الفكرالإسلامي
بقلم : معالي الشيخ الدكتور محمد بن سعد الشويعر/الرياض(*)
الشر والخير يتصارعان حول الإنسان في هذه الحياة، فإذا تغلب الخير سعدت البشرية وعمَّها الخير، وإذا تغلب الشر، كثرت في المجتمع الفتن والصراعات، وهي حكمة من الله سبحانه، يمتحن بها العباد، يقول سبحانه:
﴿مَا كَانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللهُ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآمِنُوا بِالله وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ﴾ (آل عمران179)
فمثلما أن النار عندما تصهر الحديد، يتميز خبث الحديد من جيــده، فالله يُرسل على عباده الخير والشــر؛ حتى يتميــز جــوهر الإنسان بالإيمان والتقــوى والصبر والقناعة.. ومن هذه يحقق الله سبحانــه مدافعتــه عن عباده، كما في حديث الدعاء، فقد أخبر صلى الله عليه وسلم عن الدعاء الذي لايقبله الله من قلبٍ غافل، ولا من متلوّم، يقول «قد دعوت ودعوت فلم يستجب لي»؛ لكن الدعاء المطلوب من العبد، حتى يدافع الله عنه، لابد أن يكون بحضور قلب، وتأدّب مع خضوع؛ حتى يستحق إحدى الثلاث التي وعد رسول الله صلى الله عليه وسلم بها بقوله الكريم: «لا يضيع الله دعاء المسلم المتضرع بخشوع وحضور قلب، فإنّ دعاءه بإحدى ثلاث: إما أن يعجل الله بإجابته، أو يدفع الله عن صاحبها من البلاء ما لا يدفعه إلا الله، سواء في نفسه أو ماله أو ولده، أو تُدَّخر له في الآخرة»، وهذه الآية يعضدها آية أخرى في سورة الحج يقول سبحانه: ﴿إنَّ اللهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِيْنَ آمَنُوا﴾ (الحج 38)، فقد أخرج ابن أبي حاتم عن قتادة – رضي الله عنه – في هذه الآية قال: والله لايضيع الله رجلاً قط حَفِظَ له دينه. (الدرالمنثور 6:57).
ويمكّن هذا المعنى، بحفظ الله لمن حفظ دينه ومدافعة الله جلّ وعلا، حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في وصيته لابن عباس، وكان رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا غلام، احفظ الله يحفظك، تعرّف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة، واعلم أن أهل الأرض أولهم وآخرهم، وإنسهم وجِنّهم، لو اجتمعوا على أن ينفعوك لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لن يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك؛ رُفعت الأقلام وجفَّت الصحف» أو كما قال.
والمسلم في جميع أموره، مرجعه وعلاجه في كل ما يطرأ عليه من مشكلات وفتن، كتاب الله وسُنّة رسوله – صلى الله عليه وسلم – كما جاء عن أحد الصحابة حين قال: «خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكثر، فقلنا يا رسول الله كأنها خطبة مودّع فأوصنا؟ قال: تركتُ فيكم ما لن تضلوا ما تمسكتم بهما: كتاب الله وسُنَّتي..» إلى آخر الحديث الذي فيه مدافعة الله عن المسلم وقت الفتن والمحن، ووقت اختلاف الآراء، وبروز الشرور، وهذا من عطاء الله؛ فإن الله يعطي الدنيا مَنْ يحب ومَنْ لايحب؛ ولكنه لايعطي الدين إلا مَنْ يحب.
فإذا كان هذا الغذاء الروحي الذي جاء عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم، وهو من أهم المهمات في حياة المسلم ورابطته بخالقه، وإدراك آثار مدافعة الله عنه، فإن هناك مدافعات أخرى عن أجساد بني آدم، وهي موجودة في المسلم وغير المسلم؛ فالمسلم إذا عرفها وشكر أُجِر، وغير المسلم لايشكر الله على حسنها، ويسخط إذا ساءت عنده؛ ففي الحالتين الكل مرصود ﴿وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا﴾ (الكهف49)
والماديات التي قد لا يتعظ بها كثير من الناس تتمثل في كُريّات الدم البضاء التي تُسمَّى الجيش الفدائي، تأتي مُسرعةً وبتكاثر عندما ينتاب الجسم خطر في أي مكان منه؛ فقد هداها الله إلى قُدرةٍ على تغيير الشكل؛ ما يسهل انتقالها من الأوعية الدموية، إلا الخلايا ضد بعضها الآخر؛ حيث وهبها الله طريقةً في الاختفاء؛ ما يسهل انتقالها من الأوعية إلى الخلايا أثناء عملية الدفاع عن الجسم من الخطر النازل به؛ ما يُشبه العمليات العسكرية؛ فسبحان القائل: ﴿قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى﴾ (طه 50).
وقد أعطى الله سبحانه أجسامنا أنشطةً لصناعة هذه الكُريّات البيضاء، والتكاثر بالملايين في كل دقيقة، وأحكم الخلاق العليم عملها في كل فرد من البشر، على وجه الأرض، مع كثرتهم بحيث لا يخفى عليه خافية.
فهل جاءت هذه الأشياء مصادفةً، أو اشتريناها بأموالنا، أو توافرت بجهودنا وتخطيطنا؟.. لا والله؛ إنها فضل من الله، ودليل على عظيم قدرته، وعجائب صنعته، وكل هذا مما يستحق الشكر وصفاء العقيدة وحُسْن العمل مع الدعاء.
وهذا جزء بسيط مما في النفس البشرية من أسرار وأعمال؛ حيث أمرنا الله أن نتبصر ونعتبر ثم نشكر الله على ما تفضل به علينا وما أنعم به علينا: ﴿وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ﴾ (إبراهيم7).
وإن من شكره جل وعلا القيام بأمره، واجتناب نواهيه، وعبادته على الوجه الذي ارتضاه، والثبات على ذلك؛ لأن أحبّ العمل إليه سبحانه أدومه وإنْ قَلَّ.
إن هذه النفس البشرية ذات الأسرار والعجائب خلقها الله لهدف، وأُوجدت في الحياة الدنيا لغاية سامية، وجعل الله العقل هبةً للبشر؛ ليدركوا به فضل الله عليهم، ويؤدوا أو ليؤدوا ما افترض الله عليهم؛ لأنه – جل وعلا – يعطي الكثير، ولا يطلب من عباده إلا القليل، ويعفو عما لاتطيقه النفس ﴿أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنٰكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ﴾ (المؤمنون 115)، ويقول: ﴿لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا﴾ (البقرة286).
وجاء في الحديث القدسي: «ابن آدم خلقتك لأجلي فلا تَلْعب، وخلقت كلَّ شيء لأجلك فلا تتعب..». إنَّ أضعف شيء في أجسامنا لو فقد وظيفته التي أوجده الله من أجلها، فسوف نبذل في سبيل ذلك ولإعادتها الغالي والنفيس من المال والجهد والوقت، بينما في أجسامنا مئات العجائب والملايين من الدفاعات عنها، التي حمانا بها الله من المخاطر.
فهلا استشعرنا ذلك؛ حتى يقوى إحساس الإيمان في قلوبنا، للثناء على الله، وهذا لايكلفنا شيئاً: قياماً وقعوداً وعلى جنب.. وقد علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم منهجاً للتعامل فيما بيننا صفاء، وبما يورث المحبة، ويولد الإخاء، فقال: «من صنع إليكم معروفاً فكافئوه حتى تروا أنكم قد كافأتموه»، وهذا من مجازاة الإحسان بالإحسان في التعامل؛ لكن المكافأة مع الله المنعم المتفضل تختلف، نلمس هذا أثراً في القلب، وبركةً في العمل والمال، وصلاحاً في الذرية، وقبولاً عند الناس.
لأنه سبحانــه غني عن عباده، وليس في حاجة إليهم؛ بل هم المحتاجون إليه؛ فلا بد من المقابلة بالشكر له، والإخلاص في العبادة والدعاء حتى يديمها الله تعالى؛ حيث تأذن بالزيادة للشاكــرين، وزيــادته سبحانه لا حدود لها؛ فقد كان نبي الله «سليمان» ذاهبًا مع جنوده لصلاة الاستسقاء، فرأى نملةً رافعةً يديها تدعو فتأملها ثم قال: «ارجعوا فقد سُقيتم بدعوتها». فالله لا يخفى عليه شيء؛ فهـو يسمـع ويـرى دبيب النملة السوداء على الصخــرة الصماء في ظلمــة الليل، وقد خفــي شيء مـن ذلك على الصحابة رضوان الله عليهم، في أول عهدهم بالإسلام؛ فأرشدهم للأمــر الصحيــح المتعــلق بسمــع الله؛ فقد قال أبو موسى الأشعري – رضي الله عنه – : كنا مع رسول الله في غزوة، فجعلنا لا نهبط شرفاً، ولا نعلو شرفاً، إلا رفعنا أصواتنا بالتكبير، قال: فدنا منا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: «يا أيها الناس، اربعوا على أنفسكم؛ فإنكم لا تدعون أصمّ ولا غائباً، إنما تدعون سميعاً بصيراً، إن الذي تدعون أقرب إلى أحدكم من عُنق راحلته»، وهذا هو معنى قوله تعالى: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ﴾ (البقرة186).
فالنفس المؤمنة إذا دعت الله بدعوة صادقة ليس فيها إثم ولا قطيعة رَحِم، ومِنْ قلبٍ نقي ومكسب حلال، فهي عند الله بإحدى ثلاث: إما أن تُعجَّل لها دعوتها، وإما أن تُدَّخر لها في الآخرة، وإما أن يُدفع عنها من السوء مثلها. وهذا من رحمة الله ومدافعته عن عباده، ورأفته بهم.
وهـذه الدعــوة الصادقــة من نتائجها أن يُحرك الله جنــوداً خفيةً في المدافعة، وفي العطاء، أليس من الدعاء المأثـور في القنوت: «وادفع عنها من البلاء ما لا يدفعه إلا أنت»، ومدافعة الله لها جوانب عديدة.
ولو سرنا مع الأطباء والمختصين خطوات في حديثهم عن الجنود الخفية، التي يدافع الله بها عن الإنسان، وموطن الضعف في جسده، وما سخر الله – جل وعلا – لهذا الإنسان من الدفاعات، وهذا الإنسان غافل عنها وهي من الآفات المحيطة به، لقال لك المختصون: إن الجوّ مملوء بالجراثيم والفيروسات وغيرها، فيجافيها عنك، ويهيئ جنوداً وأسباباً حتى تدافعها، وهذا من الأسرار والعجائب، والقضايا الغريبة العديدة.. وهذا من المدافعة عنا، ألم تقرأ يا أخي سورة الفيل، عندما جاء «أبرهة» بجيش عظيم، وفيل ضخم لهدم الكعبة المشرفة؛ لأنه بنى في أرض اليمن بنايةً ضخمةً، يريدها بديلاً للكعبة البيت الحرام، ولما جاءه عبد المطلب، جِدّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، يطلب منه رد إبله التي استحوذ عليها استهزأ به في هذا المطلب؛ فردّ على مقالته بقوله «أنا ربّ الإبل، وللبيت ربّ يحميه» في قصة طويلة أوردها ابن كثير في تفسيره وغيره، ونهايتها ما سلط الله على «أبرهة» من مرض تساقطت بسببه أعضاؤه، وكذلك حكاية «النمرود» الذي ادّعى الألوهيــة، ومعانــدته مع نبي الله إبراهيم الخليــل؛ بل بلغ من عتوه وتكذيبه لإبراهيم عليــه السلام أن قال لــه: هل لك من رب غيري. وتقول بعض الأحاديث الإسرائيلية، التي قـال عنها رســول الله صلى الله عليه وسلم: «إنها لا تُصـدّق ولا تُكذّب» – لا تُصدّق فقد تكون من المكذوب، ولا تُكذّب فقــد تكــون من السليم .. ولكن تؤخــذ للعبرة والاتعاظ – : فلما فشلت النسور التي ارتفعت به في الجو، وقد رجع إليه أحد سهامه وفيه آثار دم، قال قتلت رب إبراهيم – تعالى سبحانه عما يقوله الظالمون – ؛ فسلَّط الله عليه أضعف مخلوقات الله «البعوضة» فدخلت في أنفه، وآذنه، لا ينام ولا يستقرّ أربعين عاماً، ليُريَهُ الله عجزه، وعذاب الآخرة أشدّ.
وما استعلى أحد على شرع الله ودينه، أو بطش وظلم، إلا انتقم الله منه، وأرسل عليه جنوداً من مخلوقاته، ليكون عبرةً، ولعل من تلك العِبر ما تنتهي إليه أحوال الجبابرة في الدنيا، من نهايات هي عظة لمن يريد أن يتعظ، وجنود الله كثيرة، وسهام الليل في الدعاء، آخر الليل، تُساق كنماذج لمن في قلبه موطن للعظة والاعتبار.
* * *
* *
(*) مستشار سماحة مفتي عام المملكة العربية السعودية ورئيس تحرير مجلة البحوث الإسلامية.
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، جمادى الأولى – جمادى الثانية 1433 هـ = أبريل – مايو 2012م ، العدد : 5 – 6 ، السنة : 36