دراسات إسلامية
بقلم : معالي الشيخ الدكتور محمد بن سعد الشويعر/الرياض(*)
واحد من كبار الزهاد الوعاظ، ومن رجال العلم المرموقين، الحافظ شيخ الإسلام، المجاهد التاجر، عبد الله بن المبارك بن واضح الحنظلي، التركي الأب الخوارزمي الأم، أبو عبد الرحمن العالم الفقيه، المحدّث المفسر المؤرخ النحوي اللغوي الصوفي لزهده، فلم يشرف بنسبه ولا بآبائه وأجداده.
وإنما شَرُفَ بما منحه الله من خصال حميدة، بانَتْ من سيرته وأعماله، فقد مُنِحَ أخلاقاً عديدة، منها الزهد والورع، والتواضع والكرم.
فقد جمع بين صفات ومعارف واسعة، وُلد عام 118هـ وتوفي في قرية «هيت» الواقعة على نهر الفرات في رمضان عام 181هـ في منصرفه من الغزو، قال عنه الزركلي في الأعلام: هو عبد الله بن المبارك بن واضح الحنظلي بالولاء الحميمي المروزي أبو عبد الرحمن الحافظ شيخ الإسلام، المجاهد التاجر، صاحب التصانيف والرحلات، أفنى عمره في الأسفار حاجاً، ومجاهدًا وتاجرًا، جمع سيرة حياته من عشرين مصدرًا (الإعلام 4:256).
يقول عنه ابن خلّكان في وفيات الأعيان: كان قد جمع بين العلم والزهد، وكان كثير الانقطاع، محباً للخلوة، وكان شديد التورع، وكذا كان أبوه، وأورد عن أبيه حكاية، أنه كان يعمل في بستان لمولاه، وأقام فيه زماناً، ثم إن مولاه جاءه يوماً، وقال له: أريد رمّاناً حُلْوًا؟ فمضى إلى بعض الشجر وأحضر منها رماناً فكسره فوجده حامضاً، فغضب عليه، وقال له: أطلب الحلو فتحضر بالحامض، هات حلوًا؟
فمضى وقطف من شجرة أخرى فأعطاه، فلما كسره وجده حامضاً أيضاً، فاشتد غضبه عليه، فقال: لا، وفعل كذلك دفعة ثالثة، فقال له مولاه فيما بعد: أما إنك أنت ما تعرف الحُلو من الحامض، أو لم تأكل؟ فقال: لا، فقال له: وكيف ذلك؟ فقال: لأنك ما أذِنْتَ لي وما أكلت من البستان شيئًا، فكشف عن ذلك فوجد قوله حقاً، فعظم في عينه، وزوّجه ابنته، ويقال: إن عبد الله هذا رزقه الله من تلك الابنة، وكان من بركة وصلاح أبيه.
ثم قال ابن خلّكان: ورأيت في بعض التواريخ، أن هذه القصة منسوبة إلى إبراهيم بن أدهم، العبد الصالح في الوعظ، وجاء في تأريخ بغداد: أن صديقاً لابن المبارك قال: كنا غلماناً، فمررنا برجل يخطب، فخطب خطبة طويلة، فلما فرغ قال لي ابن المبارك: قد حفظتها، فسمعه رجل من القوم، فقال: هاتها، فأعادها بن المبارك عليهم وقد حفظها.
أما ابن الجوزي فيقول: المسمّون بعبد الله بن المبارك ستة، أحدهم مروزي، والثاني خراساني، والثالث بخاري، والرابع جوهري، والباقيان من أهل بغداد، وفي الفتوحات الوهبية، لابن مرعي: كان أبوه مملوكاً لرجل من هَمَدان. وقد ذكر قصة حفظه: الطرطوشي في أول كتاب سراج الملوك لابن أدهم، ثم يقول: وقفت في كتاب النصوص على مراتب أهل الخصوص عن ابن شُعْبة المعصيحي، قال: قدم هارون الرشيد الرقة، فانجفل الناس خلف عبد الله بن المبارك، وتقطعتْ النعال، وارتفعتْ الغبرة، فأشرفتْ أم ولد أمير المؤمنين في برج الخشب، فلما رأت الناس قالت: ما هذا؟ قالوا لها: عالم خراسان قدم الرقة، يُقَالُ له: عبد الله بن المبارك. قالت: هذا والله الملك، لا ملك هارون الرشيد، الذي لا يجمع الناس إلا بالشرد والأعوان.
أما الذهبي في كتابه سِيَر أعلام النبلاء، فقد أفاض في ترجمته، وممّا قاله: الإمام الشيخ، عالم زمانه وأمير الاتقياء، في وقعة الحافظ الغازي، وكانت أمه خوارزمية، وطلب العلم وهو ابن عشرين سنة، وكان رجلاً صالحاً جامعاً للعلم، جمع الحديث والفقه والعربية، وأيّام الناس والشجاعة والسخاء، والتجارة والمحبة عند الناس، وأدب التعليم فقد عطس رجل عنده: فقال له أيش يقول الرجل إذا عطس، قال الحمد لله، فقال: يرحمك الله، وكان يحيى بن آدم يقول: كنت إذا طلبت دقيق المسائل فلم أجد في كتب ابن المبارك أيسْتُ (8:382-383).
وفي حرصه واهتمامه بطلب العلم، فقد تحيل حتى دخل السجن، على الربيع بن أنس الخرساني، وكان مسجوناً، فسمع منه نحواً من أربعين حديثاً، ثم ارتحل في سنة إحدى وأربعين معه، وأخذ عن بقايا الآخرين من التابعين، وذكر منهم نحو خمسين، وأكثر من الترحال والطواف، إلى أن مات في طلبه للعلم، وفي الغزو وفي التجارة، والإنفاق على الإخوان وتجهيزهم معه للحج.
يقول أحمد بن شعبان القطاني: بلغني أن ابن المبارك أتى حماد بن زيد، فنظر إليه فأعجبه سماعه، فقال له: من أين أنت؟ قال: من أهل خراسان من مرو، قال: تعرف رجلاً يقال له: عبد الله بن المبارك؟ قال: نعم قال: ماذا فعل الله به؟ قال: هو الذي يخاطبك، فقام وسلم عليه ورحب به، ثم جلس عنده وأخذ عنه.
أما إسماعيل الخطبي فيقول: بلغني أن عبد الله بن المبارك، حضر عند حماد بن زيد، فقال أصحاب حماد في أهل الحديث، لحماد: سلْ أبا عبدالرحمن أن يُحدثنا؟ فقال له: يا أبا عبد الرحمن تحدثهم، فإنهم قد سألوني؟ فقال: سبحان الله، يا أبا إسماعيل أحدث وأنت حاضر؟ فقال: أقسمت عليك لتفعلن.. فقال خذوا: حدثنا أبو إسماعيل حماد بن زيد، فما حدث بحرف لتقديره لشيخه حماد بن زيد.
يقول محمد بن عبد الوهاب الغراء: ما أخرجت خراسان مثل هؤلاء الثلاثة: عبد الله بن المبارك والنظر بن شميل، ويحيى بن يحيى، ويقول العباس بن مصعب: جميع عبد الله بن المبارك: الحديث والفقه والعربية، وأمام الناس: الشجاعة والتجارة والمحبة عند الفرق.
ومن خصاله الحميدة التي عُرف بها السخاء والكرم وكثرة الحج، فإذا جاء وقت الحج: اجتمع إليه إخوانه من أهل مرو، فيقولون: نصحبك. فيقول: هاتوا نفقاتكم، فيأخذ نفقاتهم، فيجعلها في صندوق، ويقفل عليها، ويكرمهم ويخرجهم من مرو إلى بغداد، فلا يزال ينفق عليهم، ويطعمهم أطيب الطعام، وأطيب الحلوى، حتى يصلوا إلى مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقول لكل واحد منهم، وقد أخرجهم من بغداد، بأحسن زي وأكمل لباس، ومروءة، وفي مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول لكل واحد منهم، ما أمرك عيالك أن تشتري لهم من المدينة من طُرفها؟ فيقول كذا وكذا، ثم يخرجهم إلى مكة، فلا يزال ينفق عليهم إلى أن يعود إلى مرو، فيجصص بيوتهم وأبوابهم، فإذا كان بعد ثلاثة أيام، عمل لهم وليمة وكساهم، فإذا أكلوا وسرّوا، دعا بالصندوق، ففتحه، ودفع لكل رجل منهم صُرّته وعليها اسمه.
وعُرف بكثرة الإنفاق، وله تجارة مباركة، وكان ينفق على الفقراء في كل سنة مائة ألف درهم، وقد جاء إليه رجل فسأله الإعانة بقضاء دينه الذي عليه، فكتب له إلى وكيل له، فلما ورد عليه الكتاب قال له الوكيل: كم دينك الذي عليك، وسألت قضاءه؟ قال: سبع مائة درهم، وإذا عبد الله بن المبارك قد كتب للوكيل، أن يعطيه سبعة آلاف درهم، فراجعه الوكيل، وقال: إن الغلات قد فنيت، فكتب إليه عبد الله، إن كانت الغلات فنيت فإن العمر أيضاً قد فني، فأجر له، سبق قلمي.
وقد عوتب فيما يفرّق من المال، في البلدان دون بلده، فقال: إلى أعرف مكان قوم لهم فضل وصدق، طلبوا الحديث فأحسنوا طلبه، لحاجة الناس إليهم، احتاجوا فإن تركناهم ضاع علمهم، وإن أعناهم بثوا العلم لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، لا أعلم بعد النبوة أفضل من بث العلم، وإعانة طُلابه وإعانتهم على التفرغ له.
يقول يعقوب بن إسحاق: حدثني محمد بن عيسى قال: كان ابن المبارك كثير الاختلاف إلى طرطوس، وكان ينزل الرقة في الخان – وهو بمثابة الفندق حديثاً – فكان شاب يختلف إليه، ويقوم بحوائجه، ويسمع منه الحديث، فقدم عبد الله مرة فلم يجده، فخرج إلى النظر متعجلاً، فلما رجع سأل عن الشاب، فقالوا: محبوس على عشرة آلاف درهم دين عليه، فاستدل على الغريم فوزن له عشرة آلاف درهم، وحلّفه ألا يخبر أحداً، ما عاش فأُخرج الرجلُ بعد سداد الدين الذي على الشاب للغريم.
وسرى ابن المبارك من ليلته، فلحق الفتى على مرحلتين في الرّقة، فقال له: يا فتى أين كنت؟ لم أرك، قال: يا أبا عبد الرحمن كنت محبوساً بدين، قال: كيف خلصت؟ قال: جاء رجل فقضى ديني، ولم أدر، قال: فاحمد الله.. ولم يُعلم الرجل إلا بعد موت ابن المبارك، أنه هو الذي قضى دينه.
كان أول شيخ لقيه في طلب العلم، وعمره 20 سنة هو الربيع بن أنس الخراساني، تحيّل ودخل إليه إلى السجن، فسمع منه نحواً من أربعين حديثاً، ثم ارتحل في سنة 141 إحدى وأربعين ومائة، وأخذ عن بقايا التابعين، وأكثر من الترحال والتطواف.
وعدّ الذهبي أسماء من سمع منهم 36 شيخاً منهم أبوحنيفة ومالك وابن عيينة، والليث بن سعد والحمادان، ثم قال: وخلق كثير، وسُمع منه خلق أيضاً، وحديثه حجة بالإجماع، وهو في المسانيد والأصول، ومما حدّث به عبد الله ابن المبارك عن يونس بن زيد، عن الزهري عن سهل بن سعد الساعدي، عن أبي بن كعب قال: إنّما كانت الفُتْيا في الماء من الماء رخصة في أول الإسلام، ثم نُهي عنها.
وقال العباس بن مصعب، في تاريخ مرو: كانت أم عبد الله بن المبارك خوارزمية، وأبوه تركي، وكان عبداً لرجل تاجر من هَمَدان، من بني حنظلة، فكان عبد الله إذا قدم همدان يخضع لوالديه ويعظمهما.
وسُمع من أبي أسامة قوله: ابن المبارك في المحدثين، مثل أمير المؤمنين في الناس، وقال الإمام الأوزاعي لعبد الرحمن ابن زيد: هل رأيت ابن المبارك؟ قال: لا. قال: لو رأيته لقرّت عينك.
وحدّث معاذ بن خالد قال: تعرّفت إلى إسماعيل بن عياش بعبد الله بن المبارك، فقال إسماعيل: ما على وجه الأرض مثل ابن المبارك، ولا أعلم أن الله خلق خصلة من خصال الخير، إلا وجعلها في عبد الله بن المبارك.
وعن شجاعته في الجهاد في سبيل الله، حدّث عبده بن سليمان المروزي قال: كنا سرية مع ابن المبارك في بلاد الروم، فصادفنا العدو، فلما التقى الصفان، خرج رجل من العدو، فدعا إلى المبارزة، فخرج إليه رجل فقتله، ثم آخر فقتله، ثم ثالث فقتله، ثم دعا على المبارزة، فخرج إليه رجل فطارده ساعة فطنه فقتله، فازدحم إلى هذا الفارس الناس، الذي قتل الرومي، فنظرت إليه فإذا هو عبد الله بن المبارك، وإذا هو يكتم وجهه بكمه، فأخذت بطرف كُمه فمددته فإذا هو هو، فقال: وأنت يا أبا عمرو ممن يشنّع علينا. وأخباره كثيرة في كتب التراجم، وعند العلماء وفي مصادر أمهات الكتب، وكان مُستجاب الدعوة، قال الخطيب في كتابه تاريخ بغداد: إن ابن المبارك مرّ برجل أعمى، فقال له: أسألك أن تدعو لي أن يرد الله عليّ بصري، فدعا له، فردّ الله عليه بصره، والراوي ينظر.
وأصحاب الدعوة المستجابة في سجل رجال الإسلام العارفين كثيرون، ولعلهم طبقوا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم للرجل الذي سأله أن يكون مستجاب الدعوة، فقال له رسول الله: «أطِبْ مطعمك تكُن مستجاب الدعوة».
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، شعبان 1433 هـ = يونيو- يوليو 2012م ، العدد : 8 ، السنة : 36
(*) مستشار سماحة مفتي عام المملكة العربية السعودية ورئيس تحرير مجلة البحوث الإسلامية.