إشراقة
الشقاءُ قد يكون رأسَ مالٍ ثميناً، إذا صدق الشعورُ به وصَحَّ توظيفُه؛ حيث إنه حينئذ يُعِين صاحبَه على صناعة الذات وبنائها، ويساعده على أن يعتاض عنه سعادةً موفورةً؛ بل يُحَوِّله رصيدًا لانهايةَ له. إنه لايجوز له أن يتمنّى الشقاءَ ويصطنعه؛ ولكنه إذا أصيب به بحكم القضاء الإلهي، فلْيَصْبِر ولْيَحْتَسِب، وليُوَظِّفْه توظيفاً حكيماً، يصدر فيه عن الإيمان بأنّ ربّه قادر على إزالة شقائه، وإيلائه سعادةً، وجعله ذا حظٍّ موفور وجَدٍّ مسعود، كما يصدر فيه عن التعقّل العملي، والجِدِّ والمثابرة، والعمل المتواصل، وتجاوزِ جميع المُثَبِّطات التي ربّما تعترض طريقَ العمل في كل مجال من مجالات الحياة.
وذلك كما لايجوز لأحد أن يتعمّد ارتكابَ الذنوب؛ لأن ذلك شقاءٌ لاشقاءَ بعده؛ ولكنه إذا صَدَرَ منه ذنبٌ عن خطأ وعن غير إرادة منه، فإنه ينبغي له أن لاييئس من رَوْح الله؛ بل يجب أن يتّخذه ذريعةَ إنابةٍ إلى الله الغفور الشكور، ويَتَّصِل به تعالى من خلال التوبة إليه اتّصالاً وثيقاً مُبَاشِرًا بحيث يكون هو له تعالى؛ فيكون تعالى له؛ فيكون الكون كلّه منقادًا له.
إن كونَ ابنِ كاسبِ لقمةِ العيشِ عن طريق جَرِّ عربة «ركشا» – المعروفة في شبه القارة الهنديّة – حائزًا على درجة الامتياز والمركز الأوّل في الامتحان النهائي السنوي في الكُلِّيَّة كلَّها، رغم صغر سنّه؛ حيث لم يتجاوز 16 من عمره حسب الصحف الهندية التي نشرت أنباءَ تَفَوُّقِه على زملائه جميعاً في الدراسة في الكُلِّيَّة، وكذلك كونَ بنت البائع الجَوَّال للسندويتشات مُتَفَوِّقَةً على الزميلات كُلِّهن في الامتحان في مُقَرَّر تعليمي مهنيّ (Professional Course) وكذلك نيل ابن فلاّح متواضع درجةَ الامتياز على مستوى البلاد في امتحانات (I AS) الخدمات الإدارية الهنديّة (Indian administration services) –
وتلك الامتحانات تتطلب استعدادًامُضْنِيًّا مُبَرْمَجاً طَوَالَ سنوات، ويتجـاوزها الراغبون فيها من الشباب في مرحلتين صعبتين للغاية: كتابيّة وحواريّة – وكذلك نيل ابن بائع خضراوات من الطبقة الكادحة علاماتٍ ممتازةً في الامتحان النهائي في المدرسة الثانويّة بنحو لم يسبق له مثيل.. كُلُّ ذلك – الذي نشرت الصحف أنباءً عنه في يونيو ويوليو 2012م أي العام الحاليّ الذي نجتازه – أمثلة للركض الدؤوب المثمر للتوصّل إلى السعادة، الذي نشأ بالتأكيد عن الشعور بالشقاء، الذي حَرَّضَ على العمل والجـدّ والمثابـرة والمسابقة الإيجابيّة للفـوز بالسعادة، ولم يَـدْعُ إلى القعـود والكسل وصبّ الملام فقط على الحظّ الفائت والجَدِّ الخـائن!. إن ذلك أمثلـة لعدم الاستسلام لليأس ودواعيه، والعزم الفولاذي على التغلّب على المُثَبِّطات، فهي ليست فقط قابلة للثناء والتقليد؛ بل إنها جديرة بالتسجيل كذلك. إن التأريخ يقف في مثل هذا الموقف ليقدم تحيّات زكيّات لأصحابه، ويُسَجِّله في مباهاة بحروف من نور.
التاريخ الإنساني والتاريخ الإسلامي بالذات شَهِدَ كثيرًا من العظماء الذين كانوا أبناءَ ظروف قاسية مُحْبِطَة؛ لكنهم رغم الشقاء الذي عَانَوْه بأنواعه لم يفقدوا الأملَ في الحظوة بأسباب السعادة كلِّها، وتَخَرَّجُوا عُظَمَاءَ فِرَادًا، حَيَّاهم التاريخُ وَطَأْطَأَ لهم رأسَه، وقَدَّم لهم ضريبةَ إجلال وإكبار.
إنّ الشقاءَ شقاءٌ إذا خضعتَ له و آمنتَ بتداعياته، وهو بذاته سعادةٌ أيُّ سعادة إذا غلبتَه، وثُرْتَ عليه، وعَصَيْتَ جميعَ دواعيه، وفرضتَ عليه إرادتَك التي لم يقدر أن يُغَالِبها. من ثمّ يعتقد كثيرٌ من المُفَكِّرِين أنّ الشقاء والسعادة مَعْنَيَانِ ينبعان في داخل الإنسان، أي أنه سعيدٌ إذا نوى شيئًا أو أشياءَ، ثم عَزَمَ عليها، فَتَحَرَّكَ لها وتَصَدَّىٰ، وجَدَّ في سبيلها واجتهد، ولم يَنِ ولم يَفْتُرْ، ولم يَسْتَسْلِمْ لقساوة الظروف، بل خَرَجَ وثَارَ على جميع إِملاءَاتها، وتَغَلَّبَ عليها بإرادته الحديديّة، وعزمه الراسخ، وعمله المُتَّصِل؛ وأنه هو بدوره شقيٌّ إذا كان مهزوزَ الإرادة، ضعيفَ النيّة، مُذَبْذَبَ الاعتقاد، فاترَ العمل، متقاعدًا متكاسلاً، لايملك رصيدًا من قوّة العمل والاجتهاد، وإنما يخضع للأقدار، وينقاد للظروف، ويلوم الأوضاعَ على أنها لم تُسَاعِدْه، ولم تُهَيِّئُ له فرصةَ العمل والاكتساب.
الهِمّةُ العاليةُ القويّةُ التي لاتقبل هزيمةً في أيِّ حَلْبَة، وتُكَهْرِب صاحبَها بقُوَّة لا تُغَالَب، وطُمُوح لايَنْضَب، وعَاطِفَة للعمل لا تَنْفَد بَطَارِيَّتها، هي مصدرُ كلِّ سعادة، وفقدانُها هو مَنْشَأُ الشقاء من كلِّ نوع.
جربّتُ رجلاً حينًا من الدهر، واطّلَعْتُ على ما جَرَىٰ له في حياته، فعَلِمْتُ ما اَعْجَبَني وأَدْهَشَني من قصّة حياته التي صَنَعَت ما يشبه المعجزة في تحويل الشقاء سعادة، وإرغام التاريخ على تسجيلها لتكون درساً لكل «شقي» يودّ أن يتغيّر «سعيدًا».
كان ابنَ قرية مُتَوَاضِعَة، من أسرة فقيرة كادحة، تعيش على ما تكتسبه من أجرة يوميّة لقاءَ عمل عامٍّ في حرّ الشمس وظلّ الغيم، سحابةَ النهار، في غير مبالاة بشدّة الطَّقْس، وجَفَاءِ الظروف، وقساوة الفصل. ذات يوم قَدِمَ المدينةَ؛ ليشتغل بعمل شاقّ كالعادة على الأجرة ينالها في المساء، إذ سمع أن هناك مُؤَسَّسَةً تعليميّةً، يجري فيها إنشاءُ مبنى كبير، يشتغل بالعمل فيه كثيرٌ من العُمَّال مثلُه. وبما أنّه مشروع كبير؛ فإنهاؤُه يستغرق وقتًا طويلاً، فالعملُ فيه إذا أُتِيحَ له نافعٌ جِدًّا؛ لأنه يشتغل به دونما فترة تحصل له خلالَ العمل في مكان آخر؛ حيث قد يجد العملَ وقد لا يجده، فتَوَجَّهَ إلى المؤسسة، وعَرَضَ على المُقَاوِل المَعْنِيّ خدمتَه، وشَرَحَ لديه حالَه، وأَكَّدَ له أنّه شابّ قويّ أمين، وأنّه بدوره لن يفصله من العمل بعدما يجرّبه خلال أدائه العملَ ليوم ما. وقد ارتاح المُقَاوِل إلى حديثه المعجون بالثقة، الذي كان يدلّ على صدقه مظهرُه كلُّه، فسَجَّلَ اسمَه ضِمْنَ قائمةِ عُمَّالِه الثابتين، وسَمَحَ له بالعمل منذ ذلك اليوم، وقد أثبت الفتى بجدّه في العمل أنه على مستوى العُمَّال اللائقين المطلوبين: الأقوياء المجتهدين الذين لايضيعون لحظة ما في غير العمل كعامّة العُمَّال والأجراء الذين يَسْتِرَقُون كثيرًا من الفرص بحيلة وأخرى من الحيل التي يُتْقِنُونها، فزاد المُقَاوِل في أجرته زيادةً لائقةً، ومع مرور الأيام صار أحبَّ العُمَّال لديه.
وذاتَ يوم اكتشف المُقَاوِل أنّ العَامِل فلان يعرف مبادئَ القراءة؛ ولكن ظروفه لم تسمح له بالاستمرار في الدراسة. وذلك عندما كان يُحَاسِب أيّامَ العمل لكلّ عامل؛ حتى يُؤَدِّي إليه راتبَه – أجرتَه – حيث قال له العامل الشابّ: هل تسمح لي بتعداد أيّام الحضور لكل من العُمَّال، حتى تسهل عليك المهمة، ويتوفّر عليك الوقت. فذكر المقاولُ ذلك لمدير المؤسسة، وقال: إنّ هناك عاملاً أكثر عملاً واجتهادًا من جميع العُمَّال، واكتشفتُ مؤخرًا أنه أنهى قراءةَ مبادئ القراءة اللازمة؛ ولكن ظروفه الاقتصاديّة السيئة للغاية لم تُتِحْ له فرصةَ الاستمرار في الدراسة. وإني أُحِبُّ أن ينضمَّ إلى سلك الدراسة؛ لأني أعتقد أنه لو أَنْهَى التعليمَ لكان له شأن، ولانحلّت مشكلةُ فقره عن طريق الكرامة. أمّا عملُه كعامل كادح فلن يُغْنِيَ عنه غَنَاءً، وإنما يظلّ فقيرًا، يأكل كلَّ يوم هو أسرتُه مما يكسبه يوميًّا. وهو شابّ مجتهد مُثَابِر على كل عمل يشتغل به، فسيكون طالباً مجتهدًا، ثم مُثَقَّفًا لائقًا يخدم نفسَه وأسرتَه وأمّتَه بإذن الله.
تَأَثَّرَ المدير من حديث المُقَاوِل، وأَخَذَ باقتراحه، وسَمَحَ للعامل الشابّ أن يدرس في الصف الأوّل من صفوف المرحلة الابتدائية، فعاد يعمل كعامل لدى المقاول، ويدرس كطالب غير منتظم في المؤسسة، وثبت مثاليًّا في كلا المجالين: العمل كعامل كادح، والدراسة كمتعلم. واجتاز الامتحانَ السنويَّ بعلامات ممتازة، فاستحق عنايةَ المسؤولين في المؤسسة، وظلّ يعمل ويدرس، ويؤدّي الامتحانات خلال السنوات الدراسيّة، حتى أدّى امتحانَ شهادة «الماجستير» وحصل بعد سنوات على شهادة الدكتوراه، فصار العامل حائزًا على لقب «الدكتور» ثم صار مديرًا لكليّة في جامعة، وأدارها عن نجاحٍ أيِّ نجاح، وعاد ينال راتباً كبيرًا دفع عنه البؤسَ والفقرَ، وأَكْسَبَه الكرامةَ في المجتمع، وأثار لديه كاملَ الشعور بالسعادة، بعدما كان يَلْدَغُه الشقاءُ، وصار يملك قصرًا شامخاً، وسيّارةً فارهةً، ويعيش حياة رغيدة، وينفق – إلى أسرته ونفسه – على الفقراء والكادحين والبائسين من كل نوع في المجتمع، ويحوز الحسنات بيديه كلتيهما، وثناءَ الخلق، وشكرَ ربِّه.
الشقاءُ ينهزم لدى الإرادة القوية الثابتة التي يتلوها العملُ والجدُّ والصبر والمثابرة، ومحاربةُ كلِّ المُثَبِّطَات بالعزم والتحرك. وبقي أن أؤكد أنّ ذلك يتوقّف على شيء هامّ لايعدله شيء في الكون قدرةً، وهو التوفيق الإلهيّ؛ لأن مقاومة الظروف القاسية، والأوضاع المناوئة في ثبات وهمة، لاتَتَأَتَّىٰ إلاّ بهذه القوة التي تُسَمَّى «التوفيقَ الإلهيَّ» الذي يحالف المرءَ فيَسْعَد رغم جميع دواعي الشقاء التي تصطلح عليه، ويخونه فيَشْقَىٰ في أسباب السعادة التي تتوفّر لديه. وبما أننا نحن البشر لم نُحَطْ علماً بأنه من هو محطّ «التوفيق الإلهي» ومن هو الذي لا يُوَاتِيه، فلم نُكَلَّف إلاّ العملَ، واجتنابَ التكاسل والتواني، وتوظيفَ فرصِ العمل، وإيجادَها، فالتوفيقُ للعمل هو السعادة، وحرمانُه هو الشقاء.
أبو أسامة نور
(تحريرًا في الساعة 12:30 من ظهر يوم الإثنين: 17/رمضان المبارك 1433هـ الموافق 6/أغسطس 2012م)
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، ذو القعدة 1433 هـ = سبتمبر – أكتوبر 2012م ، العدد : 11 ، السنة : 36