الفكرالإسلامي

بقلم : أ. د. جمال الدين عبد العزيز شريف(*)

أهمية دراسة النظم القرآني:

       إن النظم المحكم والرصف المتفرد والبناء المتلاحم من أخصّ خصائص القرآن وأدق صفاته، وهذه الصفة ليست صفةً ثانويةً هامشيةً؛ بل هي في غاية الأهمية؛ إذ فيها يكمن سرّ الإعجاز ودقائق المعاني كما أشار العلماء المحققون؛ فالنظم  القرآني نظم شديد الترابط والتناسب والانسجام فلا اختلاف فيه ولا تنافر؛ وذلك لأن القرآن أحسن الحديث، وليس ذلك فحسب؛ بل إن هذا النظم المنسجم من أعظم وجوه الإعجاز القرآني؛  إذ إن صفة الترابط والتناسب والانسجام هذه هي التي تميّز نظم القرآن عن سائر نظوم البشر، وهي دلالة على أنه من عند الله؛ إذ لو كان من عند غيره لما سلم من الاختلاف والتنافر. قال تعالى: (أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ الله لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا) «النساء :82» وبمفهوم المخالفة – كما يقول الأصوليون – فإنه لما كان من عند الله فقد وجدوا فيه انسجاماً وتناسباً وتعاضداً وتماسكاً لا يكون لسواه من أنواع الكلام على إطلاقها.

       ولقد عرف العرب البلغاء الأوائل هذه الصفة  في القرآن، ويروى أن أعرابياً في زمان «عمر بن الخطاب» سمع رجلاً  يقرأ خطأً: «فإنْ زَلَلْتُمْ مِن بَعْد مَا جَاءَتْكُمُ البَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوْا أَنَّ اللهَ غَفُوْرٌ رَحِيْم» فقال الأعرابي: لا يكون(1)، وذلك لعدم المناسبة بين الجملة الأولى والثانية؛ إذ إن الضلال بعد معرفة الهدى لا يُقابَل بالغفران والرحمة، والصحيح في القرآن هو: (فَإِن زَلَلْتُمْ مِّن بَعْدِ مَا جَاءتْكُمُ الْبَيِّنٰتُ فَاعْلَمُواْ أَنَّ الله عَزِيزٌ حَكِيمٌ) «البقرة: 209».

       وقد أدرك الصحابة – رضوان الله عليهم – أهمية النظم والسياق في معرفة المعنى وإدراك الدلالات القرآنية، يقول «ابن مسعود»: (إذا سأل أحدكم صاحبه كيف يقرأ آية كذا وكذا فليسأله عما قبلها وعما بعدها)(2) وبهذا أشار «ابن مسعود» إلى منهج النظم، ويعضّد ذلك ما قاله مسلم بن يسار: (إذا حُدّثت عن الله حديثاً فقف حتى تنظر ما قبله وما بعده)(3).

       ولا شك أن معرفة المعنى من خلال السياق وإدراكه من النظوم والتراكيب ليس منهجاً جديداً ولا أسلوباً محدثاً ولا طريقةً مبتكرةً؛ وإنما هو أمر ثابت معروف، وقد أشار إليه النبي  صلى الله عليه وسلم واستخدمه في استدلالاته، ومن ذلك ما روى الترمذي من أن عائشة رضي الله عنها قد سألت النبي  صلى الله عليه وسلم: (عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ «وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ» قَالَتْ عَائِشَةُ: أَهُمْ الَّذِينَ يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ وَيَسْرِقُونَ؟ قَالَ: لَا يَا بِنْتَ الصِّدِّيقِ، وَلَكِنَّهُمْ الَّذِينَ يَصُومُونَ وَيُصَلُّونَ وَيَتَصَدَّقُونَ وَهُمْ يَخَافُونَ أَنْ لَا يُقْبَلَ مِنْهُمْ: ثم قرأ بعدها: (أُولَئِكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ)(4) وقد دلّ هذا الحديث بصورة واضحة لا لبس فيها ولا خفاء على أن النبي  صلى الله عليه وسلم قد استشهد بالنظم وأعمله في بيان المعنى المراد عند وصله للآية المسئول عنها بما بعدها.

       وللمكانة المنهجية العظمى التي يحتلها النظم ولكونه أمراً ضرورياً في استنباط المعاني وضبطها فقد حفل به المفسرون، إذ أشار «الزمخشري» إلى أنه أهم ما يجب على المفسر معرفته(5)؛ وما ذاك إلا لأن الأسرار والمعاني واللطائف القرآنية كامنة فيه، يقول الإمام الرازي: (أكثر لطائف التفسير مودعة في الترتيبات والروابط)(6).

سر الإعجاز في النظم:

       من  المعاني التي تشير إلى تناسب النظم القرآني معنى «الإحكام»؛ وقد ذكر الله تعالى أن القرآن كتاب أحكمت آياته، وذهب المفسرون إلى أن من معاني الإحكام: الإحكام في النظم والرصف والتأليف(7)، ولما كان الأمر على هذا الوجه فإنّه ينبغي مراعاة هذه الصفة التي عليها القرآن عند التعامل معه. وإذا كان الضم الحسن والنظم المتفرد والرصف الرائع والتأليف البديع من أبرز سمات القرآن وأظهر خصائصه فالفرق كبير وشاسع بين النظم الإلهي والنظوم البشرية الأخرى؛ ولأجل ذلك يقول الجاحظ: (وفرق بين نظم القرآن وتأليفه ونظم سائر الكلام وتأليفه)(8)؛ ولهذا فإنّ القرآن -لدقة النظم وإحكامه – لا يمكن أن يدخل فيه ما ليس منه؛ يقول الإمام القرطبي: «إن آياته قد نظمت نظماً محكماً لا يلحقها معه تناقض ولا خلل»(9).

       ولما كان النظم من الأهمية في هذا المكان السامي الذي ذكرنا فقد وجب الاعتناء به؛ ولأجل ذلك مال المفسرون والبلاغيون إليه وعدّوه أصلاً للإعجاز ومناطاً للتحدي؛ فالقرآن لتناسبه الشديد لا يستطيع الفصحاء والبلغاء الإتيان بمثله في النظم والتأليف؛ فهو نص إلهي متماسك الأجزاء؛ متلائم التراكيب، الأمر الذي تجد خلافه في نظوم البشر وتآليفهم.

       فالنظم إذن هو الذي يحدد جمال الكلام  أو عدمه؛ فالكلام الجيد المتميز هو الذي حسنت نظومه وتراكيبه، والكلام الرديء هو الذي ساءت تراكيبه ونظومه، وليست العبرة بالمفردات اللغوية المجردة(10).

       ولما كان الأمر على الوجه الذي ذُكر- فإنه قد ثبت أن لكل نظم وسياق مفردات تناسبه؛ ومن أمثلة ذلك أنك ترى القرآن يصف الأرض في موضع بأنها (هامدة) ويصفها في موضع آخر بأنها (خاشعة)، وما كان ذلك كذلك إلا لسبب مخصوص وغرض معين؛ وهو  اختلاف النظوم باختلاف المعاني العامة؛ إذ ذكر الأرض(هامدة) مع ذكر البعث والإحياء ؛ قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنٰكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاء إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّى وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ) «الحج:5». أما ذكر الأرض (خاشعة) فقد جئ به في سياق التسبيح والذكر وسجود الملائكة للخالق العظيم؛ قال تعالى: (وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لله الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمـَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ) «فصلت 37- 39» وسياق الآية سياق مهيب يبعث في النفس الخشوع والخضوع.

       ومن أمثلة ذلك أيضاً قوله تعالى في سورتي إبراهيم والنحل: (وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ الله لاَ تُحْصُوهَا) وقد ختمها في سورة إبراهيم ختماً مختلفاً عنه في سورة النحل؛ إذ أن السياق والنظم ليس واحداً ؛ لأن الله قد وصف في سورة إبراهيم الإنسان وما فيه من ظلم وإنكار لفضل المنعم؛ ثم قال: (وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ الله لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ) «إبراهيم 34» أما في سورة النحل فقد وُصف الله وذُكرت صفاته وأُثبتت ألوهيته؛ ثم قال: (وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ الله لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الله لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ) «النحل 18».

       وقد وصف الله الحياة الدنيا في سورتي يونس والكهف بقوله: (..مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاء فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ) ولكنه أطنب في سورة يونس وأوجز في سورة الكهف، وما ذلك إلا لاختلاف النظمين، ففي سورة يونس كان السياق يصوّر استغراق الإنسان في الحياة الدنيا وأن الله لا يعجل للناس بالشر استعجالهم بالخير، وهذا النظم يصوّر بذلك حالة الخصب والنشوة والفرح والاطمئنان الواثق(11)، ولهذا أطال في العرض؛ فقال: (إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيٰوةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنٰهُ مِنَ السَّمَاء فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّىَ إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قٰدِرُونَ عَلَيْهَآ أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنٰهَا حَصِيدًا كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيٰتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) «يونس: 24» أما في سورة الكهف فقد كانت الأحداث في النظم كلها سريعة خاطفة؛ إذ انتقل من مشهد الدمار الذي حاق بالجنتين إلى ضرب المثل للحياة الدنيا كلها، فإذا هي سريعة قصيرة؛ قال تعالى: (وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاء فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ) «الكهف: 45» والماء هنا لم يُذكَر أكلُ الناس والأنعام مما أنبت، ولم يُذكَر أيضا ازديان الأرض وزخرفتها به كما ذُكر في سورة يونس، وإنما نزل هذا الماء فلم يلبث أن اختلط به نبات الأرض حتى أصبح هشيماً خفيفاً تحمله الرياح ولا فائدة منه.

       والإعجاز- عند الجرجانى- لا يتركز في المفردات المجردة؛ بل في النظم الذي هو سمة دقيقة يكون بها التفاضل بين البلغاء؛  فجودة التراكيب وجمال النظوم يرفع الكلام درجات عالية؛ فإذا انسجمت المفردات وتناسبت الكلمات وقويت الرابطة حتى تناتج الفضل ما بينها وحصلت المزية من مجموعها، فإنّ تلك هي البلاغة الكاملة؛ ويمثِّل الجرجانى لذلك بقوله تعالى: (وَقِيْلَ يَا أرْضُ ابْلَعِيْ مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِيْ وَغِيْضَ الْـمَاءُ وَاسْتَوَتْ عَلى الجُوْدِيِّ وَقِيْلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظّٰلِمِيْن) «هود:44» حيث إنك لم تجد ما وجدت من المزية الظاهرة والفضيلة الباهرة إلا لأمر يرجع إلى ارتباط هذه الكلم بعضها ببعض ، وإن شككت فتأمّل: هل ترى لفظةً منها لو أخذت من بين أخواتها وأفردت لأدت من الفصاحة ما تؤديه وهي في مكانها من الآية؟ قل «ابلعي» واعتبرها وحدها من غير أن تنظر إلى ما قبلها وما بعدها وكذلك اعتبر سائر ما يليها: (وكيف بالشك في ذلك ومعلوم أن مبدأ العظمة في أن نوديت الأرض ثم أمرت ثم في أن كان النداء بـ«يا» دون «أي» نحو «ياأيتها الأرض»، ثم إضافة الماء إلى الكاف دون أن يقال «ابلعي الماء»، ثم أن أتبع نداء الأرض وأمرها بما هو من شأنها – نداء السماء وأمرها كذلك بما يخصّها، ثم أن قيل «وغيض الماء» فجاء الفعل بصيغة «فعل» الدالة على أنه لم يغض إلا بأمر آمر وقدرة قادر، ثم تأكيد ذلك وتقريره بقوله تعالى: (واستوت على الجودي)، ثم إضمار السفينة قبل الذكر كما هو شرط الفخامة والدلالة على عظم الشأن، ثم مقابلة «قبل» في الخاتمة بـ«قبل» في الفاتحة؟ أفترى لشيء من هذه الخصائص التي تملؤك بالإعجاز روعةً وتحضرك عند تصورها هيبةً تحيط بالنفس من أقطارها تعلقاً باللفظ من حيث هو صوت مسموع وحروف تتوالى في النطق؟ أم كلّ ذلك لما بين معاني الألفاظ من الاتساق العجيب؟ فقد اتضح اتضاحاً لا يدع للشك مجالاً أن الألفاظ لا تتفاضل من حيث هي ألفاظ مجردة، ولا من حيث هي كلم مفردة وأن الفضيلة وخلافها في ملائمة معنى اللفظة لمعنى التي تليها وما أشبه ذلك؛ مما لا تعلّق له بصريح اللفظ)(12).

       وهذا هو سرّ تفاضل البلغاء في الكلام البليغ؛ فكلما ارتفعت الدرجة في البلاغة، كان الكلام أكثر تماسكاً وانسجاماً، حتى يصل الأمر إلى مرتبة الإعجاز التي انفرد بها القرآن عن سائر أنواع الكلام.

       ولا يقتصر «الجرجاني» في دراسته  العظيمة للإعجاز على ترابط الألفاظ المفردة فحسب؛ بل يتعداه إلى الربط بين الجملة والجملة، ويصف هذا العلم المتعلّق بربط الجمل بأنّه: خفي وغامض يقول: (اعلم أنه ما من علم من علوم البلاغة أنت تقول فيه: إنه خفي غامض ودقيق صعب – إلا وعلم هذا الباب أغمض وأخفى وأدق وأصعب)(13).

       ولما كان الأمر كذلك فإنّ هذا الربط بين الجُمَلِ علم عظيم تتكَّشف عنه من المعاني ما لا يتكشف في سواه؛ ولهذا نبه العلماء إلى ضرورة معرفة تناسب النظم بين الآي والجمل القرآنية، وذكر أبو بكر بن العربي المفسِّر أنّ لهذا التناسب أسراراً عجيبةً إلا أنه قد قلّ اهتمام الناس به؛ يقول: (ارتباط آي القرآن ببعضها حتى تكون كالكلمة الواحدة؛ مشتقة المعاني؛ منتظمة المباني علم عظيم لم يتعرَّض له إلا عالم واحد عمل فيه سورة البقرة ثم فتح الله عزّ وجلّ لنا فيه؛ فلما لم نجد له حملة ورأينا الخلق بأوصاف البطلة ختمنا عليه وجعلناه بيننا وبين الله ورددناه إليه)(14).

دورالنظم في تحديد المعاني وإدراك الدلالات:

       للنظم دور مقدر وأثر واضح في تحديد المعاني وإدراك الدلالات، وربّ أسلوب من الأساليب أو عبارة من العبارات أفادت حال انفرادها معنى معيناً، فإذا انضمت إلى السياق، واحتواها النظم والتركيب تغيّر ذلك المعنى بصورة مباشرة، وليس أدلّ على ذلك من الأمر والنهي داخل سياقات القرآن؛ فـ«الأمر» هو طلب الفعل على وجه القطع والأصل فيه هو الوجوب، والنهي هو طلب اجتناب الفعل على وجه القطع والأصل فيه هو التحريم، فإذا دخل هذا «الأمر» في السياق، وأحاطت به بعض القرائن، فربما صار إلى معنى آخر من  تهديد أو إباحة وتخيير، وإذا أردت مثالاً بيناً على ذلك فخذ قوله تعالى: (فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ الله) «الجمعة:10» فهذه الجملة تدلّ حال انفرادها على وجوب الانتشار والابتغاء من فضل الله؛ ولكن ليس المقصود ذلك إطلاقاً إذا نظرنا إلى النظم  كله؛ إذ تقدّم – قبل هذه الجملة-  حظر الانتشار والابتغاء من فضل الله بقوله: (فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ الله وَذَرُوا الْبَيْعَ) «الجمعة ا: 9» ولما كان هذا النهي حظراً للانتشار عندما يُنادَى لصلاة الجمعة فإن قوله تعالى: (فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ الله) قد كان رفعاً لهذا الحظر(15)؛ ولهذا أفاد ذلك داخل هذا النظم معنى الإباحة والتخيير، والمعنى: لكم أن تنتشروا فتبتغوا من فضل الله أو لا تنتشروا، إذ أنكم مخيرون والأمر لكم بعد قضاء الصلاة لا قبلها. ومثل ذلك أيضاً قوله تعالى: (وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُواْ) «المائدة: 2» فليس هذا أمراً بالاصطياد في الحلّ، ولكنه إباحة له فحسب؛ إذ تقدم في النظم حظره بقوله تعالى: (غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنتُمْ حُرُمٌ) «المائدة: 1» فدلّ الأمر بعد ذلك على رفع هذا الحظر. ولهذا أمثلة كثيرة في القرآن.

       ولما كان الأمر على ذلك الوجه الذي سبق فقد اتضح اتضاحاً لا يدع للشك مجالاً أن من أهم الأمور في معرفة مراد الله وإدراك معانيه ومقاصده هو مراعاة النظم والسياق؛ ولهذا يقول «ابن القيم» عن النظم: (هو من أعظم القرائن الدالة على مراد المتكلم فمَن أهمله غلط في نظيره وغالط في مناظراته)(16)، ويقول «الشاطبي»: (لا بد من رد آخر الكلام على أوله وأوله على آخره؛ وإذ ذاك يحصل مقصود الشارع في فهم المكلف)(17) ، ويقول «ابن تيمية»: (ينظر في كل آية بخصوصها وسياقها وما يبين معناها ، فهذا أصل عظيم مهم نافع في باب فهم الكتاب والاستدلال به مطلقاً ونافع في معرفة الاستدلال والاعتراض والجواب وطرد الدليل ونقضه فهو نافع في كل علم خبري أو إنشائي وفي كل استدلال أو معارضة من الكتاب والسنة وفي سائر أدلة الخلق)(18)، وبهذا فإن لمراعاة النظم أهميةً كبيرةً ومكانةً عاليةً في الاستدلال ومعرفة المعاني والدلالات.

النظم يحدّد معاني المفردات:

       لما كان قصد المتكلم لا يتأتى إلا بتتبع أجزاء الكلام والربط بينها فقد اتضح اتضاحاً لا يدع للشك مجالاً أن من أهم الأمور في معرفة مراد الله وإدراك معانيه ومقاصده هو مراعاة النظم القرآني؛ ولهذا  كان هذا النظم من أعظم الأمور التي يجب مراعاتها في التفسير.

       ولما كانت المعاني لا تُعرَف إلا من النظوم فإن فهم المعنى الدقيق للمفردات لا يتأتى إلا من خلال ذلك أيضاً، إذ إن النظم يستبعد الاستخدامات الأخرى للفظ ويحدد المعنى المراد تحديداً دقيقاً، كيف تغيَّرت دلالات المفردات اللغوية المنسلخة عن النظم عندما انتظمت فشكلت فكرةً متكاملةً ومقصداً معيناً.

       وهذه المفردات لم تأخذ معناها الدقيق إلا عندما نظمها السياق وجمعها النظم والتركيب وضمتها العلاقات والروابط؛ ولذلك أمثلة كثيرة جداً من القرآن، ومن ذلك لفظ (أمة) و(كتاب) و (فتنة) و (وحي) و (ذكر) و (قضاء) فهذه المفردات إذا تأملناها في نظوم القرآن العظيم فإننا نجد معناها يختلف من نظم إلى آخر بحسب المعنى العام، ولكننا في هذا المضمار سوف نقتصر على معنى «الأمة» لضيق المجال؛ فلفظ (أمة) في الأسلوب القرآني يعطي دلالات مختلفةً ومعانٍ متباينةً يحددها النظم والسياق، ومن ذلك أن «الأمة» تعني الآتي:

       1- المدة من الزمن كما في نظم قوله تعالى: (وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ) «يوسف:  45» ومثله نظم قوله: (وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ) «هود : 8»

       2- الرجل الجامع لصفات الخير الذي يؤتم به، كما في نظم قوله تعالى: (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً) «النحل : 120»

       3- الجماعة من الدواب والطير، كما في نظم قوله تعالى: (وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم) «الأنعام : 38»

       4- الدين(19)، كما في نظم قوله تعالى: (بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ) «الزخرف: 22».

       5- الجماعة من الناس(20) لا يجمعهم شيء سوى مصلحة معينة؛ كما في نظم قوله تعالى: (وَلَمَّا وَرَدَ مَاء مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ النَّاسِ يَسْقُونَ) «القصص: 23».

خاتمة:

       من خصائص القرآن الدقيقة تناسب نظمه وانسجامه، وهذه الصفة  يكمن فيها سرّ الإعجاز ودقائق المعاني ولطائفها، وقد أشار النبي  صلى الله عليه وسلم إلى هذه الصفة، وبيّن الصحابة – رضوان الله عليهم – أهميتها، واعتنى بها المفسرون وعلماء الإسلام أيما عناية، وما ذاك إلا للمكانة المنهجية العظمى التي تحتلها هذه الصفة ولكونها أمراً ضرورياً في استنباط المعاني والأسرار القرآنية.

*  *  *

الهوامش :

(1)    الجاحظ: عمرو بن بحر: البيان والتبيين، تحقيق فوزي عطوي، ط/1 دار صعب، بيروت، سنة 1968م ، ج 2 ص 339.

(2)    أبو بكر الصنعاني: عبد الرزاق بن همام :  مصنف عبد الرزاق ، تحقيق حبيب الرحمن الأعظمي،  ط/2 المكتب الإسلامي ، بيروت،  سنة 1403هـ ، ج 2 ص 365

(3)    تفسير القرآن العظيم ج1 ص 7

(4)    الترمذي: محمد بن عيسى: الجامع الصحيح : سنن الترمذي ، تحقيق أحمد محمد شاكر وآخرون، ط/ دار إحياء التراث العربي ، بيروت ، كتاب تفسير القرآن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، باب : سورة المؤمنون ، حديث رقم  3175 ، والجامع لأحكام القرآن ج12 ص 132، وتفسير القرآن العظيم ج 5 ص 480

(5)    الزركشي : البرهان في علوم القرآن ، ج 1، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، ط / دار الجيل القاهرة 1988م ، ص36

(6)    المصدر السابق

(7)    الجامع لأحكام القرآن ، 4 /10.

(8)    الجاحظ: كتاب العثمانية ، تحقيق عبد السلام هارون ، ص16.

(9)    الجامع لأحكام القرآن ، 6 /2.

(10)  الجرجاني : عبد القاهر : دلائل  الإعجاز، تحقيق محمود محمد شاكر، ط2، مكتبة القاهرة ، سنة 1992م 46-48.

(11) سيد قطب : الظلال ، ط/ دار الشروق (د.ت) ، ص 1775.

(12)  دلائل الإعجاز  ص45-46 .

(13)  المصدر السابق  ص231.

(14)  البرهان في علوم القرآن 1/36.

(15)  الآمدي : علي بن محمد : الإحكام في أصول الأحكام ، تحقيق سيد الجميلي، ط/1 دار الكتاب العربي ، بيروت ، سنة 1404هـ، ج 2 ص 198

(16)  ابن القيم : محمد بن أبي بكر أيوب الزرعي، بدائع الفوائد ، تحقيق  هشام عبد العزيز عطا وآخرون، ط/ مكتبة نزار مصطفى الباز – مكة المكرمة – ابن القيم الجوزية سنة 1416هـ ،ج4 ص 815 ، والبرهان في علوم القرآن ج 2 ص 200

(17)  الشاطبي: إبراهيم بن موسى :الموافقات ، تحقيق  أبو عبيدة مشهور بن حسن ، ط /1دار ابن عفان ، سنة1997م ، ج 4 ص 267

(18)  ابن تيمية : أحمد بن عبد الحليم ،مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية ،  تحقيق أنور الباز وعامر الجزار ، ط/3 دار الوفاء، سنة 1426 هـ ، ج 6 ص 18

(19)  جامع البيان ج 13 ص 243، وتفسير القرآن العظيم ج 1 ص 158، والجامع لأحكام القرآن ج 10 ص 10

(20)  تفسير القرآن العظيم  ج 1 ص 158.


(*)   أستاذ التفسير وعلوم القرآن بجامعة الجزيرة / السودان.

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم  ديوبند ، جمادى الأولى – جمادى الثانية 1433 هـ = أبريل – مايو 2012م ، العدد : 5 – 6 ، السنة : 36

Related Posts