الفكرالإسلامي

بقلم:     نور عالم خليل الأميني رئيس تحرير المجلة

الرد على المسألة الرابعة:

       ولكن العلما – رحمهم الله – قد منعوا تماماً عن الخوض فيما شجر بينهم، وأكدوا على الكف عنه، وضغطوا على الإشادة بذكرهم الحسن والثناء عليهم والترضي عنهم، وحبهم لحرمة الصحبة، وشرف التلقي عن النبي  صلى الله عليه وسلم مباشرة، ولكونهم المُخَاطَبِين الأولين بالوحي، ولإعلان الله رضاه عنهم. وقد سبق أن سردنا قول ابن تيمية – رحمه الله – أن الرضا من الله صفة قديمة، فلا يرضى إلا عن عبد يعلم أنه يبقيه على موجبات الرضى، ومن رضي الله عنه، لم يسخط عليه أبداً. وقد رأيتَ فيما سقناه آنفاً من تصريحات العلماء وأعلام الأمة أن أحداً من الفريقين لم يَخْطُ خطوةً إلا عن اجتهاد يُثَابُ فيه حتى المخطئُ. أما حريةُ الرأي فهي ممنوعة في العقائد، والواجب الوقوف عند الحدود المقررة في الشريعة، ولايجوز فيها إطلاقُ اللسان أو القلم، والطبيعةُ لابد أن تكون خاضعة للدين، إذا كان صاحبها يؤمن بدين ولا سيما إذا كان هذا الدين هو الإسلام الذي قال نبيه لايؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به. ومن مقتضيات الطبيعة البشرية كذلك أن نثنى على المحسن ونُوَفِّيَه حقَّه من الإنصاف والاعتراف، وليس أحد أكثر فضلاً على الأمة وإحساناً إليها بعد النبي  صلى الله عليه وسلم من أصحابه رضي الله عنهم؛ لأنهم هم الذين نقلوا إلينا الدين، وعلى أيديهم ضرب الدين بجرانه، وتحققت شوكة الإسلام، وتعززت أركانه ودعائمه. وقد أثنى الله عليهم، ومدحهم نبيهم، ومنع عن سبهم، وإطلاق اللسان فيهم. وإذا كانت أخلاقكم والقانون الذي وضعتموه لاتمنع من الإساءة إلى الصحابة وإلى المحسنين العظام، فإنها تمنع منها الأخلاق الإسلامية والقانون الذي وضعه خالق البشر ورب العالمين.

       وتحدث الإمام محمد بن أحمد القرطبي (م671هـ/1273م) في تفسيره عن ذلك في تفصيل وشمول، وجمع كثيراً من أقوال العلماء والفقهاء، ونراه قد وفّى الموضوعَ حقَّه من البحث والإشباع، ونسرد فيما يلي مقتطفاً طويل النفس مما قاله:

       «لا يجوز أن يُنْسَب إلى أحد من الصحابة خطأٌ مقطوع به، إذ كانوا كلهم قد اجتهدوا فيما فعلوه وأرادوا الله عز وجل، وهم كلهم لنا أئمة، وقد تعبّدنا بالكف عما شجر بينهم، ولا نذكرهم إلا بأحسن الذكر، لحرمة الصحبة ولنهي النبي  صلى الله عليه وسلم عن سبهم، وأن الله غفر لهم، وأخبر بالرضا عنهم. هذا مع ما ورد من طرق مختلفة عن النبي  صلى الله عليه وسلم: أن طلحة شهيد يمشي على وجه الأرض؛ فلو كان ما خرج إليه من الحرب عصياناً(1)، لم يكن بالقتل فيه شهيداً، وكذلك لو كان ما خرج إليه خطأً في التأويل وتقصيراً في الواجب عليه؛ لأن الشهادة لاتكون إلا بقتل في طاعة، فوجب حمل أمرهم على ما بينا»(2).

       «ومما يدل على ذلك ما قد صح وانتشر من أخبار علي بأن قاتل الزبير في النار(3) وقوله سمعت رسول الله  صلى الله عليه وسلم يقول: بَشِّرْ قاتلَ ابن صفية بالنار، وإذا كان كذلك فقد ثبت أن طلحة والزبير غير عاصيين ولا آثمين بالقتال؛ لأن ذلك لو كان كذلك، لم يقل النبي  صلى الله عليه وسلم في طلحة: شهيدٌ، ولم يخبر أن قاتل الزبير في النار، وكذلك من قعد، غيرُ مخطيء في التأويل، بل صواب أراهم الله بالاجتهاد.

       ثم قال: «وإذا كان كذلك لم يوجب ذلك لعنَهم، والبراءةَ منهم، وتفسيقَهم، وإبطالَ فضائلهم وجهادَهم وعظيمَ غنائهم  في الدين رضي الله عنهم.

       «وقد سئل بعضهم عن الدماء التي أريقت فيما بينهم، فقال: تلك أمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ، ولا تُسْأَلُوْنَ عَمّا كَانُوا يَعْمَلُوْنَ.. وسئل بعضهم عنها أيضاً، فقال: تلك دماء قد طهر الله منها يديّ فلا أخضب بها لساني، يعني التحرز من الوقوع في خطأ والحكم على بعضهما لايكون مصيباً فيه.

       «قال ابن فورك (محمد بن الحسن بن فورك الأنصاري الأصبهاني، أبوبكر المتوفى 406هـ/ 1015م) : ومن أصحابنا من قال: إن سبيل ما جرت بين الصحابة من المنازعات كسبيل ما جرى بين إخوة يوسف مع يوسف، ثم إنهم لم يخرجوا بذلك عن حد الولاية والنبوة، فكذلك الأمر فيما جرى بين الصحابة.

       «قال المحاسبي (الحارث بن أسد المحاسبي أبو عبد الله المتوفى 243هـ/857م): فأما الدماء فقد أشكل علينا القول فيها باختلافهم، وقد سئل الحسن البصري عن قتالهم، فقال: قتال شهده أصحابُ محمد  صلى الله عليه وسلم وغبنا، وعملوا وجهلنا، واجتمعوا فاتّبعنا، واختلفوا فوقفنا، قال المحاسبي: فنحن نقول كما قال الحسن، ونعلم أن القوم كانوا أعلم بما دخلوا فيه منا، ونتبع ما اجتمعوا عليه، ونقف عند ما اختلفوا فيه، ولا نبتدع رأياً منا، ونعلم أنهم اجتهدوا، وأرادوا الله عز وجل، إذ كانوا غير متهمين في الدين، ونسأل الله التوفيق»(4).

       وتحدث شيخ الإسلام ابن تيمية في الموضوع، فقال وهو يذكر عقائد أهل السنة والجماعة: «ويتبرأون من طريقة الروافض الذين يبغضون الصحابة، ويسبّونهم وطريقة النواصب الذين يؤذون أهل البيت بقول أو عمل، ويمسكون عما شجر بين الصحابة، ويقولون: إن هذه الآثار المروية في مساويهم منها ما هو كذب، ومنها ما قد زيد فيه ونُقِص وغُيِّرَ عن وجهه، والصحيحُ منه، هم فيه معذورون إما مجتهدون مصيبون، وإما مجتهدون مخطئون، وهم مع ذلك لايعتقدون أن كل واحد من الصحابة معصوم من كبائر الإثم وصغائره، بل يجوز عليهم الذنوب في الجملة، ولهم من السوابق والفضائل ما يوجب مغفرةَ ما يصدر منهم، إن صدر، حتى إنهم يغفر لهم من السيئات ما لا يغفر لمن بعدهم، لأن لهم من الحسنات التي تمحو السيئات ما ليس لمن بعدهم.

       «وقد ثبت بقول رسول الله  صلى الله عليه وسلم أنهم خيرُ القرون، وأن المُدَّ من أحدهم إذا تَصَدَّقَ به كان أفضلَ من جبل «أحد» ذهباً ممن بعدهم، ثم إذا كان قد صدر من أحدهم ذنب فيكون قد تاب منه أو أتى بحسنات تمحوه أو غفر له بفضل سابقته أو بشفاعة محمد  صلى الله عليه وسلم الذي هم أحق الناس بشفاعته، أو ابْتُلِيَ ببلاء في الدنيا كفر به عنه، فإذا كان هذا في الذنوب المحققة، فكيف الأمور التي كانوا فيها مجتهدين، إن أصابوا فلهم أجران، وإن أخطأوا فلهم أجر واحد، والخطأ مغفور.

       «ثم إن القدر الذي يُنْكَر من فعل بعضهم قليلٌ نزرٌ مغفورٌ في جنب فضائل القوم ومحاسنهم، من الإيمان بالله ورسوله، والجهاد في سبيله، والهجرة والنصرة، والعلم النافع، والعمل الصالح. ومن نَظَرَ في سيرة القوم بعلم وبصيرة وما منّ الله عليهم به من الفضائل، عَلِمَ يقيناً أنهم خير الخلق بعد الأنبياء لاكان ولا يكون مثلهم، وأنهم الصفوة من قرون هذه الأمة التي هي خير الأمم وأكرمها على الله»(5).

       ولذلك كله منع المحققون من الخوض بأي طريقة كتابية أو خطابية أو سمعية فيما شجر بين الصحابة رضي الله عنهم، لأنه اشتغال بما لايعنى، ويؤدي بالمرء إلى الإساءة لأحد من الفريقين، و أوجبوا الكفَّ عن ذلك. يقول السفاريني:

       «يجب حبُّ كل الصحابة والكفُّ عما جرى بينهم كتابةً وقراءةً وإقراءً وسمعًا وتسميعاً، ويجب ذكرُ محاسنهم، والترضّي عنهم، والمحبة لهم، وترك التحامل عليهم، واعتقاد العذر لهم، وأنهم إنما فعلوا ما فعلوا باجتهاد سائغ»(6).

       ويقول: «وإنما نُهِيَ عن الخوض في مشاجرة الصحابة؛ لأن الإمام أحمد كان ينكر على من خاض، ويسلم أحاديث الفضائل، وقد تبرأ ممن ضلّلهم أو كفّرهم، وقال: السكوت عمّا جري بينهم»(7).

       وقال الإمام الشافعي رحمه الله: «تلك دماء طهر الله عنها أيدينا فلنطهر عنها ألسنتنا»(8).

       وجزى الله الإمام أبا زرعة الرازي رحمه الله، الذي قال – فيما رواه الحافظ ابن عساكر – له رجل: إني أبغض معاوية، فقال له: ولِمَ؟ قال: لأنه قَاتَلَ عليًا، فقال له أبو زرعة: «وَيحك إن ربّ معاوية رحيم، وخصم معاوية خصم كريم، فإيش دخولك أنت بينهما، رَضِيَ الله عنهما؟ (هامش ص206 من كتاب «العواصم من القواصم»).

الرد على المسألة الخامسة:

       والشجار الذي حدث بينهم لم يسلبهم العدالة، والمصيب والمخطيء منهم، كلاهما بقي عدلاً مرضيّاً عند الله وعند الناس؛ لأنّ الله العليم الحكيم الخبير الذي أعلن رضاه عنهم في كتابه الخالد كان يعلم ما هو كائن من هذا الشجار، وما هو حاصل منهم من هذا الاختلاف النابع من الاجتهاد، وقد سبق أن سردنا قول الحافظ ابن تيمية: «ولهم من الفضائل والسوابق ما يوجب مغفرةَ ما يصدر منهم إن صدر، حتى إنهم يُغْفَرُ لهم من السيئات مالا يُغْفَرُ لمن بعدهم».

       يقول السفاريني في معرض الحديث عن شجار الصحابة رضي الله عنهم: «وبالجملة فكلهم معذورون مأجورون؛ ولهذا اتفق أهل الحق ممن يعتدّ به في الإجماع على قبول شهاداتهم وروايتهم وثبوت عدالتهم»(9).

       وقد سبق في المقتطف الطويل الذي سقناه من البحث الشامل للقرطبي في تفسيره من قول بعض العلماء: «إن سبيل ما جرى بين الصحابة من المنازعات كسبيل ما جرى بين إخوة يوسف مع يوسف، ثم إنهم لم يخرجوا بذلك عن حد الولاية والنبوة، كذلك الأمر فيما جرى بين الصحابة رضي الله عنهم(10).

       ويقول النووي في «التقريب»: الصحابة كلهم عدول من لاَبَسَ الفتنَ وغيرهم بإجماع من يعتدّ به»(11).

       ويقول في شرحه لصحيح مسلم: «وأما الحروب التي جرت، فكانت لكل طائفة شبهة اعتقدت تصويب أنفسها بسببها، وكلهم عدول ومُتأَوِّلون في حروبهم وغيرها، ولم يخرج شيءٌ ذلك أحداً منهم من العدالة؛ لأنهم مجتهدون اختلفوا في مسائل من محل الاجتهاد، كما يختلف المجتهدون بعدهم في مسائل من الدماء وغيرها، ولا يلزم من ذلك نقص أحد منهم»(12).

       ويقول الخطيب البغدادي: «يجب أن يكونوا على الأصل الذي قَدَّمناه من حال العدالة والرضا، إذ لم يثبت ما يزيل ذلك عنهم»(13).

       ويقول ابن الأنباري (المتوفي 328هـ): ولم يثبت لنا إلى وقتنا هذا شيء يقدح في عدالتهم، فنحن على استصحاب ما كانوا عليه في زمن رسول الله  صلى الله عليه وسلم(14).

       على كل فهذه النصوص والتصريحات أَكَّدَتْ أن أصحاب رسول الله  صلى الله عليه وسلم ظلوا عدولاً ثقات قبل ما شجر بينهم وبعده، وهو مذهب أهل السنة والجماعة، ولا يُعْتَدُّ بقول من خالف إجماع الأمة، من مُعْوَجِّي الفكر ومشلولي العقل والرأي، ممن ينتمون إلى أهل السنة، أو ضعيفي الدين والعقيدة أو المتنكرين لها من الروافض والإمامية والطوائف الأخرى التي تبغض الصحابة، بل إن دينها يقوم على أساس البغض لهم.

       وإذا كان هناك بعض ما يُنْقَلُ عنهم من الاختلاف والشجار، فإنك قد رأيتَ علماء الأمة كيف أخذوا بجانب الحيطة والحذر في هذا الخصوص، لأن سوابقهم وفضائلهم في الإسلام تمحو ذلك كله، ولأنهم جيلٌ رَبَّاه الله عن طريق نبيه مباشرةً، ويخطيء من يتغاضي عن ذلك كلّه ويضرب عُرْضَ الحائط ما جاء في شأنهم في القرآن والحديث ونصوص أعلام الأئمة ومجتهدي الأمة من الثناء الجزيل، والذكر الجميل، والمدح العاطر، ويبرز من المساوئ المنحولة إليهم ما هو لقيط، أو مختلط، أو مدخول أو مختلق، وما صحَّ منها – إن صحَّ – فقد غفره الله لهم؛ ولكن المُغْرِضِين والمَرْضَىٰ لايرضون أن يغفروا لهم شيئاً مهما غفره الله، وَسَيَعْلَمُ الَّذِيْنَ ظَلَمُوْا أيَّ مُنْقَلَب يَنْقَلِبُوْنَ، ولقد أحسن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله إذ قال:

       «وخيارُ هذه الأمة هم الصحابة، فلم يكن في الأمة أعظم اجتماعاً على الهدى ودين الحق، ولا أبعد عن التفرق والاختلاف منهم، وكل ما يُذْكَر عنهم مما فيه نقص، فهذا إذا قيس إلى ما يوجد في غيرهم من الأمة كان قليلاً من كثير، وإذا قيس ما يوجد في الأمة إلى ما يوجد في سائر الأمم كان قليلاً من كثير، وإنما يغلط من يغلط أنه لينظر إلى السواد القليل في الثوب الأبيض وينظر إلى الثوب الأسود الذي فيه بياض»(15).

*  *  *

الهوامش:

وكان قد خرج طلحة ضدّ علي، والإشارةُ ههنا إلى وقعة الجمل. (الأميني).

يعني الاعتقاد بأنهم اجتهدوا فيما فعلوه وإنما أرادوا الله عز وجل.

وكان الزبير رضي الله عنه هو الآخر في المُعَسْكَر الذي كان ضد علي رضي الله عنه.

تفسير القرطبي، ج16، ص:322.

العقيدة الواسطية، ص: 173-176.

شرح الدرة المضيئة، ج2، ص:386.

المصدر السابق، ج2، ص:386.

شرح المواقف، ج8، ص:374، ط: مصر.

شرح الدرة المضيئة، ج2، ص:386.

تفسير القرطبي، ج16، ص:322.

«مقام الصحابة» بالأردية للمفتي محمد شفيع رحمه الله، ص:77.

شرح مسلم للنووي، ج2، ص:272.

الكفاية في معرفة علم الرواية، ص:49.

اليواقيت والجواهر، نقلاً عن الأساليب البديعة، ص:18.

منهاج السنة، ج3، ص:242.

*  *  *

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم  ديوبند ، جمادى الأولى – جمادى الثانية 1433 هـ = أبريل – مايو 2012م ، العدد : 5 – 6 ، السنة : 36

Related Posts