دراسات إسلامية

بقلم : محمد محامد حسين(*)

       أما غزله فمن أحسنه مثالاً، هو قصيدته الطويلة باسم «مرآة الجمال» التي وصف فيها «آزاد» كل عضو من أعضاء المعشوقة من الرأس إلى القدم، وكل ما يتعلق بها من التبسم و الكحل والقرط، والطوق واللباس وماإلى ذلك مخصصاً لكل منها بيتين. وها أنا ذا أقدم فيما يلي بعض الأبيات من هذه القصيدة فيقول:

       في وصف الحسن المطلق:

بي ظبـيـة من أبرق الحـنان

من مثلهـا في عالم الإمكـان

شمس تباهي بالسنـا أمـة له

وكـواكب أخرى من الغلمان

       في وصف الضفيرة:

أضفيرتان على بياض خدودها

أو في كتاب الحسن سلسلتان

أو ليلتا العيدين أقـبلتا معـا

أو من قصائدهم معلقـتـان

       في وصف الجبهة:

لله جبهتها المضيـئة في الدجى

وهب الإله ل، ها علو مكان

هي نصفُ بدر كامل لكنها

تربو على القمرين في اللمعان

       في وصف العين:

طرفا الحبيـبة ماكران تمارضا

وتغافلا عن رؤية الجــيران

أو نرجسان على غصن واحد

وهمــا بماء مسكر نضران

       في وصف الفم:

وفَـمُ الحبيـبة حقة محمرة

فيـها لآلي الماء والتـبيان

ياقوتة مثـقـوبـة لكنها

بالثقب خالية عن النقصان

       في وصف الشفة:

شفة الفتاة عقيقة يـمـنيـة

تشفي مويهتها صدى الظمآن

رطبان كل منهما ذو حمـرة

متـفاخران باللـون والحلوان

        في وصف الخد:

خدالتي برعت طلاوة وجهها

ورد طري من رياض جنان

الورد في بستان غانية الحمى

والنرجـس والريان مجتمعان

       في وصف القلب:

حجر أصم فؤادها وزجاجة

قلب الذي هو في المحبة فاني

فـفؤادهـا في الانشراح لأنه

ضرر على أوان يلـتقـيان(1)

       ويقول في قصائده الأخرى التي هي من غير هذه المجموعة أي «مرآة الجمال»:

أرخـى علي السـتـر ليل داج

يا شمس أين كرامـة الإبـلاج

لاغرو إن شغف الغلام بحبها

إن الفـراش لـمغرم بسراج

يـا أيها الحـذاق في فن الهوى

أبقـاكم الرحمن أين علاجـي

يا ليتني أمـسي نسيمـاً ساريا

حتى يهون علي طي فجاجي

مالان قط فؤادها بلجاجتي

ويلين الحجر الأصم لجاجي

وكذلك يقول في موضع آخر:

لا اشتكـي والله من جفـواتـها

أنـا طالـب للذات لا لصفاتهـا

يـا لـلعـناية إن أتت بـإساءة

يا لـلكرامـة إن أرت حـسناتها

رمت الشفاء من السقام بسرحها

فمرضت طول العمر من لحظاتها

قلبـي زجاج وقلـبها حجر وإن

لقـيا فـلا مـنجاة لآفـاتـها

يمشـي على الفلك المحـدود مائلا

من يشرب الأقداح من خـمراتها(2)

       وكذلك نجد «آزاد» أنه يجيد الرثاء أيضاً حيث يقدم أمام القارئين والسامعين تصويرًا واضحاً لما يتدفق به قلبه من عواطف الحزن والألم، ويعبر عن مشاعره وأحاسيسه تعبيرًا دقيقاً، يتجلى هذا في قصيدة له يرثي بها أستاذه السيد طفيل محمد الأترولوي:

يا للأحـبة ساروا فـي التباشـير

فاسـود يـومي كأحـداق اليعاقير

نـحن الجسوم هم الأرواح فارتحلوا

وخلفـونا  كأمـثال التـصاويـر

لقد أجبـنا بأنواع الدموع مـتـى

غـني الحـداة بأقـسام المـزامـير

كـم من قلوب رقاق إثر عيـسهم

يا حاوي العيس رفـقاً بـالقوارير

عجبت منهم قضوا بالبين واعتذروا

أيسـكن القلب عن تلك المعاذيـر

………………………………

……………………………الخ(3)

       ثم إننا نجد «آزاد» أن قريحته كانت معمورةً بالحب الوطني إلى حد كبير، كما يتحدث الأستاذ «أبومحفوظ الكريم» المعصومي: «يحب وطنه ويتفانى في الإشادة بذكره، وذلك هو الدافع الذي بعثه على أن يقول: إن أول أرض أشرقت بنور محمد صلى الله عليه وسلم بعد جزيرة العرب، إنما هي أرض الهند، وهو بعد ما يبذل قوته الأدبية والكلامية في مدح بلاد الهند وتفوقها وفضلها على سائر البلاد والأصقاع في كتابه «سبحة المرجان»(4).

       وهو ينشد قائلاً:

قـد أودع الخـلاق آدم نـوره

مـتلالأ كالكوكـب الـوقاد

والهنـد مهبـط جدنا ومقامـه

قول صحـيـح جيدا الأسنـاد

فسواد أرض الهند ضاء بداية

من نور أحمد خيرة الأمجـاد(5)

       ويمدح وطنه العزيز في موضع آخر:

إن تبـتـغوا ماء الحياة فذلكم

في الهند لا في موضع الظلمات(6)

       ومما يستحق الذكر أن كلّاً من هذه القصائد من المدحية أو الرثائية أو الغزلية إن دلت على شيئ حسب معناها المرادي فإنما تدل على براعة «آزاد» في استخدام ألفاظ رشيقة وتراكيب نادرة، وفي الإتيان بمعاني بديعة، وفي ابتداع أساليب مبتكرة، حيث تروق السماع وتجذب القلوب، وعندما نستعرض هذه وما عداها من كلامه الشعري استعراضاً دقيقاً من الناحية الفنية وجدناها متصفةً بالزخارف والصنائع اللفظية والمحسنات البديعية، ولعلي لا أحيد عن الصواب إن أقول إن أكبر ميزة لأشعار آزاد العربية، هي أنها مصبغة بطبيعة الثقافة الهندية، وأسلوبها يتقارب أسلوب أشعار الشعر اء الذين تأثروا باللغة الفارسية والهندية والسنسكريتية وبثقافاتها، ونهلوا من ينابيع كل من آدابها. فإن «آزاد» قد أدخل في كلامه العربي كثيرًا من الألفاظ والمصطلحات والأساليب الفارسية والهندية والسنسكريتية، وكذلك أنه استخدم كثيرًا من الصنائع والبدائع التي كانت شائعةً في الشعر الفارسي ولم تكن معروفةً في الشعر العربي، كما أنه اتخذ قوالب الشعر الفارسي من البحور والقوافي وامتزج بينها وبين قوالب الشعر العربي. وقد يشير إلى ذلك الأستاذ الدكتور أسلم الإصلاحي: «إن آزاد لم يهتم في إنتاجاته الشعرية بالصنائع والبدائع اللفظية فحسب؛ بل إنما أتى فيها بحظ وافر من الأفكار والأساليب الهندية منحرفاً عن التقليد المحض، فنظرًا إلى هذا يمكن لنا أن نقول إن آزاد قد أضاف باباً جديدًا في الأدب العربي»(7).

       قصارى القول: إن آزاد يتميز من بين شعراء العربية بأنه مزج بين الآداب الأربعة وهي العربية والفارسية والهندية والسنسكريتية؛ لأنه كان قادرا كاملاً ومتمكناً تاماً من هذه الآداب كلها، حتى أصبح كلامه العربي لا يخلو من أثر آداب أخواته من الفارسية والهندية والسنسكريتية في أي حال من الأحوال، وشعره العربي ثري بمبتكرات التصور وملكة الخيال على منوال الأدب الفارسي والهندي.

       وقد استعرض بعض العلماء كلامه الشعري استعراضاً انتقادياً، ووجهوا إليه بعض انتقادات لاذعة من أهمها أنه اهتم في كلامه العربي بالأساليب العربية المحضة، وأنه مزج في شعره من عناصر عجمية على نحو أن أصبح من المستحيل أن يفهمه العرب، وشعره معقد بغوامض الصنائع والبدائع، وما إلى ذلك…… لذلك لا يليق كلامه أن يعتبر صاحبه شاعرًا عظيماً. ومن مقدمة هؤلآء النقاد الأستاذ أبو محفوظ الكريم المعصومي، و العلامة شبلي النعماني، فانتقد الأستاذ المعصومي قائلاً: «إن أبرز شيئ يعد ميزة شعر العلامة «آزاد» وجهة نظر الشعر الهندي قد يكون ذلك أكبر عيب في كلامه من وجهة نظر الشعر العربي، دخلت في شعر «آزاد» تعبيرات هندية، حتى أصبح كلامه لا يخلو منها في أي حال من الأحوال؛ ولذلك لا نجد في كلامه أساليب عربيةً»(8).  ويقول العلامة «شبلي النعماني» انتقادًا عليه: «ولو أن آزاد يمتاز بكثرة كلامه العربي والفارسي ولكن كثرته في الحقيقة وصمة على وجه كماله، ولاشك أن آزاد كان حائزًا على منصب عال في العلم والأدب وكان أديباً بارعاً للغة العربية وآدابها، ومتطلعاً على الكتب الأدبية النادرة والمحاورات العربية الجيدة؛ ولكنه بالرغم من ذلك فإن العناصر العجمية كانت سيطرةً على كلامه العربي إلى حد أن تعذر عليه أن يسمى عربياً، وهو يفتخر بأنه أدى دورًا كبيرًا في نقل الأفكار العجمية إلى اللغة العربية، ولكن النقاد الفهام يعرفون جيدًا بأن مثل ذلك لايعتبر من مهارات الفنان»(9).

       فقد نجد في هذه الانتقادات نوعاً من التعديات والتجاوزات عن أصول النقد وميزانه؛ لأن هؤلآء النقاد لم تدركهم الحقيقة أن آزاد لم يكن من شعراء الجاهلية أو من شعراء صدر الإسلام كما أنه لم يكن من الشعراء الذين برزوا بعد النهضة العربية، فقد عاش «آزاد» في العصر التركي الذي يعد عصر الانحطاط بالنسبة للأدب العربي، فمن الظلم أن نحكم على شعر «آزاد» بمقاييس العصور السابقة أو اللاحقة لعصره، وإنما يجب أن نحكم عليه بمقاييس عصره، وإذا قارننا شعره مع أشعار من عاصروه، لوجدناه أفضل منها جودةً ورائقةً، يقول الأستاذ «عبد المقصود شلقاني» متحدثاً عن العصر الذي نحن بصدده: «إذا كان الشعر العربي في بلاد العرب قد أصابه الوهن وانحط إلى الركاكة في العصر المملوكي والتركي …… فقد كان نظراءهم في الهند بمعزل عنهم وإن أصابهم من البديع ….. بيد أن معانيهم بقيت قويةً عميقةً ……(10)

       وهكذا قضية العجمة في شعره هي أيضاً قضية، نجد فيما قيل بهذا الشأن المبالغة، فإذا نظرنا إلى انتقادات المقذوفة إليه، يبدولنا أنه لم ينظم شعرًا يجرد عن العجمة، مع أن الأمر ليس كذلك، ولاشك في أن أثر العجمة شيئ طبيعي في شعراء الأعاجم ـ وخاصةً في ذلك العصر الذي لم تكن توجد فيه تلك التسهيلات التي نتمتع بها الآن لتبادل الاتجاهات الأدبية والإنتاجات العلمية ـ فطبعاً لايخلو شعر «آزاد» من هذا النقص؛ ولكن هذا النقص لايمثله إلا جزءًا يسيرًا لديوانه، مثله كمثل الفلفل في الإدام، أما أكثره فقد جرى على منوال الشعراء العرب لفظاً ومعنىً وحفاوةً وطراوةً، وأما ما قيل عن عدم اهتمامه بالأساليب العربية، فهو أمر واقعي ـ لسبب سبق ذكره من عدم توفر التسهيلات للتبادل الأدبي والعلمي ـ ولكن «آزاد» لم يكن منفردًا في هذا المجال؛ بل الأسقام المتعدية هذه قد كانت عامةً حتى في كبار الشعراء العرب أيضاً، يقول العلامة «عبد الرحمن بن خلدون» متحدثاً في شأن المتنبي والمعري: «كان الكثير ممن لقيناه من شيوخنا في هذه الصناعة الأدبية يرون أن نظم المتنبي والمعري ليس هو من الشعر شيء؛ لأنهما لم يجريا على أساليب العرب من الأمم»(11).

       وأخيرًا، من الأحسن لنا بهذا الصدد أن نقول إن عوامل العصر والبيئة، لابد من مراعاتها عند الانتقاد على الإنتاجات السابقة في الماضي؛ لأن مثل هذه المراعاة من أهم مقومات النقد الأدبي.

       1 – ولعل صاحب «نزهة الخواطر» عثر هنا في ضبط سنة ولادته، فإنه ذكر أنه ولد في سنة عشرة ومائة وألف. (نزهة الخواطر، ج6، ص:208) والحقيقة دون ذلك؛ لأن السيد «آزاد البلكرامي» كتب بنفسه في كتابه «سبحة المرجان»: «أولاني الله خلعة العناصر وأراني بعنايته عالم المظاهر في الخامس والعشرين من صفر يوم الأحد سنة ستة عشر ومائة وألف بمحروسة بلغرام» ص:298-299.

*  *  *

الهوامش:

(1)        السبعة السيارة، ص: 94-105.

 (2)       نفس المصدر، الديوان الثاني، ص: 72.

(3)        السبعة السيارة، الديوان الأول، ص: 25.

(4)        مجلة ثقافة الهند، ج17، العدد:1، ص:102.

(5)        سبحة المرجان، ص: 57.

(6)        نفس المصدر، ص:58.

(7)        «هندوستان مين عربي ادب اور علوم اسلاميه كى تدريس وتحقيق» للأستاذ عماد الحسن الفاروقي، ص:141.

(8)        مجلة  ثقافة الهند، المجلد17، العدد1، ص:107.

(9)        مقالات شبلي، ج5، ص:122.

(10)      مجلة الأزهر، ص:692 (أغسطس1975)

(11)      مقدمة ابن خلدون، ص:573.

*  *  *


(*)   الباحث في مركز الدراسات العربية والإفريقية بجامعة جواهر لال نهرو، نيو دلهي.

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم  ديوبند ، جمادى الأولى – جمادى الثانية 1433 هـ = أبريل – مايو 2012م ، العدد : 5 – 6 ، السنة : 36

Related Posts