الأدب الإسلامي
بقلم : أديب العربية الكبير معالي الدكتور عبد العزيز عبد الله الخويطر
الرياض ، المملكة العربية السعودية
وعمر وهو الذي لا يفتأ ذهنه يفكر في مصلحة أمته، ذهنه دائب في إسداء ما يصلح لتقويمها، وله صيغ من الحِكَم تأتي على لسانه، يطرحها مؤملاً أن يجد من الناس من يتلقفها بعناية، ويحافظ عليها بإتقان، ويطبقها برغبة وتقدير، وهي تأتي بصور شتى، وفي مجالات مختلفة، ومن ذلك أنه رأى – رضي الله عنه – كثرة السبي من فارس، وكثرة اختلاط العرب، وهم فاتحون، بالفرس، وهم مغلوبون، ووجد أن هذا سوف يؤدي إلى اختلاط مندفع عن طريق الزواج، وأن هذا سوف يكون له ما بعده، على شباب العرب، وعلى بنات العرب، وأن ازدهار جانب كثيراً ما يكون على حساب كساد جانب، فأبدى – رضي الله عنه – ملاحظة له في ذلك، وفيها رعدة الخوف من المستقبل، حكماً على ما بدأ يظهر في المجتمع، والملاحظة هي قوله:
«قال عمر بن الخطاب – رضي الله عنه –:
هلاك العرب أبناء بنات فارس»(1).
فالإبن الذي أمه فارسية لا يأتي ابنه متحمساً للعرب تحمس ابن الزوجين العربيين، وزواج ابن الفارسية من العربي إذا تزوج كذلك من فارسية ضعفت الصلة لديه بالعرب أكثر فأكثر، ومن هو هذا العربي، الذي عاش في العراق وأمه وجدَّته فارسيتان يرضى أن يبحث عن زوجة عربية بدوية في الصحراء، أو في مكة المكرمة، أو في المدينة المنورة؛ لقد أضمحلت العربية في مثل هذا النسب، وأصبح مع كل جيل يبهت أكثر وأكثر، وإغراء الفارسية، ربيبة المدينة في لونها وجمالها ورقتها، أينه من إغراء بنت العرب في الصحراء، يلفح وجهها السموم، ويشويه القر، وتنشفه الرياح، ولا غذاء إلا كسرة خبزة، أو لحمة جدي بعد حين، فلا أنواع من الطعام مطهية، ولا فواكه مجنية، والبدوية تشرب لبن الإبل، والماعز والضأن، وتلك تشرب مثلها لبن الأبقار والماعز وعصير الفواكه، هذه البدوية تلبس الخشن من الثياب، وهذه الفارسية تلبس الحرير والدمقس والديباج لأجيال وأجيال قبل أن يدخل العرب فارس فاتحين.
لقد تنبأ عمر بهذا، وهو يرى كبار الصحابة، ومعشر أبنائهم قد أقبلوا على الفارسيات تسرياً وزواجاً، ورأى أن هذا إذا استمر، فسوف يأفل نجم صفاء الدم العربي، والنخوة العربية، والحماس لما يغليه العرب، ويطلبون فيه ثمناً عالياً!
ويأتي عمر بالحِكَم تترى في خطبة له، وقد جمع ما يود أن ينبه الناس إليه، مما لفت نظره إلى أنه ظاهرة متفشية، وخطر محدق، فيقول في تلك الخطبة:
«قال ابن عباس:
خطب عمر، فقال:
إياكم والبطنة، فإنها مكسلة عن الصلاة، مفسدة للجسم، مؤدية إلى السقم، وعليكم بالقصد في قوتكم، فإنه أبعد من السرف، وأصح للبدن، وأقوى للعبادة، وإن العبد لن يهلك حتى يؤثر شهوته على دينه»(2).
يحرص عمر على أن يبادر فينصح الناس إذا رأى ظاهرة بدأت تظهر؛ وزمن عمر هو زمن تغير الناس، وظهور أمور جديدة لم تكن شائعةً في المجتمع الإسلامي؛ لأن هذا المجتمع بدأ يتصل بمجتمعاتٍ أخرى، فتحت أبوابها للمسلمين، وقذفت بأبنائها وبناتها إلى مجتمعهم، فظهرت الظواهر الجديدة نتيجة هذا الاحتكاك، وبدأ التغير على أثر هذا التمازج الجديد. وهذا سيل جارف، أو نبع دافق، يصعب إيقافه، وعمر في قوله هذا يعالج الإسراف في الاستفادة من النعمة التي ينعم بها المسلمون، والرخاء في العيش، وقد بدأ يعم المجتمع، نتيجة الكسب من الفتوح، ولما يخصص لهم من بيت المال، وقد أصبح يطفح بالمال بأنواعه.
وبدأ عمر يخشى على الناس من الإسراف في الأكل، مما ينعكس أثره عليهم، وقد أخذ يعدد مضار الشبع، وإعطاء النفس هواها، في اتباعها اللذات، والجري وراء ما تشتهيه، ولم يزد عمر فيما قاله عما يمكن أن يقوله الطبيب اليوم، أو عالم الاجتماع. والضياء يشع من الجملة التي ختم بها خطبته وهي قوله: «وإن العبد لن يهلك حتى يؤثر شهوته على دينه».
ومن الأمور التي التفت إليها، وقد بدا له أنه جد حولها جديد يحتاج الناس فيه إلى إرشادٍ وتوجيهٍ، إقبال الناس على الزراعة في الأراضي الخصبة المفتوحة، فرأى رأياً حكيماً أحب أن يوصله إليهم، فجاء النص التالي مرويّاً عنه:
«لما بلغ عمر – رضي الله عنه – أن نازلة البصرة اتخذوا الضياع، وعمروا الأرضين، كتب إليهم:
لا تنهكوا وجه الأرض، فإن شحمتها في وجهها.
(قالوا: شحمة الأرض موضع الريع منها)»(3).
وهو يريد أن يعطي الأرض بعض الراحة، وإلا فهو حريص على استثمار الناس لأموالهم، وتحسين دخلهم بما يقدمون عليه من أعمال زراعية أو تجارية، وله قول في هذا:
«قال عمر:
من كان له مال فليصلحه، ومن كانت له أرض فليعمرها، فإنه يوشك أن يجيء من لا يعطي إلا من أحب»(4).
وله حكم عامة يلقيها، وهي نافعة لكل زمان، ولكل أمة، ومن هذه الحكم قوله:
«تَفقَّهوا قبل أن تسودوا»(5).
وهو قول حق، والتفقه هو باب الثقافة التي تفيد السيد في كل المواقف، خاصة تلك التي يحتاج الأمر فيها إلى رأي سديد، والرأي السديد لا يأتي إلا من عالم خبر الأمور عن طريق الثقافة والعلم، أو التجربة الطويلة، والفقه في الأمور هو السلاح الذي تسلح به المرء أمام مدلهمات الأمور، ومظلمات الحوادث.
وينطق عمر بحكمة تليق به؛ لأنه قالها عن تجربة، وهو نفسه قد أخذ نفسه بها واتصف بما فيها من خلق نفعه، فتمسك به.
والحكمة هي قوله:
«من كَثُر ضحكه قَلَّتْ هيبته»(6).
ونصائحه حكم يأتي بها إرشاداً لأناس بعينهم، ولكنها في الحقيقة قواعد عامة، تنطبق على الناس جميعاً؛ لأن هذه هي طبيعة الحكمة، فعندما يلاحظ على وفد من الوفود التي تأتي إليه، بأن أجسادهم ضامرة، وصحتهم سقيمة، يبدي الملاحظة، وهي في الحقيقة حكمة، والقصة كما يلي:
قال عمر – رحمه الله – :
«يا بني السائب، إنكم قد ضويتم، فانكحوا في النزائع».
(النزيعة التي تتزوج من غير عشيرتها)»(7).
وهو قول يبدو أنه معروف عند العرب، ولكن عمر أراد أن يعرفهم أنه لاحظ الضعف عليهم، فأراد أن يذكرهم بالحكمة التي ترددها العرب:
«اغتربوا لا تضووا، أي انكحوا في الغرائب فإن القرائب يضوين الأولاد»(8).
ولعل عمر يؤمن بالرياضة، وتدريب الجسم الدائم، فقد لاحظ أن اللسان يحتاج إلى معاودة القول حتى لا يصاب بالعي، والنص كما يلي:
«قال بكر بن عبد الله:
طول الصمت حبسة، ونحوه قول عمر بن الخطاب: ترك الحركة عقلة»(9).
ولا يجادل أحد في صحة هذا القول، ولا يماري، خاصة في زمننا هذا، فإن التدريب مهم، والاستمرار عليه مطلوب، وتركه يفقد المرء ما اكتسبه من قبل. وقد لوحظ أن الذين يحفظون القرآن لا يصابون بخرف الشيخوخة، وكذلك الذين يحفظون الأشعار وأخبار الأولين، ويرددونها دائماً؛ لأن في هذا تمرين للمخ، ورياضة للذهن.
ومن الحكم التي قدمها عمر للمجتمع قوله:
«من كثر كلامه كثر سقطه، ومن كثر سقطه قسا قلبه، ومن قسا قلبه قل ورعه»(10).
وهذه سلسلة من الحكم، آخذ بعضها بناصية بعض، وراكب بعضها على بعض، تأتي الواحدة بالأخرى، في ترتيب لا اختيار فيه، يأتي بطبيعته، ويفرض نفسه، فمن كثر كلامه انتهى به الأمر إلى قلة الورع، وهذا أمر مفزع.
وتأتي الحكمة في ملاحظة منيرة يبديها، فيشع نورها الوهاج، فيقضي على الظلمة التي أوجدها الوهم، وهيأها الجهل، والقصة كما يلي:
«قال عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – لرجل همَّ بطلاق امرأته، وزعم أنه لا يحبها:
«أَوَكل بيت بني على الحب، فأين الرعاية والذمم؟»(11).
لقد كان تساؤل عمر حكيماً، نبه إلى أمر يغيب عن ذهن الذي يريد أن يفارق زوجته؛ لأنه لم ينسجم معها، وكأنها من سقط المتاع، إن أحبت وأعجبت أبقيت، وإن استُثقل دمها، وكُرهت، طُلِّقت، وعمر نبه إلى جوانب أخرى لم تعط حقها من الالتفات، ولم ترع حق الرعاية.
ويلحظ – رضي الله عنه – نزعة خيرة عند بعض الناس، ولكنه يرى أنها أحياناً تخرج صاحبها إلى حدود المحذور، فينقلب الأمر خلاف ما يقبله الدين الإسلامي الصافي، ويدخل الغلو، ويُتذكر في الأمر جانب، وتُنسى جوانب، لها من الأهمية ما رأى عمر أن ينبه إليه:
«قال عمر بن الخطاب:
ليس خيركم من عمل للآخرة، وترك الدنيا، أو من عمل للدنيا وترك الآخرة، ولكن خيركم من أخذ من هذه وهذه»(12).
ونأتي إلى ملاحظة ذكية من عمر – رضي الله عنه – وهو الخبير بما يجول أحياناً داخل أنفس الناس، وما يحاولون أن يرقعوا عيبه بما يظهرون من أعمال مفتعلة، هي لسان حال يشهد على نقصهم عند ذوي الحجا والتبصر، وهذا هو قول عمر عن أمثال هؤلاء:
«قال عمر بن الخطاب – رضي الله عنه –:
ما وجد أحد في نفسه كبيرًا إلا من مهانة يجدها في نفسه»(13).
وهذا القول لعله سار حتى وصل معاوية؛ لأنه معاوية وقع على هذه الحكمة في سياق تأنيبه لشخص وقف الموقف الذي أصدر عمر – رضي الله عنه – حكمه عليه، والقصة كما يلي:
«أذن معاوية للأحنف بن قيس، وقد وافى معه محمد بن الأشعث، ثم أذن له، فقدم عليه، فَوَجِدَ من ذلك محمد بن الأشعث.
ثم أذن له، فدخل، فجلس بين معاوية والأحنف، فقال له معاوية: إنا والله ما أذنا له قبلك إلا ليجلس إلينا دونك؛ وما رأيت أحدًا يرفع نفسه فوق قدرها إلا من ذلة يجدها؛ وقد فعلتَ فعل من أحس من نفسه ذلاًّ وضعه، وإنا كما نملك أموركم نملك تأديبكم، فأريدوا منا ما نريده منكم، فإنه أبقى لكم، وإلا قصرناكم كرهاً، فكان أشد عليكم، وأعنف بكم»(14).
ويكثر الناس الحديث عن الزمان، وهل هو الذي يتغير، أو أنه ثابت، وأن الذي يتغير هم الناس، ويدعي الآباء أن زمانهم كان خيرًا من زمان أبنائهم، وينسى الآباء عيوبهم في أول زمانهم، ولا يرون حاضرًا إلا عيوب زمن أبنائهم، ويشارك عمر في الجدل، ويعطي رأياً حكيماً، يركز فيه على الناس في جيلهم، لا على زمنهم؛ فالأبناء لهم زمنهم بما فيه من اختلاف، صبغوه هم به، ولم يأت من الزمان، فشَبَهُهُمْ بزمانهم أقرب من شَبَهِهِمْ بزمان آبائهم، أو على الأصح من شبههم بآبائهم(15).
وتأتي الحكمة على لسان عمر – رضي الله عنه – بعد استقراء الحوادث، وبعد استعراض ما مر عليه منها في حياته، فيقول:
«إِنّ مما يصفي لك ودّ أخيك أن تبدأه بالسلام إذا لقيته، وأن تدعوه بأحب الأسماء إليه، وأن توسع له في المجلس(16)»(17).
خير عنوان لهذه الكلمات الحكيمة هو «مفاتيح القلوب»؛ لأن هذه الأقوال، وهذه الأفعال، تفتح القلوب المغلقة فعلاً، وتزرع المحبة، وتوجد أسباب التقارب وإزالة الإحن إن وجدت، أو العداوة إن قامت؛ فلقد وفق الله عمر إلى رسم الحقيقة المضيئة في هذه الكلمات المختصرة الوافية.
إن المرء إذا بدأ أخاه بالسلام، أوحى له بالحرص على مد جسور المودة، والرغبة في التقارب معه في ظل كلمة السلام التي احتوت جملة السلام في الإسلام؛ إنها إعلان بأن غصن الزيتون قد مد، وأن المحبة مبذولة، ولا يسع الطرف الآخر إلا أن يستجيب، وقد يكون ترحيبه بهذه البادرة فيه من الحماس ما يشجع البادئ بأن يغرف من هذا الوعاء الخير أكثر فأكثر.
ولا يُطرِب الإنسان مثل أن يُدعى بأحب الأسماء إليه، ولعل هذا هو أحد الأسباب التي تكمن وراء حسن اختيار الآباء أسماء ابنائهم، كلٌّ حسب زمنه، وحسب مجتمعه، وما تعورف عليه فيه، والكُنَى مما يسر الناس أن ينادوا بها حتى أصبحت في بعض العصور أكثر شهرة من الأسماء، فالشخص يعرف بأبي فلان أكثر مما يعرف باسمه الحقيقي، وفي بعض البلدان اليوم يعتمد على الكنية أكثر مما يعتمد على الإسم.
أما أمر توسيع الشخص للداخل إلى المكان في المجلس، فهو مصيدة القلوب؛ فالداخل إلى المكان له دهشة، تعشَى عينيه عن أن يرى المكان المناسب لجلوسه، فكيف إذا كان الجالسون مرصوصين رصًّا محكماً، ولا مكان يتسع لداخل جديد؛ حينئذ يشعر الداخل بحرج من العودة، ولا يستطيع أن يفرض نفسه فرضاً على الجالسين، ويدخل جسمه بين اثنين منهم رغماً عنهما؛ فإذا ما أفسح له شخص، أو قام عن مكانه، وأعطاه إياه، فإن هذا العمل يقدر حق قدره، ليس فقط من هذا الداخل المكرَّم، ولكن أيضاً من الجالسين في المكان، الذين يرقبون الأمر، ولم يوفقوا إلى المبادرة، وسرعة التصرف مثل ذلك الرجل.
وعمر – رضي الله عنه – أثبت بفراسته، وحسن استقرائه للأمور، ودقة مراقبته لتصرفات الناس، وتدبره لما يمر به، أنه عالم نفس من طراز فريد، ومن هذا المنطلق ننقل جملة تلفَّظ بها تدل على صدق الحكم، وصحة المرمى، وهي:
«اتقوا من تبغضه قلوبكم»(18).
لو لاحظ الناس ما يمر بهم في حياتهم من هذا الأمر، وتتبعوا خطواته ونتائجه، لوجدوا أن القلوب صادقة في شعورها، فقد يحب الإنسان شخصاً، ويدخل قلبه، ويستخف دمه، لأول وهلة، فيتبين له مع الزمن أنه رجل يستحق هذا الشعور، وأنه أهل لأن توضع فيه الثقة، وخلافه الشخص الذي ينفر منه القلب عند أول لقاء، دون سبب واضح، أو تصرف منه أوجب الجفول منه والاحتراز، فتثبت الأيام أن القلب صادق في شعوره، والشخص محق في نظرته، كما دل على ذلك واقع الحال فيما بعد.
ولكن الأمر ليس مضطردًا، فقد يخدع القلب، وتغش العين، ويكره من لا يستحق أن يكره، ويثبت الزمن خلاف الظن، وتكون النفرة جاءت؛ لأن هذا الشخص يشبه شخصاً شريراً قام بدوره في تمثيلية من التمثيليات، أو صورة مجرم ظهرت في الصحف لذنب ارتكبه، فخزنت العين في الذهن فكرة قفزت إلى مقدمة التفكير، وهيأت للحكم الخاطئ. ومثل هذا فيما لو قبلت شخصاً تبين أن سبب ذلك القبول أنه يشبه قريباً لك، أو عزيزاً عليك.
وننتقل إلى ملاحظة أخرى حكيمة من عمر – رضي الله عنه – وفيها يظهر حزمه، ونظرته الصائبة للأمور، وهي كما يلي:
«لا تلزموا أنفسكم حق من لم يلزم نفسه حقكم»(19).
عمر لا يقبل الذلة، ومخالفة هذه الحكمة يؤدي إلى الذلة، وعمر يحب إعطاء الحق، ولكنه لا يعطي غير الحق لمن لا يعطي من نفسه الحق. وعمر لا يأبه لمن لا يلتفت للناس بعين الأخوة، ويعاملهم بالعدل، ولهذا فهو يقول إن الحزم في أن توقظوا المخطئ في عدم الإحسان إليه، حتى يصحو من غفوته.
ويفاجئ الناس بحكمة قد لا يرون صحتها لأول وهلة، ولكنهم بعد التفكير العميق يرون إشعاع الصحة، ونور الصدق فيما قاله، وقوله كما يلي:
«قال أمير المؤمنين عمر – رضي الله عنه – :
لأن يضرني الصدق، وقل ما يفعل، أحب إليَّ من أن ينفعني الكذب، وقل ما يفعل»(20).
لا أحد يقبل الضرر، ولا أحد يرضى أن يوصم بالكذب ولكن الضرر إذا جاء بسبب مبدأ غالٍ، فإن ألمه يكاد يتلاشى عند لذة المحافظة على المبدأ. وإن لذة المنفعة إذا جاءت عن طريق هدم مبدأ، فإن ألم الندم يفوق هذه اللذة.
وتأتي مفاجأة أخرى في التعبير، يلقيها عمر حكمة ناصعة الصدق، فيقول:
«إن الطمع فقر، واليأس غِنى، وإن المرء إذ يئس من شيء استغنى عنه»(21).
الفقر هو أن لا تجوز ما تطمح إليه، والطمع لا حدود له، وعليه فالإنسان لا يصل إلى بغيته مما أراد؛ لأنه عند حصوله على ما أراد يبدأ يطلب جديدًا، فهو دائماً في طلب ما لاي يغنيه، فهو إذاً فقير.
واليأس يوقف تطلع الإنسان إلى ما لا يستطيع أن يحوزه، فيصرف نظره عنده، وتقتنع نفسه بما يقدر عليه، فيصبح في غنى عما نفض يده منه، وأزاحه من فكره، فهو في طُمأنينة إلى ما بيده، ينسى ما لا تطوله يده.
وعمر في هذا القول يُؤكِّد عمق علمه بالناس، ومعرفته بما يختلج في النفوس، مما له ظواهر لا تخفى على النابه الفطن.
وأبو ذؤيب الهذلي جاء بما يقارب هذا القول في بيته الآتي:
والنفس راغبة إذا رغِّبتها
وإذا ترد إلى قليل تقنع(22)
ويخالف عمر – رضي الله عنه – الناس في نظرتهم السطحية إلى بعض الأمور، فيذهب إلى أعمق مما ذهبوا، ويدخل إلى أبعد مما دخلوا، ويستشف من وراء الحجب، بفراسته، وبالمعايير التي وضعها لوزن الأمور، أكثر مما رأوا، وهو لا يحسن الظن أكثر مما يجب، ولا يدع أمراً يمر فيه شبهة إلا ويتأكد منه، ويأخذ تجاهه بالحزم، ولهذا رد على من أخذ بظاهر الأمر في القول الآتي:
«قيل لعمر – رضي الله عنه – :
فلان لا يعرف الشر، قال:
ذاك أجدر أن يقع فيه»(23).
صدق عمر، كيف يتفادى الشر من لا يعرفه، والأشياء يدل عليها ضدها في بعض الأمور، ولكن بعضها لا تُعرف إلا عن طريق طبيعتها أو مظهرها، والشر منها. ولعل مخاطب عمر – رضي الله عنه – فوجئ. بما قال، وهو قال ما قال من باب المدح المتناهي، وفي ضوء ما قال عمر، يبدو لنا الممدوح ساذجاً حقًّا، لا يعرف من الأمور إلا نصفه، ومعرفته قد تكون سبباً في وقوعه في الهلاك!
وحِكَمُ عمر فيها روح النصح والإرشاد، وهي فيما ينفع الناس مباشرةً، وكأنه أخذ نفسه بتشقيف الناس، وتعليمهم أمور حياتهم، فيما يعود عليهم بالنفع والسعادة، ويبعدهم عن الخطأ والتقصير، ومن أهم أمور الحياة صواب الرأي، وصواب الرأي من المشورة، والتعاون على أمر خير من الانفراد به، ولعمر في هذا توجيه سديد يقول فيه:
«الرأي الفرد كالخيط السحيل، والرأيان كالخيطين المبرمين، والثلاثة مرار، لا يكاد ينتقض»(24).
عمر يحث هنا على المشورة، ويحث على التعاون، ويأتي بحكمة صورها بمثل ملموس، يقرب الرسم إلى الذهن، ويعطي فيه الفكر الواضح، مما يجعل تأثيره على سامعه قويًّا، يقنعه بأن يتبعه، ويسير في هديه، ومتى ما فعل مرة، فإنه سوف يحمد عاقبة عمله، فيتمسك بهذه الطريقة، وربما صار قدوةً لغيره، فيتسلسل الخير، ويزيد إذا ما كان ذلك عادةً راسخةً.
ويأخذ توجيهه منحى اجتماعيًّا آخر، يأتي به وبداخله السبب الذي يمكن أن يستشف لتعليل تنبيه له، وترجيحه إياه على غيره، وله قول في هذا يأتي هكذا:
«قال عمر – رضي الله عنه – :
إذا أعطيتم فاغنوا»(25).
إن المعطي غالباً ما يعطي عن سعة، وبعض الناس إذا قرر أن ينفق مبلغاً من المال إما أن يعطيه لعدد محدود من الناس، أو يتوسع في قسمته، فيعطي قليلاً لكثيرين، بدلاً من كثير لقليلين، ويبدو أن عمر من أنصار إعطاء الكثير لقليلين، وفي هذا منطق، كما في الرأي الآخر أيضاً.
والرأي الذي رجحه عمر فيه فائدة أن الشيخص قد يقضي بالمبلغ الكبير غرضاً لا يقضيه المبلغ الصغير، والمبلغ الكبير في الغالب يوضع فيما هو أهم وأبقى، إما سداد دين، أو دفع أجرة بيت، أو بدء تجارة، أما المبلغ الصغير فقد يسهل طريقه إلى ما هو أقل أهمية، ويضيع.
وعمر لا يحب القيد لما أطلقه الله، ويحب أن يكون حرًّا في تصرفه العقلي، يتبع ما يتماشى مع المنطق، فإذا كانت العادة تقتضي احترام صاحب السن الكبير، فهذا أمر مقبول، إلا في أمر من الأمور التي تخص الدولة، فإن هذا يتطلب تقديم الكفاية على السن؛ لأن هذا فيه إنجاز يعود نفعه للمسلمين، وقد أشار عمر إلى شيء من هذا في قوله الآتي:
«كتب عمر بن الخطاب إلى أبي موسى الأشعري:
إن الحكمة ليست عن كِبرَ السن، ولكنه عطاء الله، يعطيه من يشاء، فإياك ودناءة الأمور، ومراق الأخلاق»(26).
النضج والخلق في رأي عمر لا دخل للسن فيهما، وعلى أبي موسى أن يبحث عنهما في أي سن جاءت، وعمر يحذر أبا موسى من أن يقع في المتدني من الأمور، والمتدني من الأخلاق، فقد يكون ذلك لدى صاحب السن المتقدم.
* * *
الهوامش:
البصائر: 6/137.
البصائر: 6/71.
ربيع الأبرار: 1/198، العقد الفريد: 2/258.
الإشراف: 253.
الحيوان للجاحظ: 1/87.
عيون الأخبار: 1/439.
عيون الأخبار: 2/79.
عيون الأخبار: 2/79.
عيون الأخبار: 2/192.
ربيع الأبرار: 4/262.
ربيع الأبرار: 4/289.
مجالس ثعلب: 2/658.
البيان والتبيين: 4/75.
البيان والتبيين: 4/71.
قال عمر: «الناس بأزمانهم أشبه منهم بآبائهم» بهجة المجالس: 2/651.
يروى مثل هذا عن مجاهد، انظر عيون الأخبار: 3/13.
بهجة المجالس: 2/463.
الإعجاز والإيجاز: 23.
قوانين الوزارة: 116.
تسهيل النظر: 70.
تسهيل النظر: 220.
تسهيل النظر: 221.
البيان والتبيين: 2/327.
عيون الأخبار: 1/86.
لعل في ذهن عمر قيادة أسامة بن زيد لجيش فيه كبار الصحابة، وكان عقد لواءه الرسول ﷺ قبل وفاته، وأنفذه أبوبكر – رضي الله عنه – ، الإشراف: 212.
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، محرم – صفر 1434 هـ = نوفمبر ، ديسمبر 2012م – يناير 2013م ، العدد : 1-2 ، السنة : 37