دراسات إسلامية

بقلم :    أ. د / أبو اليسر رشيد كهوس (*)

       منذ أكثر من خمسة عشر قرناً، والمسلمون يسمعون عن كرامة الإنسان، والمساواة بين الناس، والتكافل والتراحم بينهم؛ بل إن المسلمين منذ شروق شمس النبوة المحمدية ونزول رسالة القرآن الخالدة، وهم يقرؤون آيات الكتاب العزيز، وأحاديث الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم ترشدهم، وتهديهم إلى هذه المعاني السامية.

       لكن هناك من بني جلدتنا من تغريه المصطلحات والمبادئ البراقة، وينخدع بالشعارات، فينحـط مَعَ المعوَّقين المعطوبين قلبياً، وينساق وراء تمجيد الغرب والثناء عليه، وأنه من أهل السبق في الإعلان عن «حقوق الإنسان». فهنا يكمن الخطر.

       وإن الضرر كل الضرر على مجتمعاتنا المسلمة، حين تلهث وراء الشعارات الحقوقية التي تأتيها من كل حدب وصوب، وتتناسى مفاهيمها الإسلامية ومبادئها الثابتة.

       إن حقوق العباد في حقيقة الأمر هي مقاصد الشريعة، أو مقاصد الدين، وإن مقاصد الدين هي الحفاظ على تلك الحقوق.

       لذلك اعتبر الإسلام الاعتداء على هذه الحقوق جريمةً كبرى، وعظم أمرها، كما أنه لم يدع أمر تحديد العقوبة لرأي البشر واجتهادهم، وإنما نص على الجريمة ونص على العقوبة وحددها، وما العقوبات الحدية في الإسلام، أو العقوبات المنصوص عليها، إلاّ حماية لهذه الحقوق الإنسانية الأساسية وراجعة إليها.

       فالإسلام اليوم يظهر وينتشر بقوة مبادئه، وسلامة معاييره، وبعدها عن التحيز، ورصيدها في الفطرة الإنسانية، وتحقيقها لكرامة الإنسانية.. ولعل الإشارة إلى بعض المنطلقات الأساسية لحقوق العباد، تفسر لنا انتشاره وظهوره المستقبلي على الدين كله.

       عل عكس الغرب، فهم يركزون في شعاراتهم على «حقوق الإنسان»، لكنهم يهملون كيان الإنسان وروحه وجوهره، حتى أصبحنا أمام إنسان الحقوق لا أمام حقوق الإنسان، ثم تضخيمهم للبعد الفردي على البعد الجماعي لحقوق الإنسان، إلى غير ذلك من القيم المقلوبة.

       في حين تهدف شريعة الإسلام إلى تحقيق السعادة للإنسان في الدنيا لتحقيق خلافته في الأرض، فجاءت أحكامها لتأمين مصالحه، وهي جلب المنافع له، ودفع المضار عنه، فترشده إلى الخير، وتهديه إلى سواء السبيل، وتدله على البر، وتأخذ بيده إلى الهدي القويم، وتكشف له المصالح الحقيقية، ثم وضعت له الأحكام الشرعية لتكون سبيلاً ودليلاً لتحقيق هذه المقاصد والغايات، وأنزلت عليه الأصول والفروع لإيجاد هذه الأهداف، ثم لحفظها وصيانتها، ثم لتأمينها وضمانها وعدم الاعتداء عليها.

       والناظر في تاريخ حقوق الإنسان عند الغرب يجد أن المدة التي مضت على صدور الإعلان العالمي لحقوق الإنسان 63 سنة فقط، في حين مضى على مصدر حقوق الآدميين في الإسلام – نزول القرآن الكريم- 1446 عاماً. والقرآن الكريم والحديث النبوي الشريف وعمل الخلفاء الراشدين قد تضمن من حقوق العباد ما لم يخطر ببال أحد من الناس، ابتداءً من وجود الجنين في بطن أمه إلى أن يوافيه الأجل. أضف إليه حقوق الأسرة والمجتمع والأفراد والدولة.

       وفضلاً عن ذلك، فإن قانون حقوق العباد في الإسلام الذي لا يعتريه النقص، قد طبق فترةً طويلةً من الزمن في مجتمع العمران البشري الأخوي الأول في عهد سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي عهد خلفائه الراشدين من بعده رضى الله عنهم، فأسعدت العالم الذي استظل بظلها: مسلمه وكافره، نساءه ورجاله، كباره وصغاره، ولا تزال تنتظر من يطبقه بصدق لتنعم الأمم بها كذلك.

       وهنا أجمل أهم الحقوق التي خولها الإسلام للعباد في الآتي:

أولاً- حق معرفة الله تعالى:

       لقدْ خلقَ اللهُ سبحانَهُ وتعالَى العبادَ بقدرته الغَالِبَة وإرادتهِ البَالِغة، وَبَيَّنَ فِي كتابِهِ الكريمِ أسبابَ خَلْقِهِمْ، وأوجَبَ عليهمْ حقوقًا لذاتِهِ العليَّةِ وهِيَ كثيرةٌ، مَا كانَ عَلَى العبادِ إلاَّ أنْ يَمتثلُوا أمرَهُ رغبةً في ثوابه ورهبةً من عقابه.

       وقد لخص الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم هذا الجانب من الحقوق وما لها من مقابل عند الله، فعَنْ مُعَاذ رضى الله عنه قَالَ: كُنْتُ رِدْفَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلَى حِمَارٍ يُقَالُ لَهُ عُفَيْرٌ فَقَال: « يَا مُعَاذُ، هَلْ تَدْرِى حَقَّ الله عَلَى عِبَادِهِ وَمَا حَقُّ الْعِبَادِ عَلَى الله؟». قُلْتُ اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: «فَإِنَّ حَقَّ اللَّهِ عَلَى الْعِبَادِ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلاَ يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَحَقَّ الْعِبَادِ عَلَى اللَّهِ أَنْ لاَ يُعَذِّبَ مَنْ لاَ يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا». فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَفَلاَ أُبَشِّرُ بِهِ النَّاسَ قَالَ: «لاَ تُبَشِّرْهُمْ فَيَتَّكِلُوا»(1).

       لقد كانت الخطوة الأولى للإسلام هي تحرير الإنسان من كل ما يضعف إرادته الحرة، في داخل نفسه ومن خارجه، وتحريره من كل عبودية غير عبوديته لله تعالى.

       والمسلمون جميعاً، بمجرد إسلامهم، يجب أن تتحرر إرادتهم من الخضوع لغير الله عز وجل، ومن هنا تبدأ العبودية لله تعالى وحده.

       ويقتضي الإسلام لله: الانقياد له وتوحيده والثقة به، وإحسان الظن به، والاذعان لما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم من عند ربه، وطاعته وعبادته، وإحسان هذه العبادة بإقامة شرائعه لتتم بصدق وإتقان وضمير حي يقظ، سواء في السر أم العلن، في المنشط أم المكره. يقول الحق جل وعلا: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ﴾ [الإسراء: من الآية 23]، ويقول عز من قائل: ﴿بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾[سورة البقرة: 112]. ويشرح القرآن الكريم هذا الإحسان في قوله عز وجل ينبه إلى مدى علمه بما يفعله الإنسان: ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِير﴾[سورة الحديد: 4]، عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن أفضل الإيمان أن تعلم أن الله معك حيثما كنت»(2).

       وعليه، فإن أول حق من حقوق العباد؛ هو أن يعرفوا خالقهم ورازقهم، يقول الله جلّ جلاله: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذريات: 56].

       إن كتاب الله عز وجل كله بلاغ، كله رسالة للخلق: فحواها ومنطوقها ومفهومها مركزة على الإخبار بالمصير. وظيفة الرسل عليهم السلام، ووظيفة الدعاة بالتبعية، أن ينذروا باليوم الآخر ويبشروا. فمن قَبِلَ البِشارة وصدق بالنذارة وذكر الله وعبده واندمج قلبياً في سلك عباد الله المتقين حتى صار من أهل الإيقان بالحياة الأبدية فقد خرج من الظلمات إلى النور. قال الله عز وجل في أول سورة إبراهيم: ﴿الٰر كِتٰبٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ﴾ [إبراهيم:1].

       وفي السورة: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآياتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ الله إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ﴾ [إبراهيم:5].

       في آخر سورة إبراهيم لقَّن الله تعالى سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم مضمون النذارة ونص البلاغ قال: ﴿وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوْا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ* وَسَكَنْتُمْ فِي مَسٰكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ* وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ الله مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ* فَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ الله عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ* يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمٰوٰتُ وَبَرَزُوا لله الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ* وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ* سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ* سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ* لِيَجْزِيَ اللهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ* هَذَا بَلٰغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ [إبراهيم:44-52].

       هذا هو البلاغ عن حق الإنسان الأسمى. هذا هو التخويف من فوت فرصة العمر، وضياع هدف الحياة، وحسرة الأبد. وما ترك الله عز وجل وجهاً من وجوه التبليغ إلا عرضه، من وصف يخاطب خيال الإنسان، وتبصيرٍ يخاطب عقله، و«تقرير» عن حال المقرَّنين في الأصفاد يؤْلم حِسه، وتأكيد على أن وعدَه سبحانه رُسُلَه لا يتخلف.

       فذروة سنام حقوق العباد عندنا، وأم الحريات، ومنبع الكرامة، تحرير الإنسان من كل عبودية غير العبودية لله رب العالمين لا شريك له.

       ومن حق الإنسان في معرفة ربه وخالقه تنبثق سائر الحقوق. بمعرفته لله رب العالمين وربه يكون حق الآخرين عليه واجباً دينياً يؤديه بإخلاص ووفاء، عبادة يعبد بها ربه، لا تعاملاً مع القانونية البشرية.

       هذا الإنسان الشارد من ربه الجاهل بخالقه لا تجد من يرفع عقيرته احتجاجاً على هضم حقه الأول، حقه في معرفة حقيقة وجوده، ومآله ومعناه.

فمعرفة الله تعالى وعبادته والخضوع له، هي الحق الأسمى والخالد للإنسان الذي أُمر أن يكون عبدًا لله عز وجل، عاملاً للقائه، آملاً في جزائه وجنته، خائفاً من عقابه وناره. هذه هي كرامته الآدمية، كل حق يطالِبُ به ما دون ذلك من حقوق الدنيا، فهو له حقٌّ شرعي إن كان نيلُه يقربه من غايته الأخروية. ومن حقه أن يجاهد عليه مَانعَه. وكل «حق» من «حقوق الإنسان» يُلهيه عن آخرته، فهو حظ من حظوظ النفس، لا يبالي به أهل الإيمان إلا من حيثُ كونُه مستضعفاً في الأرض تجب نُصرتُه. ينصره الإسلام ليُسمعَه في مَأْمنهِ بَلاغَ الإسلام.

       تسطَّح الخطاب الإسلامي، وسكت عن البلاغ الأخروي، وجارَى جوقة حقوق الإنسان في حَلَبَتها. فما شئت من بناء حضاري وسبق ثقافي وحديث عن خلافة الإنسان في الأرض ليعمُرَها بإبداعاته وإنجازاته. وصَهْ عن نبإ الآخرة حتى ندخل المسجد أو نحضرَ جنازةً!

       إنه انخناس في المِثْلية البشرية، وخضوع للهيمنة الثقافية الدوابية. إنه طغيان العقلانية الملحدة على روحانية الإنسان وقلبه يَحْرِمه من حقه الأسمى، من آدميته التي لا تتحقق إلا بمعرفة الله عز وجل. وتعطيلُ العقل عن وظيفته في تلقي الشريعة وتلقي آيات الله في النفس البشرية، وفي الجسم البشري، وفي الآفاق، يؤدِّي إلى ضُمور القلب، وتطرُّفِ الروحانية، وخُرافية التفكير، ومن ثم إلى الجهل والجاهلية. فمن حق المسلم أن لا يَنْطَمِس نُورُ قلبه بتألق عقله، وأنْ لا يُطفأ مصباحُ عقله بأوهامه النفسية.

ثانياً- حق الحياة وسلامة البدن والعقل والعرض:

       إن الحياة منحة ربانية للإنسان، وهي الحق الأول للإنسان، وبه تبدأ سائر الحقوق، وعند وجوده تطبق بقية الحدود وعند انتهائه تنعدم الحقوق.

       ويعتبر حق الحياة مكفولاً بالشريعة لكل إنسان، ويجب على سائر الأفراد أولاً والمجتمع ثانياً والدولة ثالثاً حماية هذا الحق من كل اعتداء، مع وجوب تأمين الوسائل اللازمة لتأمينه من الغذاء والدواء والأمن من الانحراف.

       إن الإنسان في ديننا الحنيف أكرم الكائنات وأشرفها، منحه نعمة العقل والتفكير والتدبر، فكرامته تستند إلى نظرية متكاملة، وهذا ما يميزها عن المفهوم الغربي القاصر.

       إن أسباب تلك الكرامة ومضمونها، واضحة في تسخير ما في السماوات والأرض لخدمة الإنسان.

       ومن آثار هذه الكرامة، أن حياة الفرد في قيمتها تكاد تتساوى مع حياة النوع البشري واستمراره، يقول الله تعالى : ﴿مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا﴾ [سورة المائدة ، الآية 32]. فالاعتداء على حياة فرد من أفراد المجتمع اعتداء على المجتمع كله، وجب الاقتصاص من الجاني، ليكون عبرةً للآخرين، ولحماية المجتمع من العدوان والطغيان بغير حق.

       ومنع الشرع كل التصرفات التي تنال من حق الحياة، وسلامة البدن والعرض، أو تنقص منه، كتعذيب الإنسان، والعدوان عليه في حياته مادياً أو معنوياً، وحتى التمثيل بجثته بعد وفاته، ولو في الحرب، إذ يمتد التكريم للإنسان إلى ما بعد وفاته.

       ويدخل في حق الحياة وسلامة البدن والحواس والمشاعر،ما أوجبه الله على المسلم، من تجنب ما يضر به.

       وحرم الله أشد التحريم، تعذيب الإنسان المسلم أو انتهاك كرامته والحط من قدره، حتى بالكلمة الجارحة أو السخرية منه، وأوجب غسله وتكفينه والصلاة عليه ودفنه.

       وتكفل أحكام الشريعة الحفاظ على كيان الإنسان كله، النفس والجسد والعقل والمشاعر.

       ومن الحفاظ على عقل الإنسان في نظر الشرع الإسلامي، حرم الخمر؛ لأنها تذهب بالعقل، وتخل بالإدراك والتمييز، وحظر كل ما يؤدي إلى ذهاب العقل، أو إضعاف ملكات الإنسان الفكرية.

       ولحماية حق الإنسان في الحياة، قرر الإسلام مجموعةً من الأحكام في هذا المجال:

       1- تحريم قتل النفس بغير حق: يقول الله تبارك وتعالى: ﴿وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ الله إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصّٰكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ [الأنعام: من الآية151] وقال عز من قائل: ﴿وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطٰناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُوراً﴾ [الإسراء:33]، وقال جل ثناؤه: ﴿وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ الله إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً﴾ [الفرقان: 68].

       عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:  «اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الـْمُوبِقَاتِ». قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا هُنَّ؟ قَالَ: «الشِّرْكُ بِالله، وَالسِّحْرُ، وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ، وَأَكْلُ الرِّبَا، وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ، وَالتَّوَلِّي يَوْمَ الزَّحْفِ، وَقَذْفُ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ الْغَافِلاَتِ»(3). 

       2-القصاص: يقول الله عز وجل: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [سورة البقرة:178]، ويقول جل وعلا: ﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [سورة البقرة:179].

       3- تحريم الانتحار، والمخاطرة بالنفس، وقتلها بأي وسيلة من الوسائل كالمخدرات وغيرها: قال الله تبارك وتعالى: ﴿وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ الله كَانَ بِكُمْ رَحِيماً﴾ [سورة النساء: من الآية 29]، وقال عز وجل: ﴿وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ﴾ [سورة البقرة: من الآية195].

       4- تحريم قتل الأولاد: قال الله عز اسمه: ﴿وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ﴾ [سورة الأنعام: من الآية151]، وقال سبحانه: ﴿وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئاً كَبِيراً﴾ [الإسراء:31].

       5-إذا طغت فئة وحملت السلاح في وجه الناس وجب قتالها: قال عز من قائل:﴿وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ الله فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾ [الحجرات:9].

       6- عقوبة الحرابة: وهي عقوبة لمن قطع طريق المسلمين وكون عصابات إجرامية لسلب الأموال، وقتل الأنفس، قال الحق تبارك وتعالى: ﴿إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ الله وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَاداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ [المائدة:33].

       7- حماية حق الحياة عن طريق الجهاد القتالي: إن من بين الأهداف التي شرع من أجلها الجهاد القتالي؛ حماية حق الحياة لأفراد المجتمع. قال الله عز اسمه: ﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ الله الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾ [سورة البقرة:190].

       8- تحريم الإجهاض، وهو كقتل النفس، وحماية الأطفال والعناية بهم، وتوفير حاجياتهم.

ثالثا- حق الحرية:

       إن الإسلام يقدِّر حريَّة الفرد تقديراً لإنسانيته ولكرامته التي أكرم بها وهو في ظلمة الأرحام، إلا أنه لا يجعل هذه الحرية مطلقة من كل القيود بحيث تؤدي إلى ضياع الحقوق الشرعية الملقاة على عاتقه، بل يقيَّدها بما يكفل سعادة المجتمع العمراني الذي هو فرد من أفراده ولبنة من لبناته.

       بدأ الإسلام بتحرير الإنسان من العبودية لغير الله عز وجل، وتحريره من شهوات نفسه ونزوات غريزته.

       فالحرية كما يرى علماء المسلمين، هي قدرة الإنسان على التصرف، إلا لمانع من أذى أو ضرر له أو لغيره.

       إن الحرية قيمة كبرى في الإسلام، تسمو بالإنسان في حياته المادية والروحية، وليست انفلاتاً مما في الإسلام من قواعد السلوك الاجتماعي أو الخلقي، الذي يحفظ للمجتمع مصالحه وتماسكه.

       فلا حرية لأحد في نشر الفساد أو الرذيلة أو الفتنة في المجتمع؛ لأن الحرية لا تنزل بصاحبها إلى الشر والإفساد، ولا تبيح له أن يؤذي غيره، أو يعرض المجتمع للخطر.

       وكم قاست مجتمعات عديدة في العصر الحديث، من الانفلات، وإهدار الفضيلة، وذبحها على مذبح الشهوات، وإهدار كرامة النفس والجسد الإنساني باسم الحرية.

       فالحرية حق للإنسان، ولكنها مثل كل الحقوق، لها وظيفة اجتماعية، لا يجوز إهدارها، ولا تجاوزها، ولها ضوابطها وقيودها ومجالاتها.

       والحرية التي قررها الإسلام يمكن تصنفيها إلى أصناف:

       1- الحرية الإنسانية: وهي أن يكون الإنسان غير مملوك لأحد، إلا لخالقه ورازقه: ﴿وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهٰتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ [النحل:78].

       ومن هنا كان شعار الإنسان دائماً، يكرره في اليوم عشرات المرات، لا إله إلا الله، أي لا معبود بحق سواه، وهذا ما يقوله المسلم في صلاته كل يوم أزيد من سبع عشرة مرة في اليوم: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ [الفاتحة:5].

       2- الحرية العلمية: العبد المسلم طُلب منه أن يتعلم العلم من المهد إلى اللحد، فالإسلام فتح المجال للعبد ليتفكر في السماوات والأرض، وليتدبر في كتاب الله المنظور والكتاب المنطوق: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمٰوٰتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيٰحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيٰتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾ [ سورة البقرة:164]. 

       فالطريق أمام البحث العلمي مفتوح، وهذا ما نلاحظه اليوم من أبحاث في علوم شتى علوم الشريعة  وفي الفيزياء والفلك والحساب والاقتصاد والكيمياء والتاريخ والجغرافيا وغيرها.

       3-الحرية السياسية: وهي جزء من الحرية الإنسانية، وتتجلى في حق الأفراد في اختيار حاكمهم  وإبداء رأييهم في حدود الشرع: ﴿وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ﴾ [آل عمران: من الآية159]، ونقد الحاكم نقدًا بناءً، ورفع الشكاية من بعض الولاة والعمال، وحرية عدم إطاعة الحاكم إذا أمر بمعصية الله…

       4- الحرية الاجتماعية: كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قال تعالى: ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنٰتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلوٰةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكوٰةَ وَيُطِيعُونَ الله وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللهُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ [التوبة:71]، وقال سبحانه: ﴿يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ﴾ [لقمان:17].

       5- الحرية العقدية: قال سبحانه: ﴿لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِالله فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ [البقرة:256]، فكل إنسان يختار معتقده  وفي الآخرة سيحاسب على اختياره، إن كان خيرًا فخير وإن كان شرًا فشر.

       6- الحرية الأدبية: إن لكل إنسان ميوله، ولذاته المشروعة، ولغاته وبيئاته،  فلا يلزم الإنسان بسلوك طريق معين، ما لم يخرج عن الضوابط الشرعية: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمٰوٰتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيٰتٍ لِلْعَالِمِينَ﴾ [الروم:22].

       وخلاصة القول: إن الحرية ملكة تميز الإنسان عن غيره من المخلوقات على وجه البسيطة. خلقه الله تعالى وميزه بالعقل والإرادة، وجعل هذه الحرية مرتبطةً به في سائر شؤون حياته، وتشمل:

       حرية الذات، والتنقل وداخل الدولة وحرية مغادرته إلى أي بلد والعودة إليه، أما النفي والتغريب فإنه عقوبة لا تتقرر إلا بعد الإدانة والجريمة.

       كما تشمل حق الهجرة واللجوء وهذا حق جعله الإسلام للمضطهد للتحرر من الظلم، وحق المأوى وحق سرية المراسلات….

*  *  *

الهوامش:

(1)        صحيح البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب اسم الفرس والحمار، ح2701.

(2)        المعجم الأوسط، للطبراني، 8/336.

(3)        صحيح البخاري، كتاب المحاربين، باب رمي المحصنات، ح6465.

*  *  *


(*)          أستاذ بكلية أصول الدين / تطوان المغرب.

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم  ديوبند ، جمادى الأولى – جمادى الثانية 1433 هـ = أبريل – مايو 2012م ، العدد : 5 – 6 ، السنة : 36

Related Posts