التبشير، ويلاحظ في زجره أن لا يزجر الطالب بما فيه من دعاء عليه؛ لأن المعلم لا يزجره إلا نصحاً له، وحرصاً على إصلاحه.

       روى الإمام البخاري  في صحيحه عن عمربن الخطاب – رضي الله عنه – أن رجلاً على عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- كان اسمه عبد الله، وكان يلقب حمارًا، وكان يُضحك رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- قد جلده في الشراب، فأتي به يوماً فأمر به فجلد، فقال رجل من القوم: اللهم العنه، ما أكثر ما يؤتى به؟ فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «لا تلعنوه، فوالله ما علمت إلا إنه يحب الله ورسوله». (باب ما يكره من لعن شارب الخمر ، رقم الحديث: 6780)

ج : الإعراض والهجر:

       ومن أنجح الأساليب التأديبية هجر الطالب وعزله اجتماعيا لفترة غير طويلة من الزمن، فيعرض المعلم عنه يوماً أو يومين، ولا يلتفت إليه كما يأمر زملاءه بالإعراض عنه وعدم التعامل معه، هذا يكون زجرًا له وردعاً للآخرين، وقد مارس الرسول المعلم – عليه الصلاة والسلام – هذا الأسلوبَ لتأديب الثلاثة الذين خُلِّفوا في غزوة تبوك فهجرهم، ونهى الناس عن كلامهم، واستمر الأمر على هذا خمسين يوماً، حتى فرج الله عنهم كربتهم، وقبل توبتهم. (صحيح الإمام البخاري، باب حديث كعب بن مالك…..، رقم الحديث:4418)

       ولا يبادر المعلم إلى ممارسة هذا الأسلوب للطالب إلا عند ما يرى فيه حبه وتعظيمه، والتشوق والحرص على الدراسة، وإلا قد يؤدي إلى تنفيره وكراهته الدراسة والعلم، وهو خطر عظيم.

د : العقوبة البدنية:

       ومن طرق التأديب عقوبة الطالب البدنية عدا الضرب، ولها صور: منها أن يؤمر بقيامه في الفصل دقائق إذا ما حفظ الدرس أو ينام مثلاً، منها أن يكلَف بأداء ركعات تطوّعاً، ومنها أن ينهى عن الفطور أو الغداء أو العشاء.

       إننا نجد في الشريعة الإسلامية أصلاً للتأديب بالعقــوبــة البدنيـة عــدا الضرب، فمن كفارات بعض المعاصي -من الحنث والإفطار في نهار رمضان عمدًا بدون عذر شرعي وغيرهما –  الصيام، ويظهر منه ما للعقوبة البدنية من أثر بالغ في تربية الإنسان وتأديبه.

هـ: الضرب:

       يجب أن يكون الضرب آخر وسيلة لتأديب الطالب، ويُستخدم كخطوة أخيرة لردعه، إن لم ينفعه الملاطفة، والموعظة والتوجيه، والزجر والتوبيخ، والهجر والإعراض، والعقوبة البدنية عدا الضرب، فهو من باب «آخر الدواء الكي».

       والضرب بغرض التأديب من الوسائل التي لايمكن الاستغناء عنها في بعض مراحل تربية الطالب؛ رغم اختلاف الناس فيه اليوم، فمن قلَّد الغربَ تقليداً أعمى يرى أنه لا يجوز؛ لأنه يؤثر نفسيًّا عليه …

       ويرى آخرون – بحكم البيئة التي تَرَبَّوا فيها – أنه يجب معاقبة الطالب بالضرب على كل خطأ و هفوة، حتى يرتدع ولا يعود لمثلها …

       أما الإسلام فهو – دائماً – وسط بين إفراط وتفريط، فقد أقرَّ العقوبة بالضرب؛ لأنها قد نزلت من السماء، فالله تعالى أباح للناس ضرب الزوجة، إذا وقعت في تقصير، ولم تُجْدِ معها وسائل الوعظ والإرشاد والهجر في المضجع، قال تعالى: ﴿… وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ الله كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا﴾(سورة النساء:). فمن باب أولى أن يباح استخدام الضرب للطالب، وهو أكثر ما يحتاج إلى التأديب مقارنة بالزوجة.

       وأمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعقوبة الضرب للطفل إذا قصر في أداء الصلاة، فعن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين، واضربوهم عليها، وهم أبناء عشر وفرقوا بينهم في المضاجع»،. (سنن أبي داود، باب متى يؤمر الغلام بالصلاة، رقم الحديث: 495). ومن ثمَّ يقال للمانعين للعقوبة بالضرب: ﴿.. قُلْ أَأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللهُ..﴾(سورة البقرة:140) .

       كما أن الإسلام وضع من الشروط، والقواعد والضوابط لإيقاع الضرب، حتى لا يساء استعماله، وتؤتي ثماره المرجوة منه.

       فيجب على المعلم عند ضرب التلميذ مراعاة الأمور التالية:

       1 – لا يضرب ضرباً مبرحاً؛ لأن الضرب للتأديب كالملح للطعام، أي القليل يكفي، والكثير يفسد، ونهى النبي – عليه الصلاة والسلام – عنه: فقال في تأديب الزوجة: واضربوهن ضرباً غير مبرح. (جامع الترمذي، باب، رقم الحديث:)

       2 – لا يضرب الوجه؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم-: إذا ضرب أحدكم، فليتق الوجهَ. ( سنن أبي داود، باب، رقم الحديث:)

       3 – لا يضرب في مكان مؤلم أو متلف كالبطن والصدر وما شابه ذلك؛ لأن الغرض به هو التأديب، لا الإيذاء ولا الإهلاك.

       4 – لا يوالي الضرب في موضع واحد؛ بل يفرقه؛ لأنه يؤدي إلى الإيذاء.

       5 – لا يضرب ضرباً فاحشاً، يكسر العظم أو يخرق الجلد أو يسوده؛ لأنه نوع من الضرب المبرح المنهي عنه. (رد المحتار على در المختار:ج: 4، ص: 79، باب التعزير)

       6 – ولا ينبغي الزيادة على عشر ضربات؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم-: لا يجلد فوق عشر جلدات إلا في حد من حدود الله. (صحيح الإمام البخاري، باب ، رقم الحديث: 6848).

       إن تعدى المعلم هذه الحدود في ضرب التلميذ أو ضربه للانتقام، فقد أساء وظلم، وهو غير مشروع في الإسلام، ولا يليق بشأن المعلم.

و: الفصل:

       اختلف الناس في فصل الطالب من المؤسسة العلمية، فمنهم من شدد وقال: إذا خالف طالب إحدى الضوابط والقواعد للمؤسسة العلمية أو وقع في أي تقصير، يُفصل، كأن المشددين يزعمون أن الطالب من الملائكة الذين يفعلون ما يؤمرون، ولا يعصون ما أُمروا.

       ويرى آخرون أن التلميذ قد التحق للتعليم والتربية، فإذا صدر منه خطأ ، يجب على الأستاذ أن يؤدبه ويُقوم اعوجاجه، أما الفصل فهو قلب الموضوع؛ لأن الطالب كالمريض، والمعلم كالطبيب، فلا يطرد الطبيب المريض بمرضه أو بازديادمرضه من المستشفى؛ بل يحاول شفاءه.

       يقال لهم: نعم! المريض لا يطرد بمرضه أو بازدياد مرضه من المستشفى، ولكن إذا يئس الطبيب من برء المرض، فحينئذ يعتذر إلى أولياء المريض.

       أما الموقف الثالث فهو وسط بين أطراف متناقضة، ومـؤيـد بالنقل والعقـل، وهو إن لم تُجْدِ مع الطالب وسائلُ التأديب السابقـة من الموعظة والتوبيخ والإعراض. والعقوبة البدنية عدا الضـرب، والضرب، أو ارتكب جريمةً قبيحةً، يشـير إلى خبثـه المبطن، وتكاد تُفسد البيئـة الصالحة، فهو أجدر أن يُفصل؛ لئلا يتأثر الطلبة الآخرون بخلقه غير المرضي، إنه كعضو فسد بالمرض وغيره، والعقل يأبى أن لا يُفصل عضو فاسد من الجسد، وإلا تتدخل الجراثيم في أعضاء أخرى صحيحة.

       والتغريب في الشريعة الإسلامية حدًّا أو تعزيرًا نظير للفصل، ولنا في قصة موسى مع خضر – عليهما الصلاة والسلام – أصل لفصل الطالب إذ لم يلتزم الضوابط المدرسية أو الجامعية.

       هذا ، والحمد لله أولاً وآخرًا، وصلى الله على النبي وسلم.

*  *  *

المراجع والمصادر:

(1)        القرآن الكريم

(2)        مسند أحمد

(3)        سنن أبي داود

(4)        صحيح مسلم

(5)        صحيح البخاري

(6)        فتح الباري شرح صحيح البخاري

(7)        سنن الترمذى

(8)        حاشية ابن عابدين

(9)        التربية في الإسلام

(10)      منهج تربية الطفل

(11)      نضرة النعيم في مكارم أخلاق الرسول الكريم 

(12)      الأولاد وتربيتهم في ضوء الإسلام

(13)      الأساليب الشرعية في تأديب الأطفال

(14)      ديني وعصري درسكاهين— تعليمي مسائل (بالأردية)

*  *  *

*  *


(*)  الأستاذ بالفقه الإسلامي وأصوله بالجامعة الإسلامية كيرالا (الهند)

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم  ديوبند ، محرم – صفر 1434 هـ = نوفمبر ، ديسمبر 2012م – يناير 2013م ، العدد : 1-2 ، السنة : 37

Related Posts