دراسات إسلامية
بقلم : محمد أبرار كليم القاسمي(*)
العبادة في اللغة: الذل ، يقال : طريق معبّد ؛ إذا كان مذللاً قد وطئته الأقدام ، والعبادة شرعًا: هي الخضوع والانقياد التام، والتجرد الكامل لرب العالمين ، وهي عبارة عن كل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة ممزوجة بمشاعر الذل لله عز وجل ، وبناء على هذا المفهوم يتبيّن لنا أن كل عمل نافع ابْتُغِيَ به وجهُ الله تعالى عبادة ، وهذا التعريف أدق وأشمل ، فالدين كلّه داخل في العبادة .
إن العبادة هي الغاية المحبوبة لله تعالى والمرضية له وهي حق مقدم على سائر الحقوق ، فالذي خلق ورزق وأنعم ، هو يستحق أن تتوجه إليه القلوب، وتعنو له الوجوه بالعبادة تحقيقًا للغاية التي من أجلها خلق الإنسان، «وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُون» (الذاريات، الآية:56) و بها أرسل جميع الرسل ، قال الله تعالى : «وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أَمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ (النحل، الآية:36).
والعبادة تتضمّن المحبة والرجاء والخوف ولابد من اجتماعها ، فعبادته تعالى بالحب فقط، هي طريقة منحرفي الزهاد ، وعبادته بالرجاء وحده طريق المرجئة ، وعبادته بالخوف فقط طريقة الخوارج ، والمحبة المجردة عن الخضوع لا تكون عبادةً، كما أن الخضوع المجرّد عن المحبة لا يكون عبادةً؛ ولهذا لا يكفي أحدهما عن الآخر في عبادة الله؛ بل يجب أن يكون الله أحبّ إلى العبد من كل شيء.
إن الروح الإنسانية لا تشبع إلا بالقرب من الله تعالى، وذلك لا يتحقق إلا بالعبادة الصحيحة، فالمسلم يعبد الله بلسانه ذاكرًا وببدنه مصليًا صائمًا، وبقلبه خاشعًا راجيًا وبعقله متفكّرًا، وبحواسّه جميعها مستعملاً لها في عبادة الله تعالى.
يقول «الحسن البصري» رحمه الله: «لم أجد شيئًا أشدّ من الصلاة في جوف الليل ، فقيل له: ما بال المتهجدين أحسن وجوهًا ، فقال : لأنهم خلّوا بالرحمن : فألبسهم من نوره ، وهي المرأة القوّامة العابدة رابعة البصرية كانت تقضي طول الليل بالعبادة ، فإذا طلع الفجر هجعت إلى مصلاها هجعةً خفيفةً حتى يسفر الفجر وتقول: يا نفس كم تنامين ؟ وإلى كم تقومين ؟ يوشك أن تنامي نومة لا تقومين منها إلا لصرخة يوم النشور.
وقال ابن القيم رحمه الله :
وعبادة الرحمن غاية حبه
مع ذل عابده هما قطبان
وعليهما فلك العبادة دائر
ما دار حتى قامت القطبان
والعبادة لا تسمى عبادةً إلا إذا كانت خالصةً لله ليس فيها شرك ولا رياء ولا نفاق ، فَاعْبُدِ اللهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (الزمر، الآية:2)، كما أن الصحابة والسلف الصالحين قد التزموا بالعبادة والطاعة مع المداومة عليها ، فإذا أظلم عليه الليل سمع لهم نشيج من البكاء وإذا أسفر الصبح كانوا أسودًا في الشجاعة ، أحسّوا لذة العبادة ، فخشعت قلوبهم ، وذرفت عيونهم ، وسجدت جباههم واطمأنت لهم بردًا وسلامًا.
والعبادة ليست مقصورةً على الإتيان بالأركان الخمسة والمشاعر؛ بل تشمل كل حركة ترتقي بها الحياة ويسعد بها الناس، بل كل عمل نافع يقوم به المسلم لخدمة المجتمع أو مساعدة الناس فهي عبادة.
وقد علّمنا النبي صلى الله عليه وسلم حقيقة العبادة وطريقتها في كل لحظة من لحظات حياته في سرها ونجواها ، فكان يعبد الله كأنه يراه ، لا يغفل عنه في نومه ، فكانت عيناه تنامان وقلبه يقظان ، ويقضي الليل بالعبادة والصلاة حتى تتورّم قدماه ويقول : أفلا أكون عبدًا شكورًا .
وإن المؤمن ليجد في عبادته ساعة الشدة سكينةً لنفسه وأنسًا لوحشته ، وانشراحًا لصدره كما قال الله عز وجل : «وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرَكَ بِمَا يَقُولُون فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السّٰجِدِيْنَ وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّىٰ يَأْتِيَكَ الْيَقِيْنُ» (الحجر، الآية: 97-99).
فما أحرى بنا نحن المسلمين أن نشمر عن ساعد الجد في العبادة الخالصة لرب العالمين ونستقيم على المنهاج المبين قوله تعالى: «قُلْ إِنَّ صَلوٰتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لله رَبِّ الْعٰلَمِينَ»(الأنعام، الآية:162) .
وعندئذ يشعر المؤمن رقابة الله في كل أقواله وفعاله ، ويصبغ قلبه وعقله وحواسه جميعًا بصبغة نورانية إلهية ، «صِبْغَةَ اللهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عٰبِدُوْنَ»(البقرة، الآية:138).
* * *
(*) أستاذ مادتي الدراسات الإسلامية واللغة العربية – بدولة الكويت.
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، جمادى الأولى – جمادى الثانية 1433 هـ = أبريل – مايو 2012م ، العدد : 5 – 6 ، السنة : 36